|
عضو فضي
|
رقم العضوية : 82198
|
الإنتساب : Aug 2015
|
المشاركات : 1,503
|
بمعدل : 0.41 يوميا
|
|
|
|
المنتدى :
منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
عولمة التشيّع وأربعين الإنسانية
بتاريخ : اليوم الساعة : 06:41 PM

-في عصر الترابطات التكنولوجية والانفصالات الاجتماعية المتفاقمة، وفي زمن تجاوزت فيه الأزمات المشتركة حدود الجغرافيا، وتعمّقت فيه المخاوف والاضطرابات الهوياتية، يمكن للإنسانية أن تكون لغة العالم المعاصر المشتركة.
وفيما يشهد عصرنا تداعي المعاني والقيم على مستويات صنع القرار والسلطة العالمية، فإن الوجدان الإنساني هو الذي يستنهض المجتمعات قبل أي هوية أخرى.
الإنسانية.. لغة العالم المعاصر المشتركة
وفي السنوات الأخيرة، اتخذ هذا الوعي الوجداني والحراك الأخلاقي، أشكالًا جديدة وأكثر قوة؛ حراكٌ عابر للحدود ربط بين قلوب أمهات غزة المضطربة وقلوب سكان الشرق الأوسط المفجوعة، وبين الجامعات في أمريكا حتى شوارع شرق إفريقيا.
لقد أصبح صوت الضمير الإنساني اليوم أعلى من أي وقت مضى في رفض الاحتلال، والتمييز، والإذلال، والمعاناة غير المبرّرة. والمُلهم في ذلك أنّ الشباب يقفون في صلب هذه التحولات؛ أولئك الذين واجهوا أعاصير طمس الهوية في مستنقعات الحضارة الحديثة، ومع ذلك حافظوا على جوهرهم الأصيل. إنّ هذه الموجة الجديدة من التضامن والاحتجاج الإنساني بحاجة، لتبقى مستدامة وفاعلة، إلى أن تتّصل بجذورٍ عميقة ومجرّبة في التاريخ.
موجة التضامن والصلة بالمصادر التاريخية
في ظل هذه الأرضية، ليس التشيّع مجرد مذهبٍ متجذّر في تاريخ الإسلام، وإنما نموذج حضاري ومنظومة فكرية وثقافية، يفتح آفاق التحرر من عمق المأساة والألم والمعاناة بفضل ما يتمتع من رموز مثل عاشوراء والأربعين، وكذلك عبر قراءته الخاصة لشهادة الإمام الحسين (ع) وأسر السيّدة زينب (س).
هذه المدرسة وبما لديها من جلال واعد، يمكن أن يُستمع إليها ويعاد قراءتها، وتهب الكثير لإيمان وعاطفة هذا الجيل الفاعل الباحث عن الحقيقة.
لنتأمّل هندسة هذه الملحمة: سبط النبي (ص)، صحراء قاحلة، حصار جيشٍ جرّار، شمسٌ حارقة، عطشٌ، رضيعٌ ذو ستة أشهر وشيخٌ في التسعين؛ معركة غير متكافئة، رؤوسٌ على الرماح، وأجسادٌ ممزّقة، وآل الله في قبضة أفسد القوى. كل هذا العذاب الطويل لم يكن لشخص أو لقوم، بل لرفع راية الكرامة الإنسانية أبديًّا!
هذا الخلود كتبه الحسين (ع) يوم عاشوراء، ثم حملته زينب (س) في أيام الأسر، فصانه الإمام السجّاد (ع) ونقل هذا الإرث التحرري للأجيال القادمة.
وفي مثلث الحرية والصبر والدعاء، أدّى هؤلاء القادة، رسالتهم في أبهى صور الكمال والجمال، مجسّدين رمزًا خالدًا للمظلومية، والتحرر، وأعلى درجات صمود جماعة صغيرة في وجه ظلمٍ يبدو لا يُقهر، محوّلين التاريخ إلى مشهد لمحاكمة الظلم.
في هذا النموذج، لا يُحتسب النصر والخلود بالعدد والعدّة، بل بـ “الحقيقة” و”الكرامة”. فهل ثمّة من يستطيع تقديم نموذج أسمى من هذا النموذج؟
تعاليم التشيّع فرصة حضارية واستجابة لأزمة الهوية الراهنة
استنادًا إلى ما سبق، فإن تعاليم التشيّع ليست مجرد شعائر أو تعاليم ضمن إطار ديني ضيق، بل هي إجابات ملموسة لأزمة الهوية في عالم اليوم، وتجسيدٌ للفضائل الأخلاقية في أعلى مستويات الإدراك، ودعامة راسخة وأرضية ملاءمة للحراك الأخلاقي في العصر الحديث.
علمًا أن تحقيق هذا الأفق يتطلب مراجعة مستمرة للمفاهيم، والشعائر، والروايات، وليس التقوقع داخل قوالب صلبة.
فالمفاهيم والشعائر الدينية، إن ظلّت مجرّد استحضار للحزن التاريخي ولم تتحوّل إلى رسائل مؤثّرة، فلن يكون لها أثر يُذكر في تحوّل واستنهاض ضمير العالم العام وسيبقى التشيّع حبيس دائرته، تمامًا كما لو أنّ السيّدة زينب (س) توقفت عند حزنها على أخيها، والإمام السجّاد (ع) عند حزنه على والده، ولم يشيّدا صرح رواية كربلاء البليغة، لبقيت كربلاء مجرّد مكان في صحراء.
ولحسن الحظ، فإن هجرة الشيعة الواسعة، وانتشار الشعائر العاشورائية في أنسجة ثقافية متنوّعة، قد خلق فرصة حضارية فريدة. وإذا ما أعيد تصميم هذه الشعائر بفطنة وبالمعرفة الزمكنية، والوقوف على الحساسيات الثقافية، والنفسية، والاجتماعية للمجتمعات المضيفة، بعيدًا عن الغلو والأهواء الضيّقة، فإن التشيّع يمكنه أن يقدّم وجهه المؤثّر عند ملتقى طرق العالم.
ومثلما امتزجت شعائر العزاء الحسيني على مرّ القرون، بالتقاليد المحلية في العراق وإيران ولبنان وباكستان وأفغانستان وأذربيجان والبحرين، فإن اليوم، ومع تزايد أعداد الشيعة في الدول الإسلامية وغير الإسلامية، يُتوقع أن تقام هذه الشعائر بأسلوب ونظام يتناغم مع الروح المعنوية للتشيّع فيعزّز بعد التشيع الكوني، وكذلك لأن تكون مفهومة محليًا.
بقلم الدكتور أبو الفضل فاتح
|
|
|
|
|