وقفة مع هذا النصّ : عرف المهاجرون القرشيّون الثلاثة ـ أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ـ هذا النصّ فاحتجّوا به على الاَنصار في السقيفة ، فأذعن الاَنصار ، وعاد القرشيّون بالخلافة ، أبو بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ مالت عن أبي عبيدة ، لا لعدم كفاءته وهو القرشيّ المهاجر ، بل لاَنّه قد توفّي في خلافة عمر ، فلمّا حضرت عمر الوفاة تأسّف عليه ، وقال : (لو كان أبو عبيدة حيّاً
____________
(1) مقدّمة ابن خلدون : 214 ـ 215 فصل 26 .
(2) صحيح البخاري ـ كتاب الاَحكام ـ باب 2 | 6720 .
لولّيتهُ)(1).. والاَمر ماضٍ مع النصّ . ولكن حين لم يكن أبو عبيدة حيّاً كاد ذلك المبدأ ـ النصّ ـ أن ينهار ، وكاد ذلك النصّ المتواتر أن يُنسى ، كلّ ذلك على يد الرجل الذي كان من أوّل المحتجّين به على الاَنصار ، عمر بن الخطاب ! إنّه لمّا لم يجد أبا عبيدة حيّاً ، قال : (لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيتُه) (2). ولمّا لم يكن سالم حيّاً ، قال : (لو كان معاذ بن جبل حيّاً لولّيتُه) (3). فهل كان سالم قرشياً ؟! أم كان معاذ كذلك ؟! أمّا سالم : فأصله من إصْطَخْر ، من بلاد فارس ، وكان مولىً لاَبي حذيفة(4) ! وأمّا مُعاذ : فهو رجل من الاَنصار الّذين أغار عليهم القرشيّون الثلاثة في السقيفة ، وفيهم عمر ، واحتجّوا عليهم بأنّ الاَئمّة من قريش ، وهيهات أن ترضى العرب بغير قريش ! هذا الكلام قاله عمر في خطابه للاَنصار في السقيفة ، ثمّ واصل خطابه قائلاً : (ولنا بذلك الحجّة الظاهرة ، مَن نازعنا سلطانَ محمّد ونحن أولياؤه وعشيرتُه ، إلاّ مُدْلٍ بباطلٍ ، أو متجانفٍ لاِثم ، أو متورّط في هَلَكة) (5)؟! إنّ تعدّد هذه المواقف المختلفة أضفى كثيراً من الغموض على عقيدة
____________
(1) مسند أحمد 1 : 18، الكامل في التاريخ 3 : 65، صفة الصفوة 1 : 367 ، سير أعلام النبلاء 1 : 10.
(2) الكامل في التاريخ 3 : 65 ، صفة الصفوة 1 : 283 ، طبقات ابن سعد 3 : 343 .
(3) مسند أحمد 1 : 18، صفة الصفوة 1 : 494، طبقات ابن سعد 3 : 590، سير أعلام النبلاء 1 : 10.
(4) سير أعلام النبلاء 1 : 167 .
(5) راجع : الكامل في التاريخ 2 : 329 ـ 330 ، الاِمامة والسياسة : 12 ـ 16 .
عمر في الخلافة ، ممّا يزيد في إرباك نظرية الخلافة والاِمامة إذا ماأرادت أن تُساير جميع المواقف ، من هنا اضطرّوا إلى الضرب على اختلافات عمر حفاظاً على صورة أكثر تماسكاً لهذه النظرية ، كلّ ذلك لاَجل تثبيت هذا المبدأ القائم على النصّ الشرعي : «الاَئمّة من قريش» . واضح إذن كيف تمّ الانتصار للنصّ على الرأي المخالف ! وواضح أيضاً كيف كان قد تمّ الانتصار لمبدأ النصّ على مبدأ الشورى ، وذلك حين رأى الخليفة ضرورة النصّ على من يخلفه ، هذا بغض النظر عن السر الذي ذكرناه في طرح نظرية الشورى ! فدخل النصّ إذن في قمّة النظام السياسي ! إذن ، ثبت لدينا نصّ صريح صحيح وفاعل في هذه النظرية ، وهو الحديث الشريف «الاَئمّة من قريش» وقد أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن والسير بألفاظ مختلفة .
ضرورة التخصيص في النصّ : 1 ـ إنّ قراءةً سريعة في تاريخنا السياسي والاجتماعي توقفنا على حقيقة أنّ النصّ المتقدّم «الاَئمّة من قريش» بمفرده لايحقق للاِمامة الاَمل المنشود منها في حراسة الدين والمجتمع . وأوّل من لمس هذه الحقيقة هم الصحابة أنفسهم منذ انتهاء عصر الخلفاء الاَربعة ، ثمّ أصبحت الحقيقة أكثر وضوحاً لدى من أدرك ثاني ملوك بني أُميّة ـ يزيد بن معاوية ـ ومَن بعده . ففي صحيح البخاري : لمّا كان النزاع دائراً بين مروان بن الحكم وهو
بالشام ، وعبد الله بن الزبير وهو بمكّة ، انطلق جماعة إلى الصحابي أبي برزة الاَسلمي رضي الله عنه فقالوا له : ياأبا برزة ، ألا ترى ماوقع فيه الناس ؟! فقال : إنّي أحتسب عند الله أنّي أصبحتُ ساخطاً على أحياء قريش ، إنّ ذاك الذي بالشام والله إنْ يقاتل إلاّ على الدنيا ، وإنّ الذي بمكّة والله إنْ يقاتل إلاّ على الدنيا (1) !! 2 ـ وأهمّ من هذا أنّه ثمّة نصوص صحيحة توجب تضييق دائرة النصّ المتقدّم.. لقد حذّر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الاغترار بالنسب القرشي وحسب ، وأنذر بأنّ ذلك سيؤدّي إلى هلاك الاَُمّة وتشتّت أمرها ! ففي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : «هَلَكَةُ أُمّتي على يَدَي غلمةٍ من قريش» (2) . كيف إذن سيتمّ التوفيق بين النصّين : «الاَئمّة من قريش» و «هَلَكة أُمّتي على يدي غلمة من قريش» ؟! أليس لقائل أن يقول : ماهو ذنب الاَُمّة ؟! إنّها التزمت نصّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
____________
(1) صحيح البخاري ـ الفتن ـ باب 20 | 6695 .
(2) صحيح البخاري ـ الفتن ـ باب 3 | 6649 ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13 : 7 ـ8. ومما يثير الدهشة أن تجد هذه الاَحاديث وأكثر منها في آل أبي سفيان وآل مروان ، تجدها في كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير تحت عنوان (إخباره صلى الله عليه وآله وسلّم لما وقع من الفتن من بني هاشم بعد موته) !! 6 : 255 ـ ط. دار التراث العربي ـ سنة 1992 م ، و 6 : 227 ـ ط . مكتبة المعارف ـ سنة 1988 م . علماً أنّه وضعها وفق ترتيبه التاريخي في أحداث العهد الاَموي!! ولعل المتهم في هذا ناسخ أمويّ الهوى غاضه ذكر بني أُمية في هذا العنوان فقلبه على بني هاشم !
«الاَئمّة من قريش» فقادها هذا النصّ إلى هذا المصير حين ذُبح خيار الاَُمّة بسيوف قريش أنفسهم ! أليس النصّ هو المسؤول ؟! حاشا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يضع أُمّته على حافة هاوية ، وهو الذي كان قد استنقذها من الهاوية . إنّهم أرادوا أن يحفظوا الرسول بحفظ جميع الصحابة وإضفاء الشرعية حتّى على المواقف المتناقضة تجاه القضيّة الواحدة ، فوقعوا في مافرّوا منه ! بل وقعوا في ماهو أكبر منه حين صار النصّ النبويّ هو المسؤول عمّا آل إليه أمر الاَُمّة من فتن ، ثمّ هَلَكة ! فهؤلاء الغلمة إنّما يكون هلاك الاَُمّة على أيديهم عندما يملكون أمر الاَُمّة ، لكنّ الاَُمّة إنْ رضيت بهم فإنّما كان اتّباعاً للنصّ الاَوّل «الاَئمّة من قريش» فهل يكون هذا إلاّ إغراء ؟! حاشا لرسول الله أن يكون ذلك منه ، وإنّما هو من علامات التهافت في هذه النظرية التي أغضت عن كلّ ماورد في السُنّة ممّا يفيد تخصيص ماورد في حقّ قريش .