أختصاراً للكلام فيه هنا من امر الرجعة لمن ألقة السمع وهو شهيد ...
قال تعالى : { وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ * وَيَوْمَ
نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ}
لا يوجد بين المفسرّين من يشك بأنّ الآية الأولى تتعلق بالحوادث التّي تقع قبل يوم القيامة ، ويدل عليه ما روى عن النبى الأكرم من أن خروج دابة الأرض من علامات يوم القيامة ، إلاّ أنّ هناك خلافاً بين المفسرين حول المقصود من دابة الأرض ، وكيفيّة خروجها ، كيف تتحدث ، وغير ذلك ممّا لا نرى حاجة
لطرحه؟
روى مُسلم أنّه قال رسول اللّه : إنّ الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات : خسفٌ بالمشرق ، وَخَسْفٌ بالمغرب ، وخسف في جزيرة العرب ، والدخان ، والدجّال ، ودابّة الأرض ، ويأجوج و مأجوج ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونارٌ تخرج من قعر عدن ترحل الناس » (صحيح مسلم : ج 8 ، كتاب الفتن ، و أشراط الساعة ، باب في الآيات التّي تكون قبل الساعة ،
ص 179. ).
إنّما الكلام في الآية الثانية ، والحق أنّها ظاهرة في حوادث قبل يوم القيامة ؛ وذلك لأنّ الآية تركز على حشر فوج من كل جماعة بمعنى عدم حشر الناس جميعاً ، ومن المعلوم أنّ الحشر ليوم القيامة يتعلق بالجميع ، لا بالبعض ، يقول سبحانه :
{ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} ..
أفَبَعْدَ هذا التصريح ، يمكن تفسير ظرف الآية بيوم البعث والقيامة؟
وهناك قرينتان أُخريان ، تحقّقان ظرفها لنا إن كنّا شاكين ، وهما :
أوّلاً : إنّ الآية المتقدمة عليها تذكر للناس علامة من علامات القيامة ، وهي خروج دابة الأرض ، ومن الطبيعي بعد ذلك أنّ حشر جماعة من الناس يرتبط بهذا الشأن.
ثانياً : ورد الحديث في تلك السورة عن القيامة في الآية السابعة والثمانين ، أي بعد ثلاث آيات ، قال سبحانه: { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} .
وهذا يعرب عن أنّ ظرف ما تقدم عليها من الحوادث يتعلق بما قبل هذا اليوم ، ويحقّق أنّ حشر فوج من الذين يكذبون بآيات اللّه يحدث حتماً قبل يوم القيامة ، وهو من أشراط هذا اليوم ، وسيقع في الوقت الّذي تخرج فيها دابة من الأرض تكلم الناس .
ومن العجب قول الرازى بأنّ حشر فوج كل من أمّة سيقع بعد قيام الساعة (مفاتيح الغيب : ج 4، 218 ) ؛ فإنّ هذا الكلام خاو لا يستند إلى أيّ أساس ، وترتيب الآيات وارتباطها ببعضها ، ينفيه ، ويوكّد ما ذهب إليه الشيعة من أنّ الآية تشير إلى حدث سيقع قبل يوم القيامة.
أضف إلى ذلك انّ تخصيص الحشر ببعض ، لا يجتمع مع حشر جميع الناس يوم القيامة. نعم ، الآية قد تحدثت عن حشر المكذبين ، وأمّا رجعة جماعة أخرى من الصالحين فهو على عاتق الروايات الواردة في الرجعة.
وأمّا كيفية وقوع الرجعة و خصوصياتها ، فلم يتحدث عنها القرآن ، كما هو الحال في تحدثه عن البرزخ والحياة البرزخية.
ويؤيد وقوع الرجعة في هذه الأمّة وقوعها في الأمم السالفة ، كما عرفتَ ، وقد روى أبو سعيد الخدري أنّ رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال : « لَتتَّبِعُنّ سُنَنَ من كان قبلكم ، شبراً بشبر ، و ذراعاً بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموه . قلنا يا رسول اللّه : اليهود و النصارى ؟ قال: فمن ؟ » (صحيح البخاري : كتاب الاعتصام بقول النبي ، ج 9، ص 112 ) .
و روى أبوهريرة أنّ رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال : « لا تقوم الساعة حتى تُؤخذ أُمّتي بأخذ القرون قبلها ، شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ، فقيل : يا رسول اللّه : كفارس والروم ؟ قال : ومن الناس إلاّ أولئك؟ » (صحيح البخاري : ج 9، ص 102. و كنز العمال : ج 11، ج 133).
و روى الشيخ الصدوق ـ رحمه الله ـ عندنا قال : قال رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ:
« كل ما كان في الأُمم السابقة ؛ فإنّه يكون في هذه الأُمة مثله ، حذو النعل بالنعل ، والقذّة بالقذّة » (كمال الدين : ص 576).
وبما أن ّ الرجعة من الحوادث المهمة في الأمم السالفة ، فيجب أن يقع نظيرها في هذه الأُمة أخذاً بالمماثلة ، و التنزيل.
وقد سأل المأمون العباسي ، الإمام الرضا ـ عليه السَّلام ـ عن الرجعة فأجابه ، بقوله : إنّها حق ، قد كانت في الأُمم السالفة ، ونطق بها القرآن ، وقد قال رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: « يكون في هذه الأمة كل ما كان في الأُمم السالفة حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة » (بحار الانوار، ج 53، ص 59، الحديث 45).
هذه هي حقيقة الرجعة و دلائلها ، ولا يدّعي المعتقدون بها أكثر من هذا ، وحاصله عودة الحياة إلى طائفتين من الصالحين والطالحين ، بعد ظهور الإمام المهدي ـ عليه السَّلام ـ ، وقبل وقوع القيامة ، و لا ينكرها إلاّ من لم يمعن النظر في
أدلتها .