أقول : لا شبهة في نزول آية التطهير في شأن الخمسة الطيبة صلوات
الله عليهم وقد اتفق عليه المسلمون ، وتواترت فيه روايات الفريقين ، والشأن
إنما هو في بيان معنى الآية الكريمة ، ووجه دلالتها على عصمة أهل البيت عليهم السلام ، واختصاص الإمامة بهم ، دون غيرهم من الأمة .
توضيح الكلام فيه : يتوقف على تقديم مقدمة تحتوي أمورا أربعة :
الأول : أن الإرادة على قسمين تكوينية وتشريعية ، والأول لا يتخلف
عن المراد " إذا أراد الله شيئا أن يقول له كن فيكون " والثاني لا يستلزم وقوع
المراد في الخارج ، لرجوعه إلى أمره تعالى شأنه عباده بالطاعة ، ونهيهم عن
المعصية ، ومن المعلوم أن مجرد الأمر والنهي لا يستلزم تحقق الامتثال
بالضرورة ، وإلا لأجبروا على الطاعة وترك المعصية .
والثاني : أن الرجس مطلق ما يعد قذارة ، فالمعصية مطلقا صغيرة
كانت أو كبيرة رجس ، بل الأخلاق الذميمة ولو لم تترتب عليه ، بل مطلق
متابعة الهوى ولو في المباحات ، بل مطلق ما يرجع إلى الشيطان وله مدخل فيه .
والثالث : أن النكرة وما في حكمها إذا وقعت في سياق النفي أو ما
في معناه تعم جميع الأفراد ، كما هو ظاهر واشتهر بينهم .
والرابع : أن إذهاب الرجس والتطهير على قسمين : الأول إذهابه بعد
ثبوته بسبب الاتيان بما يزيله ، كتطهير الأعيان المتنجسة بالماء ، وتطهير المذنب
نفسه من رجس الذنوب بالتوبة والإنابة ، والثاني إذهابه عن المحل بدفعه عنه ،
بسبب قوة ملكوتية قدسية ، دافعة عنه ، مانعة عن عروضه على المحل ،
والتعبير بإذهاب الرجس والتطهير حينئذ مثل قولك للحفار : ضيق فم
الركية ، ونظير قول النحاة : المبتدأ هو المجرد عن العوامل اللفظية ، وهو تعبير
شائع في العرف ، فيما إذا كان المحل في حد نفسه صالحا لعروضه عليه ،
وإنما حصل الدفع بسبب خارج عن ذاته . وإذا اتضحت لك هذه الأمور .
فاعلم أنه لا يجوز أن يراد من الإرادة في الآية الكريمة الإرادة
التشريعية ، لأن الله تعالى خلق الجن والإنس للطاعة والعبادة ، ويسرهم
لذلك ، وأمرهم به ، قال الله تعالى : " وما خلقت الجن والإنس
إلا ليعبدون " فلا وجه لاختصاص أهل البيت عليهم السلام به ، وحصر المراد في
طاعتهم ، فتعين أن يكون المراد هي الإرادة التكوينية التي لا تتخلف عن
المراد .
ثم إن الرجس الذي هو مفرد معرف باللام ، وإن كان لا يفيد العموم
في حد نفسه ، إلا أنه يفيده باعتبار وقوعه مفعولا ليذهب ، لأن الاذهاب رفعا
أو دفعا في معنى سلب الرجس ونفيه ، ولا يصدق سلبه إطلاقا إلا بانتفاء كل
فرد منه ، وأوضح منه في إفادة العموم قوله عز من قائل : " ويطهركم
تطهيرا " ضرورة عدم حصول التطهير برفع بعض الأقذار دون بعض ، وإنما
يتحقق التطهير برفع جميع الأقذار ، ودفعه عن المحل .
فتبين بما بيناه غاية التبين دلالة الآية الكريمة على عصمة
أهل البيت عليهم السلام ، وتنزههم عن كل رجس وقذر ، ذنبا كان أو غيره .
فإن قلت : الآية الكريمة إنما تدل على عصمتهم حين نزولها ، لا قبله ،
لأن الله تعالى أخبر عن إرادته في الحال ، وعبر بصيغة المضارع التي هي
للحال أو للاستقبال ، فلا تدل على عصمتهم من حين تولدهم ، كما تدعيه
الإمامية - رضوان الله عليهم - خصوصا مع التعبير بالتطهير ، وإذهاب
الرجس المتوقف على ثبوته في المحل .
قلت : إن تأليف الكلام المجيد سابق على تنزيله على خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم
فلو دل الكلام على الحال فإنما يدل على حال التأليف ، لا حال التنزيل ،
والتأليف سابق على ولادتهم عليهم السلام كما يظهر من الأخبار ، مع أن دلالة
المضارع على الحال في مثل المقام ممنوعة .
توضيح الكلام فيه : إن الفعل لا يتقوم باقترانه بإحدى الأزمنة وضعا ،
كما اشتهر بين المتأخرين من أهل العربية ، وإنما يتقوم بالإنباء عن حركة
المسمى ، كما أفاده مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ، والفرق بين أنواعه إنما هو
باختلاف أنحاء الإسناد ، فصيغة الماضي إنما وضعت لإفادة تحقيق المبدأ من
الذات ، كما أن صيغة المضارع لإفادة اتصاف الذات بالمبدأ وصيغة الأمر
لإفادة البعث على اتصاف الذات بالمبدأ ، كما يشهد به الاطراد في موارد
الاستعمالات ، واستفادة الزمان الماضي من الفعل الماضي ، والحال
والاستقبال من المضارع ، حيث استفيد منها ، إنما هي بالانصراف ،
لا بالوضع ، كما أوضحنا الكلام فيه في محله ، ولا انصراف للمضارع في
مثل المقام إلى الحال أو الاستقبال ، فإنه إذا استعمل في مقام المدح أو الذم أو
الشكر ونحوه ، إنما يفيد الاستمرار في الاتصاف ، ألا ترى أن قوله عز من
قائل : " الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون " ليس ناظرا إلى
أنه يستهزئ بهم في الحال أو الاستقبال ، ولم يستهزئ بهم في الماضي ، وإنما
يفيد أنه تعالى يتصف بالاستهزاء بهم ، لأجل نفاقهم واستهزائهم
برسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهكذا الحال في المقام ، فإنه تعالى شأنه في مقام تنزيه أهل بيت
النبوة عن الرجس ، فقوله تعالى : " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت " ناظر إلى أنه عز وجل إنما يتصف بإرادة تنزيه أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
عن الرجس ، ويستمر في هذا الاتصاف ، ولا نظر للكلام إلى أنه يتصف بها
في الحال ، ولم يتصف بها قبل ، بل تبيين ضمير المخاطب بقوله تعالى :
" أهل البيت " تنبيه على أنه تعالى شأنه إنما يريد إذهاب الرجس عنهم من
جهة أنهم أهل بيت النبوة ، وهذه الخصوصية ثابتة لهم في الماضي والحال
والاستقبال ، فلا مجال حينئذ للتفكيك بين الأزمنة ، وتعتق الإرادة بالتنزيه
في الحال ، دون الماضي .
ومما بيناه تبيين أن إذهاب الرجس والتطهير في المقام إنما هو على وجه
الدفع ، لا الرفع ، فاندفع بحمد الله تعالى ما توهمه الخصم .
هذا كله من حيث استفادتهم من الآية الكريمة بمقتضى القواعد
اللفظية ، مع قطع النظر عن الروايات المفسرة والشاهدة لها ، وأما مع
ملاحظتها فالأمر أوضح وأظهر ، فإن قوله عليه السلام في الرواية الأولى : فجعلني
من خيرها بيتا واستشهاده صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى : " إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت " يدل على أن أهل بيته كانوا من أفضل السابقين ،
واصطفاهم الله تعالى ، واختارهم على بريته ، وطهرهم من الرجس ،
وعصمهم من الزلل حين خلقهم ، كما تدل عليه الروايات المروية من
الطريقين ، الدالة على أن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه : هي
أسماء الخمسة الطيبة عليهم السلام ،) وأنه لولاهم ما خلق الله آدم ومن دونه ، إذ
لا يعقل ثبوت هذه المنزلة لهم مع عدم ثبوت العصمة لهم من أول الأمر ،
ولا ينافي ذلك ما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي أذهب عنهم
الرجس وطهرهم تطهيرا " فإنه تنبيه منه صلى الله عليه وآله وسلم على أن الابقاء على الموهبة بعد
الهبة نعمة أخرى يحتاج إلى الدعاء وطلبه منه تعالى شأنه .
وإذا تبين لك عصمة أهل البيت عليهم السلام بنص الآية الكريمة والروايات
المتواترة من الجانبين ، تبين لك اختصاص الإمامة بهم ، إذ لم تثبت العصمة
لغيرهم من الأمة ولم يدعها أحد منهم ، والإمامة تدور مدار العصمة ، لأنها
عبارة عن الرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا ، وما هذا شأنه لا يجوز أن
يتقلده غير معصوم من الرجس والزلل .
ولو قيل بعدم اعتبار العصمة في تقلد الإمامة في حد نفسه كما يقوله
العامة ، فاختصاصهم عليهم السلام بها ثابت أيضا ، إذ لا يعقل أن يكون من يتطرق إليه
الرجس والزلل مرجعا وملاذا وإماما مفترض الطاعة لمن عصمه الله من
الرجس والزلل وطهره تطهيرا ، والقول بجوازه مخالفة لضرورة حكم
العقل ، ولا يجوز أن يقال المعصوم حينئذ إمام لنفسه ، ولا يكون مأموما ،
ولا إماما للأمة لعدم التزام الخصم به ، وبطلانه في حد نفسه ، ضرورة أن
الشخص لا يخلو من أن يكون مطاعا أو مطيعا ، وخلوه عنهما مستلزم
للفساد .