المراد بالرحمة هنا: الوجود المطلق الّذي هو قسم من مطلق الوجود والمشيئة الفعلية كما ورد: (إنّ الله خلق الأشياء ]بالمشيئة[ والمشيئة بنفسها). والوجود المنبسط والفيض المنبسط الّذي فاض على كلّ الماهيات والأعيان الثابتات المرحومة بها، والفيض المقدس; لأ نّه بذاته عار عن أحكام الماهيات، كما أنّ ظهور ذاته تعالى بالأسماء والصفات في المرتبة الواحدية يسمّى بالفيض الأقدس، لا ما هو عبارة عن رقّة القلب; لأنّ استعمالها خاصّ بالممكن، يقال: فلان رحيم، أي رقيق قلبه، يعني: إذا رأى فقيراً مثلا ـ وهو ذو النعمة والسعة ـ يترحم عليه بالإعطاء.
ومن ألقاب ذلك الوجود المطلق الّذي عبّرنا به عن الرحمة: النفس الرحماني، والإبداع، والإرادة الفعلية، والحقيقة المحمّدية.
بيان مراتب الوجود:
وتحقيق ذلك: أنّ للوجود مراتب مختلفة بالشدّة والضعف: الوجود الحقّ، والوجود المطلق، والوجود المقيّد.
فالأوّل: هو الوجود المجرّد عن جميع الأوصاف والألقاب والنعوت.
والثاني: هو صنع الله وفيضه المقدس، ومشيئته الفعلية، ورحمته الواسعة، وإبداعه وإرادته الفعلية، والنفس الرحمانية، وعرش الرحمن، والماء الّذي به حياة كلّ شيء، وكلمة (كن) الّتي أشار إليها أميرالمؤمنين(عليه السلام) بقوله: (إنّما يقول لما أراد كونه: كن فيكون، لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع). وفعل الله، وبرزخ البرازخ، وغير ذلك من الأوصاف والألقاب.
والثالث: أي الوجود المقيّد، وهو أثره تعالى، كوجود العقول والنفوس، والملك والفلك والإنسان والحيوان، وغير ذلك.
أقسام الرحمة:
فإذا عرفت هذا، فاعلم أنّ الرحمة رحمانية ورحيمية، وهي مختصة بأهل التوحيد، وهم العالمون بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر، وبالجلمة: الّذين هداهم الله إلى صراط مستقيم، وعرّفهم توحيده وأنبياءه وأولياءه وما جاء به النبيون.
والرحمة الرحمانية لا تختص بشيء دون شيء، بل هي وسعت كلّ شيء، ومرحومة بها جميع الماهيات، من الدرّة البيضاء إلى الذرّة الهباء، حتى أنّ الكافر والكلب والخنزير وإبليس، وكلّ ما تراه في غاية القذارة والحقارة والملعنة أيضاً مرحومة بها; إذ تلك الرحمة أمر الله الّذي يأتمر به كلّ موجود، وكلام الله الّذي لا خالق ولا مخلوق، وفعل الله الّذي اشتمل على كلّ المفاعيل، وخطاب الله المتخاطب به جميع الأعيان الثابتة، وصنع الله الّذي كلّ مصنوع بذلك الصنع.
فمن كان له عقل صريح وقريحة مستقيمة يعلم أنّ الصانع هو الله، والصنع ذلك الوجود، والمصنوع الموجودات، وكذلك الآمر والأمر والمؤتمر، والخالق والخلق والمخلوق، والمتكلم والكلام والمخاطب، والرحمن والرحمة والمرحوم، وهكذا، وفي الحديث القدسي قال: (رحمتي تغلب على غضبي)، يعني: تعلّق إرادته تعالى بإيصال الرحمة أكثر من تعلّقها بإيصال العقوبة، فإنّ الرحمة من مقتضيات صفة الرحمانية والرحيمية، والغضب ليس كذلك، بل هو باعتبار المعصية.
وفي الحديث: (إنّ لله تعالى مائة رحمة).
أقول: كأ نّه(عليه السلام) أراد الكثرة لا تحديد الرحمة، إذ علمت أنّ رحمته تعالى صفته، وصفات الله كلّها غير متناهية، فإنّه حُقّق في موضعه أنّ صفاته الحقيقية عين ذاته تعالى، وذاته غير متناهية عدّة ومدّة وشدّة، فكذلك صفاته غير متناهية.
ثمّ إنّ الشيء في قوله: (كلّ شيء) بمعنى: مشيء وجوده، وهو الماهية: إذ هي مشيء وجودها.
والباء في قول السائل: (برحمتك... ) إلى آخره، للاستعانة، ويجوز أن تكون للسببية، وفيه إشارة إلى أ نّه مرحوم بكلتا الرحمتين.
أمّا بالرحمة الرحمانية، فوجوده ومشاعره وأعضاؤه وجوارحه جميعاً شاهدة على مرحوميته ومرزوقيته من الله تعالى، إذ ورد عن أميرالمؤمنين(عليه السلام)حين سُئل عن الرحمن، قال: (الرحمن هو الّذي يرحم ببسطه الرزق علينا، والرحيم هو العاطف علينا في أدياننا ودنيانا وآخرتنا، وخفف علينا الدين فجعله سهلا خفيفاً، وهو يرحمنا بتمييزنا من أعدائه).
بيان أرزاق الموجودات:
اعلم أنّ جميع الموجودات مرزوقة من الله تعالى، كلّ على حسب ما تقتضيه العناية الإلهية، فرزق العقول الكلّية هو مشاهدة جمال الله تعالى وجلاله، والالتذاذ بالاستغراق في تجلّياته وإشراقاته.
ورزق النفوس: اكتساب الكمالات، واقتناء العلوم والصناعات.
ورزق الأملاك: التسبيح والتهليل والتقديس، إذ رزق كلّ شيء ما به يتقوّم ذلك الشيء.
ورزق الأفلاك: هو حركاتها الدورية، وتشبّهاتها بالملأ الأعلى الوضعية.
ورزق البدن: ما به نشوؤه وكماله، على نسبته اللائقة به.