ولا ندري ، لماذا تقوم قيامة البعض إذا قلنا بأن الزهراء (عليها السلام) يوحي لها ، وقد أوحى الله تعالى إلى السماوات والأرض والحشرات وهي لا تعقل ، فما وجه نفي الوحي عن الزهراء (عليها السلام) وهي بشر ، بل أفضل البشر قاضبة ؟!!
فإن من أوحى لاحجار وحشرات ، لقادر على أن يوحي لأفضل بريّته بعد رسوله (صلى الله عليه وآله) .
وإذا رجعت إلى مرويات أهل السنة لرأيت العجب العجاب في نزول الوحي على محبيهم !!!
فلنلق نظرة على كتب الحديث والسيرة والتاريخ عندهم ، لنرى كيف يدعى تحدث الملائكة مع الكثير من رجالهم :
1- أخرج البخاري في مناقب عمر بن الخطاب ، وبعد حديث الغار ، عن أبي هريرة ، وأخرج مسلم في فضائل عمر أيضا عن عائشة : أن عمر بن الخطاب كان من المحدثين .
وقد حاول شرّاح البخاري أن يأوّلوه بأن المراد أنه من الملهمين ، أو من الذين يلقى في روعهم أو يظنون فيصيبون الحق ، فكأنه حدث ... وهو كما ترى تأويل لا يساعد عليه ظاهر اللفظ .
ولأجل ذلك قال القرطبي : ((أنه ليس المراد بالمحدثين المصيبين فيما يظنون ، لأنه كثير في العلماء ، بل وفي العوام من يقوى حدسه فتصح إصابته ، فترتفع خصوصية الخبر وخصوصية عمر)) ( انظر صحيح البخاري 4 / 200 ، صحيح مسلم بشرح النووي 15 / 166 ، سنن الترمذي 5 / 581 ، ارشاد الساري شرح صحيح البخاري 6 / 99 ، و5 / 431 ) .
2- ممّن أدعي أن الملائكة تحدثهم ، عمران بن الحصين الخزاعي ، المتوفى سنة 52 هـ ، قالوا : كانت الملائكة تسلم عليه حتى اكتوى بالنار فلم يسمعهم عاما ، ثم أكرمه الله برد ذلك ( الطبقات الكبرى لابن سعد 7 / 11 ، و4 / 288 ، معجم الطبراني الكبير 18 / 107 ح 203 ) .
3- ومنهم أبو المعالي الصالح ، المتوفى سنة 427 هـ ، رووا أنه كلمته الملائكة في صورة طائر ( المنتظم لابن الجوزي 9 / 136 ، وصفة الصفوة 2 / 280 ) .
4- أبو يحيى الناقد ، المتوفى سنة 285 هـ ، رووا أنه كلمته الحوراء ( المنتظم 6 / 8 ، تاريخ بغداد 8 / 362 ) .
وأمثال هذه المرويات في كتب السنة غير قليل ، ولم يستنكر ذلك أحد ولم يتهم أصحابها بالغلو ؟!!
ومن الجدير بالذكر أن الوحي له أساليب وأغراض متعددة ، ولا تلازم بين الوحي والنبوة ، وإن كان كل نبي لابد أن يوحى إليه ، وكذلك لا تلازم بين الوحي والقرآن ، فبالنسبة للرسول (صلى الله عليه وآله) لم يكن كل ما نزل عليه من الوحي قرآنا ، فهناك الأحاديث القدسية وهناك تفسير القرآن وتأويله ، والإخبار بالموضوعات الخارجية وأمثال ذلك ، وكلها ليست قرآنا .
فاتضح أن تحديث الملائكة للزهراء (عليها السلام) لم يكن من الوحي النبوي ولا من الوحي القرآني .
وممّا يدل على عدم الملازمة بين تحديث الملائكة والنبوة ، ما رواه صاحب (بصائر الدرجات 323 ، ط مكتبة المرعشي) عن حمران بن أعين قال : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : ألست حدثتني أن عليا كان محدثا ؟ قال : بلى ، قلت : من يحدثه ؟ قال : ملك ، قلت : فأقول : إنه نبي أو رسول ؟ قال : لا ، بل مثله مثل صاحب سليمان ، ومثل صاحب موسى ، ومثل ذي القرنين . ( أما بلغك أن عليا سئل عن ذي القرنين ، فقالوا : كان نبيا ؟ قال : لا ، بل كان عبدا أحب الله فأحبه ، وناصح الله فناصحه ) (الغدير 5 / 48 ، عن بصائر الدرجات) ، إلا ان في البصائر المطبوعة سقطت هذه العبارة .
ومن الروايات الدالة على نزول الملائكة على الزهراء (عليها السلام) :
1- عن أبي عبيدة عن أبي عبد الله (عليه السلام) : ( ... أن فاطمة مكثت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) خمسة وسبعين يوما ، وكان دخلها حزن شديد على أبيها ، وكان جبرئيل (عليه السلام) يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها ، ويطيب نفسها ، ويخبرها عن أبيها ومكانه ، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها ، وكان علي (عليه السلام) يكتب ذلك ، فهذا مصحف فاطمة (عليها السلام) .
2- عن أبي حمزة أن أبا عبد الله (عليه السلام) قال : مصحف فاطمة ما فيه شيء من كتاب الله وإنما هو شيء ألقي إليها بعد موت أبيها صلوات الله عليهما .
3- عن حماد بن عثمان قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : إن الله تعالى لما قبض نبيه (صلى الله عليه وآله) ، دخل على فاطمة من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلا الله عز وجل ، فأرسل الله إليها ملكا يسلي غمها ويحدثها ، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فقال : إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي ، فأعلمته بذلك ، فجعل أمير المؤمنين (عليه السلام) يكتب كلما سمع حتى أثبت من ذلك مصحفا .
4- عن أبي بصير قال : سألت أبا جعفر محمد بن علي (عليهم السلام) عن مصحف فاطمة ، فقال : أنزل عليها بعد موت أبيها ، قلت : ففيه شيء من القرآن ؟ فقال : ما فيه شيء من القرآن ...
5- عن إسحاق بن جعفر بن محمد بن عيسى بن زيد بن علي قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : إنّما سمّيت فاطمة محدّثة لأنّ الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها ، كما تنادي مريم بنت عمران فتقول : يا فاطمة ، إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين ، يا فاطمة اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الراكعين ـ إشارة إلى الآية 42 من آل عمران ـ فتحدّثهم ويحدّثونها ، فقالت لهم ذات ليلة : أليست المفضّلة على نساء العالمين مريم بنت عمران ؟ فقالوا : إنّ مريم كانت سيّدة نساء عالمها ، وإنّ الله جعلك سيّدة نساء عالمك وعالمها وسيّدة نساء الأولين والآخرين ( البحار 43 / 78 ) .
6- عن اسماعيل بن بشّار قال : حدّثنا علي بن جعفر الحضرمي بمصر منذ ثلاثين سنة قال : حدّثنا سليمان قال : محمد بن أبي بكر لمّا قرأ : (( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ )) (الحج: 52 ) ولا محدّث ، قلت : وهل يحدّث الملائكة إلاّ الأنبياء ؟ قال : إنّ مريم لم تكن نبيّة وكانت محدّثة ، وأمّ موسى بن عمران كانت محدّثة ولم تكن نبيّة ، وساره امرأة إبراهيم قد عاينت الملائكة فبشّروها بإسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، ولم تكن نبيّة ، وفاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت محدّثة ولم تكن نبيّة ( البحار 43 / 79 ) .
والمحدّث من تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ولا رؤية صورة ، أو يلهم له ويلقى في روعه شيء من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى ، أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره ، أو غير ذلك من المعاني التي يمكن أن يراد منه .
والنتيجة : أن الوحي كان ينزل على الزهراء (عليها السلام) ، لا وحي نبوي أي يدل على نبوتها ، ولا وحي قرآني أي أنه يحمل لها آيات قرآنية ، بل وحي يوحى لها كما أوحي إلى مريم وسارة وأم موسى .