|
مشرف المنتدى الثقافي
|
رقم العضوية : 7208
|
الإنتساب : Jul 2007
|
المشاركات : 3,027
|
بمعدل : 0.48 يوميا
|
|
|
|
المنتدى :
المنتدى الفقهي
مناظرة بين الأُستاذ الشيخ جوادي آملي والأُستاذ السيد جعفر سيدان الخراساني
بتاريخ : 10-12-2013 الساعة : 09:13 PM
الإشكالية المنهجية بين العقلين: الفلسفي والتفكيكي
(نظرية المعاد الصدرائية)
القسم الأول
إعداد وتنظيم: مهدي مرواريد( )
ترجمة: وسام الخطاوي
مناظرة
بين الأُستاذ الشيخ جوادي آملي( )
والأُستاذ السيد جعفر سيدان الخراساني( )
تعدّ هذه المناظرة من أهمّ المناظرات التي وقعت بين التيار التفكيكي المعاصر الذي يعدّ السيد جعفر سيدان الخراساني من أبرز وجوهه ورجالاته، والتيار التوليفي السائد، القائل بمصالحة بل اندماج ـ بين الفلسفة والعرفان والنص، والذي يعدّ الأستاذ الشيخ عبدالله جوادي آملي من أكبر رجاله، وأكثرهم إسهاماً، وقد تناولت المناظرة ـ إضافة إلى بعض المداخل المنهجية ـ موضوعةً إشكالية بين الطرفين هي مسألة المعاد الجسماني والروحاني، مسلّطةً الضوء على نظرية الملا صدرا الشيرازي في هذا الموضوع.
وستبدو للقارئ في طيّاتها كيفية تعامل كل مدرسة من المدرستين مع الموضوعات العالقة بين النصّ والعقل (التحرير).
الجلسة الأُولى ــــــــــ
اختلاف الفلاسفة واختلاف الفقهاء والنصوص، عدم الاطمئنان إلى سبيل الفلسفة، دور أخبار الآحاد في القضايا العقديّة..
الأُستاذ سيدان:
عثرت من خلال مراجعاتي لكلمات الفلاسفة الإسلاميين المتأخرين على موارد تخالف نتائج البحوث الفلسفية المستفادة من الأصول والأدلة الشرعية، وطبيعي أن احتمال وجود قصور في فهم كلمات القوم، أو في فهم مفاد الروايات، وارد في البين.
لكن مع التأمل والتدبر، والحضور عند أهل الفنّ والمتخصّصين بكلا الجنبتين ]الفلسفة والحديث[ يتضح تخالف كلا المسلكين.
ثم عثرت على بعض اعترافات جمع من علماء الفلسفة تصرّح في بعض الموارد بهذا الاختلاف، من جملتهم المرحوم الآشتياني في «لوامع الحقائق»( )، والآملي في «درر الفوائد»( )، والخوانساري في «العقائد الحقة»( )، فقد اعترف هؤلاء الأكابر بأن المعاد الذي أثبته صدر المتألهين ومن تبعه والمسمّى عندهم بـ «المعاد الجسماني»، هو المعاد الروحاني، بشكل أدق، ممّا لا يتوافق مع المعاد المبيّن في الأدلة الشرعية.
إنّ الإذعان لهذا الأمر ــ يعني مخالفة نتيجة الطريق الفلسفي مع المستفاد من الأدلة الشرعية ــ يوجب عدم الاطمئنان للطريق الفلسفي.
والموضوع الآخر الذي نشاهده في الأبحاث الفلسفية، هو الاختلاف الكبير في كثير من المسائل بين الفلاسفة أنفسهم، وهاتان الجهتان ــ وبالخصوص الجهة الأُولى ــ أوجبتا عدم حصول اطمئنان بالطرق الفلسفية.
وبالطبع، فإن المنهج العقلائي وحجية العقل (بالمعنى الواقعي للكلمة) غير قابل للإنكار، وبالعقل يتم إثبات حقانية الوحي، وقيمة كل شيء.
أما في الموارد التي تقع خارج نطاق إمكانية العقل، بمعنى أن العقل يدرك بأنه لا يمكن له إعمال النظر القاطع والواضح فيها، أو كالمسائل المعقدة جداً، والتي وُضعت لها مقدمات خاطئة موضع المقدمات الصحيحة.. ففي هذا النحو من الموارد، لا يصح العمل بالمنهج العقلي، أو الاتكاء المطلق على المقدمات العقلية، وإن أمكن ــ أحياناً ــ حصول القطع من هذه المقدمات، فإنه لا يمكن حينئذٍ البحث مع ذلك الإنسان القاطع، اللهم إلاّ إذا طعنّا في مقدّمات قطعه، حتى يتخلّى عن حالته هذه، ولكن العقل ــ بعد توجهه الإجمالي لهذه الأُمور المذكورة ــ يعتقد أن هذا الطريق غير مأمون، ولذلك يمنع عن الورود فيه.
لهذا كان من المناسب على الفيلسوف الإسلامي ــ الذي يؤمن بالوحي ــ أن يصب ــ في هذه المواضع ــ منهجه المعرفي على الوحي، بمعنى أن يرجع مباشرةً إلى الآيات والروايات، طبعاً مع وضوح الدلالة وتمامية السند، دون أن يلجأ إلى التأويل والتطويع، ما لم تكن في حالةٍ ما قرينة قطعية أو شرعية.
ونحن نرى ــ عموماً ــ أن الفلاسفة الإسلاميين لم يسلكوا هكذا مسلك، حيث بحثوا المسائل أولاً من حيث الرؤى الفكرية والتعقلية، وقبلوا الموضوع على أساس مقدمات غير واضحة ومختلف فيها، ثم بعد ذلك ــ وبحكم انتسابهم إلى مدرسة الوحي ــ كانوا يلقون نظرةً على الأدلة الشرعية مضطرين، وفي كثير من الأحيان كانوا يقعون في تناقض؛ لأنهم يرون عدم وجود توافق بين نتائج أبحاثهم، وبين ما يستفاد من الأدلة الشرعية، ولهذا كانوا يفتحون طريق التأويل، وغالباً ما يتتبعون المتشابهات ليؤيدوا بها ما اختاروه من آراء.
ومن باب المثال مسألة المعاد، فإنهم يطرحون ذلك، كما أشرنا إليه؛ لأن العقل وحده هو القادر في هذه المسألة على طرح المناهج المختلفة، وإن كان قد يأتي بالمؤيدات الاستحسانية لبعضها، لكن الحكم القطعي على كيفية المعاد خارج عن دائرة العقل.
ولحسن الحظ، فقد اعترف جمع من العلماء المتأخرين من المتخصّصين وأصحاب النظر في المسلكين (الفلسفة والحديث)، بعدم موافقة المعاد الصدرائي للمعاد الجسماني المستفاد من الأدلة الشرعية، وإن كان القائلون بالمعاد المذكور يستشهدون على مختارهم بالآيات والروايات، إلاّ أنّ الثابت بالبحث والتنقيب أن هذه الأدلة إمّا من قبيل المتشابهات ذت الوجوه والاحتمالات المختلفة، أو لها ظهور في خلاف مدّعاهم من قبيل الآية الكريمة: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ إبراهيم: 48، وقوله تعالى: وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ الواقعة: 61، أو آية: وأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُور الحج: 7، مع التوجيه العجيب الذي أعمله صدر المتألهين، حيث قال: «وأَنَّ الله يَبْعَـثُ مَن فِي الْقُبورِ، قبور الأجساد وقبور الأرواح، أعني الأبدان»( ).
ولاستيضاح هذا المطلب أعلاه، نطالع حاشية الصفحة نفسها، حيث قال الحكيم السبزواري معلّقاً: «أعني الأبدان تفسير لكليهما، فإن الأبدان الطبيعية قبور وغلف للأجساد البرزخية والصور الأُخروية، وكذا للأرواح».
والأعجب من هذا البيان ما قاله القيصري شارح الفصوص بالنسبة إلى الآية الشريفة: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا مريم: 86، قال: «وجاء من قوله تعالى: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا.. ـــ إلى أن قال ـــ : أو أراد بالمجرمين الكاسبين للخيرات، والسالكين طريق النجاة، المرتاضين بالأعمال الشاقة، والمشتاقين لظهور حكم الحاقّة، فإنهم يكسبون بها التجليات المفنية لذواتهم»( ).
الأُستاذ جوادي:
لا ينبغي الخلط بين الطريق العقلي وبين سلاّك الطريق، فإن الطريق العقلي معصوم وإن أخطأ الأفراد السالكون فيه.
والروايات ليست على مستوى واحد، فقد تحدّث الأئمة على حسب اختلاف درجات الأفراد في الفهم.
ومن باب المثال، ما نقله الصدوق في كتاب التوحيد، باب القدرة: إن عبدالله الديصاني أتى هشام بن الحكم فقال له: «ألك ربّ؟ فقال: بلى، قال: قادر؟ قال: نعم، قادر، قاهر، قال: يقدر أن يدخل الدنيا كلها في البيضة لا يُكبّر البيضة ولا يصغّر الدنيا؟ فقال هشام: النظرة، فقال له: قد انظرتك حولاً، ثم خرج عنه، فركب هشام إلى أبي عبدالله فاستأذن عليه، فأذن له، فقال: يا ابن رسول الله! أتاني عبدالله الديصاني بمسألة ليس المعوّل فيها إلاّ على الله وعليك، فقال له أبو عبدالله : عماذا سألك؟ فقال: قال لي: كيت وكيت، فقال أبو عبدالله : يا هشام كم حواسك؟ قال: خمس، فقال: أيّها أصغر؟ فقال: الناظر. فقال: وكم قدر الناظر؟ قال: مثل العدسة أو أقل منها. فقال: يا هشام فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى. فقال: أرى سماءً وأرضاً، ودوراً وقصوراً، وتراباً وجبالاً وأنهاراً.
فقال له أبو عبدالله : إن الذي قدر أن يدخل الذي تراه العدسة أو أقلّ منها، قادر أن يدخل الدنيا كلها البيضة لا يصغر الدنيا ولا يكبر البيضة، فانكبّ هشام عليه وقبّل يديه ورأسه ورجليه،وقال: حسبي يا ابن رسول الله، فانصرف إلى منـزله»( ).
وبهذا المضمون ما رواه أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: «جاء رجل إلى الرضا فقال: هل يقدر ربك أن يجعل السماوات والأرض وما بينهما في بيضة؟ قال: نعم، وفي أصغر من البيضة، قد جعلها في عينك وهي أقل من البيضة؛ لأنك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض وما بينهما، ولو شاء لأعماك عنها»( ).
وفي هذا الباب، روى الصدوق روايةً أخرى عن الإمام الصادق قال: «قيل لأمير المؤمنين : هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن يصغر الدنيا أو يكبّر البيضة؟ قال: إن الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون»( ).
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق أيضاً، عن أميرالمؤمنين قال في جواب من سأله ذات السؤال: «ويلك! إن الله لا يوصف بالعجز، ومن أقدر ممن يلطّف الأرض ويعظّم البيضة»( ).
ونجد هنا نحوين من الجواب في هاتين الروايتين.
والأنموذج الآخر لاختلاف الجواب في المسائل الاعتقادية، ما نقله الصدوق أيضاً في التوحيد:
الرواية الأُولى: عن سعد بن سعد قال: سألت أبا الحسن الرضا عن التوحيد، فقال: «هو الذي أنتم عليه»( ).
الرواية الثانية: عن هشام بن سالم، قال: «دخلت على أبي عبدالله فقال لي: أتنعت الله؟ فقلت: نعم، قال: هات، فقلت: هو السميع البصير، قال: هذه صفة يشترك فيها المخلوقون، قلت: فكيف تنعته؟ فقال: هو نور لا ظلمة فيه، وحياة لا موت فيه، وعلم لا جهل فيه، وحق لا باطل فيه، حينئذٍ قال هشام: فخرجت من عنده وأنا أعلم الناس بالتوحيد»( ).
ومعلوم أن مستوى الكلام في الرواية الثانية أرقى من الرواية الأُولى. وقد استفاد الفارابي في برهان: «صِرفُ الشيء لا يتكرر ولا يتثنى» من هذه الكلمات والعبائر.
ولا بد من الالتفات إلى موضوع آخر وهو: أن المطلوب في باب أصول العقائد هو الجزم والاعتقاد القلبي، ولا يمكن الاستدلال بأخبار الآحاد، وإن كان خبر الواحد معتبراً سنداً ودلالة، وقابلاً للاستدلال في المسائل الفقهية؛ لأن مبنى حجية خبر الواحد الثقة أو الوسائط التي تقع سلسلتها إلى المعصوم ثابتة على كاهل الأُصول، من قبيل: «أصالة عدم الخطأ في الزيادة» و«أصالة عدم الخطأ في النقيصة».
ولا بد في كل واسطة من تطبيق هذه الأُصول حتى تتحقق الحجية. ومعلوم أنه لا يمكن الجزم بالواقع والاعتقاد به من خلال الأصل.
والخلاصة: بما أن سند روايات الآحاد ظني، فلا يمكن جعلها مستنداً للقطع والاعتقاد، وكذلك من جهة الدلالة إذا لم تكن صريحةً في مضمونها، وإنما هي صرف الظهور، فالظهور غير موجب لليقين بالمراد.
وأمّا مسألة اختلاف الفلاسفة الإسلاميين، وأنّ هذا الاختلاف أوجب عدم الاطمئنان بالطريق العقلاني، فينتقض عليه باختلاف الفقهاء فيما بينهم، مع أن مبنى الفقهاء ابتداءً هو الرجوع إلى الروايات، وإذا كان مجرد الاختلاف موجباً لعدم اطمئنان الطريق، فلا بد أن نعرف أن طريق الحديث أيضاً سيكون غير مأمون، وذلك لاختلاف عدد من الفقهاء الكبار كالشيخ الصدوق والمفيد، والانتقادات الشديدة التي وجهها الشيخ المفيد في شرح اعتقادات الصدوق، أو اختلاف الفقهاء المتقدمين والمتأخرين في مسألة منـزوحات البئر.
الأُستاذ سيدان:
اختلاف الروايات في باب الأُصول الاعتقادية ــ ومن جملتها الروايتين المذكورتين ــ ليست من قبيل التناقض والتضاد، وإنما هي من قبيل الزيادة والنقيصة، ففي موضوعٍ ما قد يضاف مطلب ــ بحسب اختلاف حال السامع مثلاً ــ لا يتناقض مع ما يقال في موضع آخر، وعليه لا بد من الجمع بين مفاد الروايات، وبهذا الشكل يرتفع الاختلاف.
وأمّا أن أخبار الآحاد غير حجة في المسائل الاعتقادية ]فيرد عليه[:
أولاً: إن في كثير من الموارد تكون الأخبار متواترةً أو بحكم المتواترة؛ لأجل احتفافها بالقرائن.
ثانياً: وإن كان خبر الواحد لا يوجب القطع، ولكن في كثير من الموارد يوجب الطمأنينة، وفي مثل هذه الموارد، مع فرض عدم وجود طريق آخر للاعتقاد، يصبح الاعتقاد على طبق خبر الواحد اعتقاداً اطمئنانياً وليس جزمياً، أي لا بد من القول: إنه قد ورد في الشريعة من طريق مطمئن في مسألة اعتقادية ما كذا وكذا. وكذلك من حيث دلالة ظهور الكلمات في كثير من الأحيان، إذ هناك ما يوجب الطمأنينة بمراد المتكلم.
وإذا كان المقصود من الصراحة ــ التي قيلت ــ أن الكلام لا يقبل التوجيه والتأويل، ولو بمثل تأويلات القيصري، فعليه لا يوجد عندنا ــ أساساً ــ أيّ رواية أو آية صريحة؛ لأن كل آية يشار إليها تقبل الحمل والتأويل.
وعلى كل حال، فما قيل لا يقف أمام الرجوع إلى الأدلة الشرعية، بل لابد من مراجعة هذه الأدلة، فإذا كان الدليل الشرعي ــ بعد التأمل والتدبر فيه ــ يوجب يقيناً، فذلك حسن، وإذا أوجب الاطمئنان أو الظن أو أقل من ذلك، ففي المسائل الاعتقادية يتوقف عند ذلك الحد من الاطمئنان أو الظن.
ليس مقصودنا أن لدينا في المسائل الاعتقادية جميعها أدلة قطعية مائة بالمائة، ولكن هذا المطلب لا يسوّغ لنا الإغماض عن الأدلة الشرعية، أو أن نجعلها في الدرجة الثانية، ونبني أساس المعتقدات على الطريقة التعقلية، مع فرض أن المسألة خارجة عن دائرة حكم العقل القطعي.
وأما مسألة اختلاف الفقهاء، فلا يمكن قياسها باختلاف الفلاسفة، وذلك:
أولاً: إن الفقهاء لم يدّعوا أصلاً الجزم والكشف في المسائل الفقهية التي هي مورد الاختلاف والإشكال. وإنما أجزأوا العمل بآرائهم لأنفسهم ولمقلّديهم.
ثانياً: لقد سلك الفقهاء الطريق المناسب للوصول إلى الأحكام الشرعية، وهو التعبّد بالأدلة الشرعية، ولهذا فهم معذورون حتى لو أخطأوا في استنباطهم. وملاحظة اختلاف بعضهم مع البعض الآخر لا يجعل الطريق غير موصل؛ لأنهم ــ أخيراً ــ لا طريق لهم، وهم معذورون، بعد التسليم بأن العمل والفتوى بالاحتياط في المسائل جميعها باعث على العسر والحرج، ولكن هل سلك الفلاسفة الإسلاميون الطريق الواقعي للوصول إلى الحقائق؟
إنّهم بحثوا ــ ابتداءً ــ المسائل من نافذة العقل، إلاّ أنّه لم تثبت ضمانة هذا الطريق في حد نفسه، ولو لإنسان واحد ناظر من الخارج لهذا الأمر ومتوجه إلى اختلاف الفلاسفة في نتائج أفكارهم، ولهذا فهو يرى أن هذا الطريق غير آمن، وأن عليه أن لا يسلكه.
وحقيقة الأمر: أنهم وردوا من البداية مجال العقل ــ مع فرض أن هذه المسألة ليست من المستقلات العقلية ــ ثم توصّلوا أخيراً إلى نتيجة فكرية واحدة، وطالما جزموا بهذه النتيجة، وعليه فلا مندوحة لهم إلاّ التخلّي عن كثير من الأدلة الشرعية.
ومعلوم أن الشخص القاطع بمطلب، لا يمكن منعه من ترتيب آثار القطع، ولكن يمكن تذكيره بهذا المطلب، وهو أن نتيجة أفكاره تنافي الأدلة الشرعية، طبعاً فيما لو كان هذا معتقداً بالوحي والأصول الشرعية، ذلك أنه سوف يتـزلزل قطعه، ويعرف إجمالاً أن بعض أو جميع المقدمات العقلية ــ التي على أساسها قام قطعه ــ غير تامة.
وأمّا الذين ينظرون من الخارج لهذه الواقعة، فسيعرفون أن الطريق الذي يجرّ الإنسان إلى مخالفة الأدلة الشرعية طريق غير صحيح، ولا يمكن الاعتماد عليه في البناءات الاعتقادية، والظاهر أن الشيخ الكبير الأنصاري ــ في بحث القطع من الرسائل ــ أشار إلى هذا المطلب قائلاً: «وأوجب من ذلك ترك الخوض في المطالب العقلية النظرية؛ لإدراك ما يتعلق بأصول الدين، فإنه تعريض للهلاك الدائم، والعذاب الخالد»( ).
الجلسة الثانية ــــــــــ
تعبّد الفلاسفة بالشرع، تقديم الفلسفة البحث العقلي على النقلي، الخلاف في مسألة علم الإمام ، مدخل إلى جسمانية المعاد..
الأُستاذ سيدان:
بيان ملخّص للجلسة السابقة:
1 ــ تثبيت حجية العقل، وأن أساس جميع المبادئ هي الحجج، وأدلة العقل.
2 ــ انحصار الطريق في غير المستقلات العقلية بالوحي.
3 ــ الاطمئنان بالأخبار المعتبرة.
4 ــ وجود فارق بين منهجية الفقهاء والفلاسفة الإسلاميين.
الأستاذ جوادي:
الفيلسوف الإسلامي يفكّر، وينتقي بطريقة حرة، وفي النتيجة يصيّر نفسه عبداً للوحي، ثم بعد أن يقع في شراك هذا الوحي، يتحرّك في داخله، ويبعد عن ذهنه أفكار المدارس المادية والإلحادية، وينتخب من بين الأقفاص قفص الشريعة الذهبي، فيتحدد به ويتقيّد تفكيره في محوره.
وإليك عدة نماذج من هذه التقييدات:
يقول أبو علي سينا في الشفاء في مسألة الدعاء:
«واعلم أن أكثر ما يقرّ به الجمهور، ويفزع إليه، ويقول به فهو حق،وإنما يدفعه هؤلاء المتشبّهة بالفلسفة؛ جهلاً منهم بعلله وأسبابه، وقد عملنا في هذا الباب كتاب البر والإثم...»( ).
أما صدر المتألهين في بحث تجرّد النفس، فيقول بعد إثبات التجرّد:
«فصل في شواهد سمعية في هذا الباب... فلنذكر أدلة سمعية لهذا المطلب، حتى يُعلم أن الشرع والعقل متطابقان في هذه المسألة كما في سائر الحكميات، وحاشا الشريعة الحقة الإلهية البيضاء أن تكون أحكامها مصادمةً للمعارف اليقينية الضرورية، وتبّاً لفلسفةٍ تكون قوانينها غير مطابقةٍ للكتاب والسنة»( ).
ويقول صدر المتألهين الشيرازي أيضاً في شرح أصول الكافي في ذيل حديث جنود العقل:
«واعلم أنه يمكننا أن نعرف بنور الاستبصار والاعتبار وجود هذه الجنود... إلاّ أن تعيّن عددها بهذا المبلغ المعيَّن، أعني الخمسة والسبعين، وكذا عدد مقابلاتها، مما لا يعرف إلاّ بنور النبوة، ومشكاة الولاية، فمعرفة حصرها في هذا العدد، وكذا حصر مقابلاتها فيه، موكول إلى السماع من أولياء العصمة وأهل بيت النبوة سلام الله عليهم»( ).
وعلى هذا الأساس، في ذيل بيان للمرحوم الكليني على خطبة منقولة
عن أميرالمؤمنين والتي يقول فيها: «فلو اجتمع ألسنة الجن والإنس، وليس فيها لسان نبيّ، على أن يبينوا التوحيد بمثل ما أتى به ــ بأبي وأُمي ــ ما قدروا عليه».
هنا يقول صدر المتألهين:
«وشاهد ذلك.. فقول النبي : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها».
ثم يبين بتفصيل فضائل المولى أميرالمؤمنين ( )، ولكن الظواهر لا بد أن تكون في حدّ اليقين، وفي هذه الصورة تكون قابلةً للاستدلال على الاعتقادات، ولا يجوز التمسك بالظواهر قبل الفحص عن المخصص اللبي. فإذا كان المخصص اللبي متصلاً ــ يعني يكون قرينة عقلية بديهية ــ فالمطلب واضح، وإذا كان نظرياً فلا بد من التقويم.
وعلى هذا الأساس، تناول الفلاسفة الإسلاميون البحوث العقلية، بمعنى أنه من أجل فهم المخصصات اللبية وتحديدها، إمّا أن يعثروا على برهان واضح يخالف الظواهر، كي يتخلّوا عنها، وإمّا أنّ البراهين العقلية تكون مؤيدةً للظواهر، أو أنّ العقل لا طريق له للإثبات أو النفي، وفي هذه الصورة يُتمسك بظواهر الشرع.
الأُستاذ سيدان:
لا بحث في تقيّد الفلاسفة الإسلاميين بالشرع، ولكن الكلام عمليّ داخل منهج التفكير، فلم يكن مثل هكذا مسلك، وذلك بشهادة هذا المطلب الذي نُقل عن الآخوند ملا صدرا في باب تجرد النفس، ففي كلامه أولاً طُرحت الاستدلالات العقلية، واختير المطلب على أساس هذه الأدلة، ثم راح يلتمس آيةً أو روايةً لإثبات مطلوبه وتأييده.
إضافة إلى ذلك، جعلوا المقدمات العقلية ــ التي هي محلّ الاختلاف والإشكال ــ مزاحمةً لظواهر الشرع ومعارضة( ).
الأُستاذ جوادي:
يُبحث في الكتب الفلسفية والعقلية أولاً في الاستدلالات العقلية، ثم الأدلة النقلية، على عكس الكتب الحديثية، وهذا تقديم وتأخير في مرحلة البيان، وهو ما تقتضيه طبيعة الكتابة ليس إلاّ.
ولم يلج الفقهاء في المسائل الاعتقادية، ولا بحثوا ذلك، بل إنهم اقتصروا في هذه المسائل على ذلك الإيمان الإجمالي، ذلك أنّهم إذا وردوا البحث سوف يرون ــ مع الأخذ بنظر الاعتبار الروايات والأدلة الشرعية ــ حصول الاختلاف في النظريات والآراء، كما هو الحال في الفروع.
الأُستاذ سيدان:
عمدة البحث أن الفلاسفة الإسلاميين يجعلون المقدمات العقلية غير الواضحة والمختلف فيها مزاحمةً للروايات الواضحة الدلالة، فإذا كنّا بصدد تحديد السبيل السليم لمعرفة الواقع، فإن طريق المعرفة الذي يحكم العقل به (طبعاً في الموارد التي يفقد العقل ابتداءً الحكم الواضح فيها)، ينحصر في ضرورة الرجوع ابتداءً ــ قبل تلوّث الذهن بالمقدمات والاصطلاحات ــ إلى الوحي.
وبعيداً عن التأويل، والحبّ والبغض، تناقش الأدلة الشرعية، مع التأمل والتدبر في مفادها، وهنا يفهم ــ على نحو العلم الإجمالي ــ أن الدليل العقلي الصحيح ليس خلاف المستفاد من الأدلة الشرعية، إذ كيف يمكن أن نستفيد من الشريعة في موضوعٍ ما خلاف ما يحكم به العقل الواقعي؟!
نعم، قد يقال: إن الأئمة كانوا في مقام الهداية والتعليم، ولهذا تحدثوا بأحاديث غامضة ملغّزة، ولم يقصدوا الظاهر فضلاً عن الصريح، وأنّ اعتمادهم في هذا الخلاف الظاهر كان على بعض المقدمات العقلية المختلف فيها أساساً، وهو كما ترى.
وأمّا ما قيل: من أن الفقهاء إذا وردوا ميدان المناقشة سوف يرون الاختلاف الكثير، فنقول: إن الاختلاف الذي يعني تعارض الروايات قليل في المسائل الاعتقادية، وما ذكر من نماذج إنما هو من نوع واحد، فمثلاً الخطبة التي في التوحيد المنقولة عن الإمام أميرالمؤمنين نجد نظيرها في أقوال الإمام
الرضا .
وعليه، إذا كانت الأدلة الأساسية هي الروايات والآيات، وتم النظر فيها بتأمل وإنصاف، فسوف يقل اختلاف وجهات النظر فيها. نعم، إلاّ إذا كانت أفكار الناظرين في الروايات مشوبة قبلاً بالمقدمات العقلية الخلافية، الأمر الذي يوجب الاختلاف أيضاً؛ لأن كلاً منهم يريد أن يوجّه الروايات وتعبيراتها طبقاً لوجهات نظره.
الأُستاذ جوادي:
إنّ مسألة علم الإمام مسألة اعتقادية واقعة موقع الاختلاف الشديد بين العلماء، مع أن طرفي النـزاع قد تناولا المسألة ناظرين كليهما إلى الأدلة الشرعية، ومن ذلك الاختلاف الواقع بين الفقيهين الكبيرين: صاحب الجواهر والشيخ الأنصاري في هذه المسألة، فقد قال صاحب الجواهر ــ في هذا الباب ــ الكلامَ المعروف في مبحث (الكر)، وإن كان قد عدل عنه فيما بعد، وقد تعرّض الشيخ الأنصاري لكلام صاحب الجواهر في كتاب الطهارة ــ بحسب ما نقل عنه ــ وقال: «تعالى الله وتعالوا عن ذلك علواً كبيراً».
الإشكال المطروح في مبحث (الكر)، كان عبارة عن عدم التطابق بين التقديرين: الوزن والمساحة، وقد سجّل صاحب الجواهر في هذا البحث إشكالاً في سياق الجواب عن هذه المسألة، وقد نقل الشيخ الأنصاري كلام صاحب الجواهر وردّ عليه بهذا النحو:
«نعم، دفعه بعض بوجهٍ أشكل، وهو منع علم الإمام بنقص الوزن دائماً عن المساحة، ولا غضاضة فيه؛ لأن علمهم ليس كعلم الخالق، فقد يكون قدّروه بأذهانهم الشريفة وأجرى الله الحكم عليه، وفيه ما لا يخفى، فإن هذا يرجع إلى نسبة الغفلة في الأحكام الشرعية، بل الجهل المركب إليهم، وتقرير الله سبحانه إيّاهم على هذا الخطأ، وتعالى الله وتعالوا عن ذلك علواً كبيراً»( ).
الأُستاذ سيدان:
من غير الواضح أن صاحب الجواهر أقام اختياره وجهةَ النظر المذكورة على أساس التتبع الكامل في الروايات والأدلة.
وإنما خطر على ذهنه هذا الموضوع، ضمن مناقشة مسألة فقهية، فأشكل باقتضاب، وكما ذكرتم، فقد عدل بعد ذلك عنه( ).
الأُستاذ جوادي:
أمّا مسألة المعاد في نظر المرحوم الآخوند ]صدر المتألهين[، فهي تتطابق مع وجهة نظر أبي علي ]بن سينا[. قال أبو علي في إلهيات الشفاء:
«يجب أن يُعلم أن المعاد منه ما هو مقبول من الشرع، ولا سبيل إلى إثباته إلاّ من طريق الشريعة وتصديق خبر النبي، وهو الذي للبدن عند البعث. وخيرات البدن وشروره معلومة لا يحتاج إلى تعلم. وقد بسطت الشريعة الحقة التي أتانا بها سيدنا ومولانا ونبينا محمد حال السعادة والشقاوة التي بحسب البدن، ومنه ما هو مدرك بالعقل...»( ). ومثل هذه العبارة ما أورده في كتاب النجاة( ).
وقد تعرض ملا صدرا في شرح الهداية الأثيرية لأثير الدين الأبهري لنفس هذه المسألة بهذا النحو، فقال: «ومما يجب أن يُعلم، قبل الخوض في تلك المقاصد، أن المعاد على ضربين: ضرب لا يفي بوصفه وكنهه إلاّ الوحي والشريعة، وهو الجسماني باعتبار البدن اللائق بالآخرة وخيراته وشروره، والعقل لا ينكره»( ).
ثم قال: «ثم اعلم أن إعادة النفس إلى بدن مثل بدنها الذي كان لها في الدنيا، مخلوق من سنخ هذا البدن بعد مفارقتها عنه في القيامة، كما نطقت به الشريعة...»( ).
وقال في الأسفار بعد تمهيد الأُصول والمقدمات:
«فصل في نتيجة ما قدمناه، وثمرة ما أصّلناه.
أقول: إن من تأمل وتدبّر في هذه الأُصول والقوانين... لم يبق له شك وريب في مسألة المعاد وحشر النفوس والأجساد، ويعلم يقيناً ويحكم بأن هذا البدن بعينه سيحشر يوم القيامة بصورة الأجساد، وينكشف له أن المُعاد في المَعاد مجموع النفس والبدن بعينهما وشخصهما»( ).
وقال: «فالاعتقاد بحشر الأبدان يوم القيامة هو أن يبعث أبداناً من القبور، إذا رأى أحد كل واحد منها يقول: هذا فلان بعينه»( ).
وأمّا ظواهر الكلمات المنقولة عن الملا صدرا ــ كما نقلتم في تفسير آية: وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ الحج: 7 ــــ والتي دلت على أن البدن قبر، وتحشر الأرواح من الأبدان، فليس معنى ذلك، أن المعاد روحاني، وأن اللذات منحصرة باللذات الروحية. وإنما المقصود أن حكم الإنسان في ذلك العالم حكمه في هذا العالم، ففي هذا العالم الذي تكون فيه الروح مقيدةً بالبدن، هناك نوعان من اللذة:
1 ــ اللذات الروحية والفكرية.
2 ــ اللذات الحسية (الجسمانية).
والصحيح أن يقال بالنسبة إلى الالتذاذ الروحي: الإنسان حين يبعث من قبر البدن، يخرج من الالتذاذ والتقيد بالجسم، يقول صدر الدين الشيرازي في توضيح قوله تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ الرحمن: 46: «إن الجنة جنتان: روحانية؛ وجسمانية».
ويقول كذلك: «ولك أن تقول: العالم عالمان»( )، فعلى هذا يكون للمقربين كلتا الجنتين، وليس المقصود حصر المعاد بالروحاني. ولا بد من إعمال هذا التوجيه في كلمات الشيخ الصدوق أيضاً، وعليه، لا يبقى وجه لاعتراض الشيخ المفيد عليه.
قال الصدوق، على ما نقل عنه في بحار الأنوار: «اعتقادنا في الجنة أنها دار البقاء ودار السلامة... وأنها دارٌ أهلها جيران الله، وأولياؤه، وأحبّاؤه، وأهل كرامته، وهم أنواع على مراتب:
منهم: المتنعمون بتقديس الله وتسبيحه وتكبيره في جملة ملائكته.
ومنهم: المتنعّمون بأنواع المآكل والمشارب والفواكه، والأرائك، وحور العين، واستخدام الولدان المخلدين، والجلوس على النمارق والزرابي، ولباس السندس والحرير، كل منهم إنما يتلذذ بما يشتهي ويريد، حسب ما تعلّقت عليه همته، ويُعطى ما عبد الله من أجله»( ).
وقال الشيخ المفيد عند نقله لهذا الكلام:
«وليس في الجنة من البشر من يلتذ بغير مأكل ومشرب، وما تدركه الحواس من الملذّات. وقول من زعم: أن في الجنة بشراً يلتذّ بالتسبيح والتقديس من دون الأكل والشرب، قول شاذّ عن دين الإسلام، وهو مأخوذ من مذهب النصارى الذين زعموا: أن المطيعين في الدنيا يصيرون في الجنة ملائكةً، لا يطعمون ولا يشربون ولا ينكحون، وقد أكذب الله هذا القول في كتابه بما رغّب العالمين فيه من الأكل والشرب والنكاح، فقال تعالى: أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ... الرعد: 35»( ).
ولا بد أن يقال: لم يكن الصدوق ناظراً في كلامه المتقدّم إلى إنكار اللذائذ الحسية لجماعةٍ من أهل الجنة، بل مقصوده أن المقربين يحصلون ــ مضافاً إلى اللذات الروحانية ــ على اللذات الجسمانية..
والحاصل: إن نظر الملا صدرا عين وجهة نظر أبي علي بن سينا في باب المعاد الروحاني والجسماني، وكذلك هو ــ أيضاً ــ نظر المحدثين وعلماء الإسلام.
الجلسة الثالثة ــــــــــ
نقل نصوص الملا صدرا في المعاد، المعاد العنصري أو الصوري، تطابق رأي الملا صدرا مع رأي محدّثي الإسلام أو لا..
الأُستاذ سيدان:
وصلنا في الكلام إلى هنا، حيث قلتم: إن نظر الملا صدرا مطابق لنظر المحدثين وعلماء الإسلام القائلين بالمعاد الجسماني، ولكن يبدو أنه فسر كلمة «جسماني» في كثير من الموارد، بأن المقصود من الجسم ليس هو الجسم المادي والبدن العنصري؛ لأن في عالم ما بعد المادة، لا وجود ولا أثر لهذا العالم المادي، وإنما المقصود الهيئة التي تبتدعها النفس، وذلك بالنسبة إلى أكثر النفوس، وأمّا بالنسبة إلى المتصفين بالكمال فلا يوجد حتى جسم بهذا المعنى أيضاً.
وبذلك نتوصل إلى نقطة مهمة من البحث، هي: هل تحشر في العالم الآخر الأرواح مع مادة هذه الدنيا والجسم العنصري أو لا؟
نظر جمهور الفقهاء والمحدثين أن البدن المادي الدنيوي يحشر مع الروح المتعلق بها، ولو مع الاختلاف في العوارض والآثار، لكن الملا صدرا لم يقبل هذا المعنى، وبما أنه أوضح هذا المطلب في موارد متعددة ببيان واضح، فإذا كان هناك إجمال وتشابه في بعض كلماته، فلا بد أن يُفسَّر على هذا المعنى، وإلاّ فإن كلماته ستغدو متناقضة.
والآن نأتي بمقاطع من الأسفار الأربعة تكون شاهداً على ذلك:
يقول: «حكمة عرشية: إن للنفس الإنسانية نشآت ثلاث إدراكية:
النشأة الأُولى: هي الصورة الحسيّة الطبيعية، ومظهرها الحواس الخمس الظاهرة، ويقال لها: الدنيا؛ لدنوّها وقربها؛ لتقدّمها على الأخيرتين، وعالم الشهادة؛ لكونها مشهودة بالحواس، وشرورها وخيراتها معلومة لكل أحد لا يحتاج إلى البيان، وفي هذه النشأة لا يخلو موجود عن حركته واستحالته، ووجود صورتها لا تنفك عن وجود مادتها.
والنشأة الثانية: هي الأشباح والصور الغائبة عن هذه الحواس، ومظهرها الحواس الباطنة، ويقال لها: عالم الغيب والآخرة، لمقايستها إلى الأُولى؛ لأن الآخرة والأُولى من باب المضاف، ولهذا لا يعرف إحداهما إلاّ مع الأُخرى كالمتضائفين، كما قال تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ الواقعة: 62. وهي تنقسم إلى الجنّة: وهي دار السعداء، والجحيم: وهي دار الأشقياء، ومبادئ السعادة والشقاوات فيهما هي الملكات والأخلاق الفاضلة والرذيلة.
والنشأة الثالثة: هي العقلية، وهي دار المقربين ودار العقل والمعقول، ومظهرها القوة العاقلة من الإنسان إذا صارت عقلاً بالفعل، وهي لا تكون إلاّ خيراً محضاً ونوراً صرفاً.
فالنشأة الأُولى دار القوة والاستعداد والمزرعة لبذور الأرواح، ونبات النيات والاعتقادات، والأخيرتان كلّ منهما دار التمام والفعلية، وحصول الثمرات، وحصاد المزروعات.
فإذا تقرّر هذا، ولم تكن النفس ذات قوة استعدادية ساذجة من الصّور والأوصاف والملكات النفسانية، إلاّ في أوّل كونها الدنياوي ومبدأ فطرتها الأصلية قبل أن تخرج قوتها الهيولائية النفسانية إلى فعلية الآراء والملكات والأخلاق، فلا يمكن لها بعد أن يخرج في شيء منها من القوة إلى الفعل أن يتكرّر لها القوة الاستعدادية بحسب فطرة ثانية هي أيضاً في هذا العالم، وتكوّن آخر لأجل تعلّق بمادة أُخرى حيوانية»( ).
وقال في موضع آخر:
«وليس لقائل أن يقول: ما قررتم في إبطال النقل بعينه جار في تعلّق النفوس إلى الأبدان في النشأة الآخرة...
لأنا نقول: الأبدان الأُخروية ليس وجودها وجود استعدادي، ولا تكوّنها بسبب استعدادات المواد وحركاتها وتهيؤاتها واستكمالاتها المتدرّجة الحاصلة لها عن أسباب غريبة ولواحق مفارقة. بل، تلك الأبدان لوازم تلك النفوس، كلزوم الظل لذي الظل، حيث إنها فائضة بمجرّد إبداع الحق الأول لها بحسب الجهات الفاعلية من غير مشاركة القوابل وجهاتها الاستعدادية، فكل جوهر نفساني مفارق يلزم شبح مثالي ينشأ منه بحسب ملكاته وأخلاقه وهيئاته النفسانية، بلا مدخلية الاستعدادت وحركات المواد، كما في هذا العالم شيئاً فشيئاً.
وليس وجود البدن الأُخروي مقدماً على وجود نفسه. بل، هما معاً في الوجود من غير تخلّل الجعل بينهما، كمعية اللازم والملزوم والظل والشخص، فكما أن الشخص وظلّه لا يتقدم أحدهما على الآخر، ولم يحصل لأحدهما استعداد من الآخر لوجوده، بل، على سبيل التبعية واللزوم، فهكذا قياس الأبدان الأُخروية مع نفوسها المتصلة بها...»( ).
وقال بعد عدّة صفحات:
«والجواب: إنّ التجرد الواقع في كلام المشكّك، إن أراد به التجرّد عن الأجسام الحسية والأشباح البرزخية جميعاً، فليس الحال كذلك في نفوس الناقصين والمتوسّطين؛ لأنها وإن تجرّدت عن الحسية لم يتجرّد عن المثالية...»( ).
وقال أيضاً:
«وأما قولـه: لما كانت النفوس المفارقة عن الأبدان غير متناهية، يلزم اجتماع المفارقات كلها .. الخ، فهو مدفوع.
أمّا أوّلاً فلأنّ الكلام ليس في جميع المفارقات من النفوس. بل إنّما هو في نفوس الأشقياء، ولا يلزم ما ذكره. فإن النفوس بعضها ممّا لا يتعلّق بالأجرام، وما يتعلّق منها بالأشباح المثالية وإن فرض كونها غير متناهية، لم يلزم منه فساد؛ لعدم التـزاحم في الأشباح المثالية على محلّ واحد مادّي، فيجوز عدم تناهيه»( ).
وقال أيضاً:
«تأييد وتذكرة: ومما يؤيد ما ذكرناه من بطلان تعلّق النفوس بعد الموت بجرم فلكي أو عنصري، وينوّر ما قرّرناه من أن الصور الأُخروية التي بها نعيم السعداء وجحيم الأشقياء، ليست هي التي انطبعت في جرم فلكي أو غير فلكي، بل هي صورة معلّقة موجودة للنفس من النفس في صقع آخر، مرتبة بأعمال وأفعال حدّث عنها في دار الدنيا، وأثمرت في ذاتها أخلاقاً وملكات مستتبعة لتلك الصور المعلّقة.. هو ما قاله قدوة المكاشفين محيي الدين العربي»( ).
وقال في ذلك المجلّد أيضاً:
«... فإنها إذا فارقت هذا البدن فإن كانت خيّرة، فلا محالة لها سعادة غير حقيقية من جنس ما كانت توهّمته وتخيلته، وبلغت إليه همّته، وسمعت من أهل الشرائع من الحور والقصور، والسدر المخضود، والطلح المنضود، والظلّ الممدود.. وهذا ممّا لا إشكال في إثباته عندنا؛ لأنّ الصور الأُخروية المحسوسة حصولها غير مفتقر إلى موضوع ومادّة كما أشرنا إليه»( ).
وقال أيضاً:
«وأنـزل من هذه المرتبة من الاعتقاد في باب المعاد وحشر الأجساد، اعتقاد علماء الكلام ــ كالإمام الرازي ونظرائه ــ بناءً على أن المعاد عندهم عبارة عن جمع متفرقات أجزاء مادية لأعضاء أصلية باقية عندهم، وتصويرها مرة أخرى بصورة مثل الصورة السابقة؛ ليتعلق النفس بها مرة أخرى، ولم يتفطّنوا بأن هذا حشر في الدنيا لا في النشأة الأُخرى، وعود إلى الدار الأُولى دار العمل والتحصيل لا إلى دار العقبى دار الجزاء والتكميل.
فأين استحالة التناسخ؟ وما معنى قوله تعالى: إِنَّا لَقَادِرُونَ المعارج: 40 عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ الواقعة: 61..؟ ولا يخفى على ذي بصيرة أن النشأة الثانية طورٌ آخر من الوجود يباين هذا الطور المخلوق من التراب والماء والطين، وأن الموت والبعث ابتداء حركة الرجوع إلى الله أو القرب منه، لا العود إلى الخلقة الماديّة والبدن الترابي الكثيف الظلماني»( ).
وهكذا يقول بعد تبيانه نظر المتكلّمين:
«وهذا نهاية ما بلغ إليه فهم أهل الكلام، وغاية ما وصلت إليه قوّة نظر علماء الرسوم في إثبات النشأة الآخرة، وحشر الأجسام، ونشر الأرواح والنفوس، وفيه ــ مع قطع النظر عن مواضع المنع والخدش، وعن تحريف الآيات القرآنية عن معانيها.. ــ إن ما قرّره وصوّره ليس من إثبات النشأة الأخرى، وبيان الإيمان بيوم القيامة في شيء أصلاً، فإن الّذي يثبت من تصوير كلامه وتحرير مرامه ليس إلاّ إمكان أن يجتمع متفرقات الأجزاء المنبثة في أمكنة متعددة وجهات مختلفة من الدنيا، ويقع منضماً بعضها إلى بعض في مكان واحد، فيفيض عليها صورة مماثلة للصورة السابقة المنعدمة؛ فيعود الروح من عالمه التجرّدي القدسي بعد أحقاب كثيرة ما كانت فيه رَوح وراحة تارةً أخرى إلى هذا العالم، متعلقة بهذا البدن الكثيف المظلم.
وإنّما سمي يوم الآخرة بيوم القيامة؛ لأن فيه يقوم الروح عن هذا البدن الطبيعي، مستغنياً عنه في وجوده، قائماً بذاته وبذات مبدعه ومنشئه. والبدن الأُخروي قائم بالروح هناك، والروح قائم بالبدن الطبيعي ها هنا؛ لضعف وجوده الدنيوي، وقوّة وجوده الأُخروي...»( ).
وقال:
«وقد أشرنا إلى أن وجود الأُمور الأُخروية أصفى من التركيب، وأعلى من الامتـزاج، وأقرب إلى الوحدة الخالصة من هذه الأُمور الدنيوية، فكما أن فعله الخاص في الابتداء هو إنشاء النشأة الأُولى. لا تركيب المختلفات وجمع المتفرقات، فكذلك حقيقة المعاد، والفعل اللائق به إنشاء النشأة الثانية وهو أهون عليه من إيجاد المكوّنات في الدنيا التي تحصل بالحركات من الأجساد والاستحالات في المواد؛ لأن الآخرة خير وأبقى، وأدوم وأعلى. وما هو كذلك، فهو أولى وأنسب في الصدور عن المبدأ الأعلى وأهون عليه تعالى، كما قال: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الروم: 27»( ).
وقال أيضاً:
«وقد اتفق المحققون من الفلاسفة والمليّين على حقيّة المعاد، وثبوت النشأة الباقية، لكنّهم اختلفوا في كيفيّته، فذهب جمهور الإسلاميين وعامة الفقهاء وأصحاب الحديث إلى أنه جسماني فقط، بناءً على أنّ الروح عندهم جسم سار في البدن سريان النار في الفحم، والماء في الورد، والزيت في الزيتونة.
وذهب جمهور الفلاسفة وأتباع المشائين إلى أنّه روحاني، أي عقلي فقط؛ لأن البدن ينعدم بصوره وأعراضه لقطع تعلّق النفس عنها، فلا يعاد بشخصه تارة أخرى، إذ المعدوم لا يعاد.
والنفس جوهر مجرّد باق لا سبيل إليه للفناء، فتعود إلى عالم المفارقات؛ لقطع التعلّقات بالموت الطبيعي.
وذهب كثير من أكابر الحكماء ومشايخ العرفاء وجماعة من المتكلّمين، كحجة الإسلام الغزالي والكعبي والحليمي والراغب الإصفهاني وكثير من أصحابنا الإمامية، كالشيخ المفيد وأبي جعفر الطوسي والسيد المرتضى والعلامة الحلّي والمحقق الطوسي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين إلى القول بالمعادين جميعاً، ذهاباً إلى أن النفس مجرّدة تعود إلى البدن، وبه يقول جمهور النصارى والتناسخية إلاّ أن الفرق...
إلى أن قال:
ثم إنّ هؤلاء القائلين بالمعادين جميعاً اختلفت كلماتهم في أن المعاد من جانب البدن، أهو هذا البدن بعينه أو مثله؟ وكل من العينية أو المثلية، أيكون باعتبار كل واحد من الأعضاء والأشكال والتخاطيط أم لا؟
والظاهر أن هذا الأخير لم يوجبه أحد، بل كثير من الإسلاميين مال كلامهم إلى أنّ البدن المعاد غير البدن الأوّل بحسب الخلقة والشكل...
إلى أن قال:
هذا تحرير المذاهب والآراء. والحقّ كما ستعلم أن المُعاد في المَعاد هو هذا الشخص بعينه نفساً وبدناً، فالنفس هذه النفس بعينها، والبدن هذا البدن بعينه، بحيث لو رأيته لقلت رأيته بعينه فلان الّذي كان في الدنيا...
(وقد أوضح المرحوم السبزواري ذلك في حاشيته):
أي البدن البرزخي والأُخروي، هذا البدن الدنيوي لكن لا بوصف الدنيوية والطبيعية، وإنّما كان هو هو بعينه لما مضى، وسيأتي أن شيئية الشيء بصورته، أي الصورة البدنية لا بمادته وبصورته»( ).
وقال بعد ذلك:
«المقام الرابع: في الاعتقاد بالصور التي في الآخرة، هو مقام الراسخين في العرفان الجامعين بين الذوق والبرهان، وهو الإذعان اليقيني بأن هذه الصور التي أخبرت بها الشريعة وأنذرت بها النبوة، موجودات عينية وثابتات حقيقية، وهي في باب الموجودية والتحقق أقوى وأتم وأشد وأدوم من موجودات هذا العالم، وهي الصور المادية، بل، لا نسبة بينهما في قوّة الوجود، وثباته ودوامه، وترتب الأثر عليه، وهي على درجات:
بعضها صور عقلية، هي جنة الموحدين المقربين.
وبعضها صور حسية ملذّة، هي جنّة أصحاب اليمين وأهل السلامة والمسلمين، أو مؤلمة هي جحيم أصحاب الشمال من الفاسقين أو الضالّين والمكذبين بيوم الدّين. ولكن ليست محسوساتها كمحسوسات هذا العالم، بحيث يمكن أن يرى بهذه الأبصار الفانية والحواس الداثرة البالية، كما ذهب إليه الظاهريّون المسلمون.
ولا أنّها أمور خيالية وموجودات مثالية لا وجود لها في العين، كما يراه بعض أتباع الرواقيين وتبعهم آخرون.
ولا أنها أمور عقلية أو حالات معنوية وكمالات نفسانية.
وليست بصورة وأشكال جسمانية وهيئات مقدارية، كما يراه جمهور المتفلسفين من أتباع المشائين. بل، إنّما هو صور عينية جوهرية موجودة لا في هذا العالم الهيولائي، محسوسة لا بهذا الحواس الطبيعية، بل موجودة في عالم الآخرة، محسوسة بحواس أخروية، نسبة الحاس إلى الحاس كنسبة المحسوس إلى المحسوس»( ).
وقال في موضع آخر:
«واعلم أنّ لكل نفس من نفوس السعداء في عالم الآخرة مملكة عظيمة الفسحة، وعالماً أعظم وأوسع مما في السماوات والأرضين، وهي ليست خارجة عن ذاته، بل جميع مملكته ومماليكه، وخدمه وحشمه، وبساتينه وأشجاره، وحوره وغلمانه، كلها قائمة به، وهو حافظها ومنشئها بإذن الله تعالى وقوته. ووجود الأشياء الأُخروية وإن كانت تشبه الصور التي يراها الإنسان في المنام أو في بعض المرايا؛ لكن يفارقها بالذات والحقيقة...»( ).
ويقول أيضاً:
«فكل نفس من النفوس إذا انقطع تعلّقها عن البدن بالموت وخلت، وبخراب البيت ارتحلت، تصير حواسها الباطنيّة لإدراك أمور الآخرة أشد وأقوى، فتشاهد الصور العينية الموجودة في تلك الدار، ولا يختصّ ذلك بنفس دون نفس...»( ).
|
التعديل الأخير تم بواسطة حفيد الكرار ; 10-12-2013 الساعة 09:15 PM.
|
|
|
|
|