تابع
باء : سرية الاتصالات :
كيف كان يتم الاتصال بين الإمام وبين شيعته المتخفّين من أمثال علي بن يقطين ؟
نحن لا نعرف مزيداً من التفاصيل حول طبيعة الاتصالات ، إلاّ أن الباحث باستطاعته أن يتعرف على القضايا من خلال بعض الأخبار المتناثرة ، فالخبير الزراعي يتعرف على طبيعة التربة والماء والهواء والبذر والسماد و . و .. من خلال ثمرة واحدة من شجرة التفاح مثلاً ، وهكذا المؤرخ بإمكانه أن يتعرف على المزيد من التفاصيل من خلال التفكر في أبعاد حادثة تاريخية تروى .
وهكذا الحادثة الثانية تبين أبعاد الاتصالات السرية التي كانت تتم بين أئمة الهدى وشيعتهم .
عن محمد بن مسعود ، عن الحسين بن شكيب ، عن بكر بن صالح ، عن إسماعيل بن عباد القصري، عن إسماعيل بن سلام وفلان بن حميد ، قالا : ( بعث إلينا علي بن يقطين فقال : اشتريا راحلتين ، وتجنبا الطريق - ودفع إلينا أموالاً وكتباً - حتى توصلا ما معكما من المال والكتب إلى أبي الحسن موسى (ع) ولا يعلم بكما أحد ، قال : فأتينا الكوفة واشترينا راحلتين وتزوّدنا زاداً ، وخرجنا نتجنب الطريق ، حتى إذا صرنا ببطن الرمة شددنا راحلتنا ، ووضعنا لها العلف ، وقعدنا نأكل ، فبينما نحن كذلك ، إذ راكب قد أقبل ومعه شاكري ، فلما قرب منَّا فإذا هو أبو الحسن موسى (ع) ، فقمنا وسلّمنا عليه ، ودفعنا إليه الكتب وما كان معنا ، فأخرج من كمّه كتباً فناولنا إيّاها فقال : هذه جوابات كتبكم .
قال : فقلنا : إنّ زادنا قد فني فلو أذنت لنا فدخلنا المدينة ، فزرنا رسول اللـه وتزوّدنا زاداً فقال : هاتا ما معكما من الزّاد ، فأخرجنا الزّاد إليه فقلّبه بيده فقال : هذا يبلّغكما إلى الكوفة ، وأما رسول اللـه (ص) فقد رأيتماه ، إني صليت معهم الفجر ، وإنّي أريد ان أصلي معهم الظهر ، انصرفا في حفظ اللـه ) (11) .
جيم : التقية حتى في كيفية الوضوء :
وفشلت محاولات الوشاة ورجال مباحث النظام في كشف حقيقة علي بن يقطين ، فقام الرشيد بنفسه بعملية التجسس عليه ، فكانت عاقبته الفشل أيضاً كما في الخبر التالي : -
روى محمد بن إسماعيل ، عن محمد بن الفضل قال : ( اختلفت الرواية بين أصحابنا في مسح الرجلين في الوضوء هو من الأصابع إلى الكعبين ؟ أم من الكعبين إلى الأصابع ؟ فكتب علي بن يقطين إلى أبي الحسن موسى (ع) أن أصحابنا قد اختلفوا في مسح الرجلين ، فإن رأيت أن تكتب إليّ بخطك ما يكون عملي عليه فعلت إن شاء اللـه ، فكتب إليه أبو الحسن (ع) : فهمتُ ما ذكرتَ من الاختلاف في الوضوء والذي آمرك به في ذلك فأن تتمضمض ثلاثاً وتستنشق ثلاثاً ، وتغسل وجهك ثلاثاً ، وتخلل شعرلحيتك وتمسح رأسك كله ، وتمسح ظاهر أذنيك . وباطنها ، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثاً ولا تخالف ذلك إلى غيره .
فلما وصل الكتاب إلى عليّ بن يقطين تعجب بما رسم فيه ، ممّا أجمع العصابة على خلافه ، ثم قال : مولاي أعلم بما قال وأنا ممتثل أمره ، وكان يعمل في وضوئه على هذا الحدّ ، ويخالف ما عليه جميع الشيعة امتثالاً لأمر أبي الحسن (ع) ، وسعي بعليّ بن يقطين إلى الرشيد ، وقيل له : إنه رافضي مخالف لك .
فقال الرشيد لبعض خاصّته : قد كثر عندي القول في عليّ بن يقطين والقذف له بخلافنا وميله إلى الرفض ولست أرى في خدمته لي تقصيراً ، وقد امتحنته مراراً فما ظَهَرْتُ منه على ما يُقذف به ، وأحبّ أن استبرئ أمره من حيث لا يشعر بذلك فيتحرز منّي .
فقيل له : إنّ الرّافضة يا أمير المؤمنين تخالف الجماعة في الوضوء فتخفّفه ولا ترى غسل الرّجلين فامتحنه يا أمير المؤمنين من حيث لا يعلم ، بالوقوف على وضوئه ، فقال : أجل إنّ هذا الوجه يظهر به أمره ، ثم تركه مدّة وناطه بشيء من الشغل في الدّار ، حتّى دخل وقت الصلاة ، وكان علي بن يقطين يخلو في حجرة في الدار لوضوئه وصلاته ، فلمّا دخل وقت الصلاة وقف الرّشيد من وراء حائط الحجرة بحيث يرى عليّ بن يقطين ، ولا يراه هو، فدعا بالماء للوضوء ، فتمضمض ثلاثاً ، واستنشق ثلاثاً ، وغسل وجهه ثلاثاً ، وخلّل شعر لحيته ، وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً ، ومسح رأسه وأذنيه ، وغسل رجليه والرشيد ينظر إليه .
فلما رأه وقد فعل ذلك ولم يملك نفسه حتّى أشرف عليه بحيث يراه ، ثمّ ناداه : كذب يا علي بن يقطين من زعم أنّك من الرافضة ، وصلحت حاله عنده ، وورد عليه كتاب أبي الحسن (ع) : ابتداءً من الآن يا علي بن يقطين فتوضّأ كما أمر اللـه ، واغسل وجهك مرة فريضة ، وأخرى إسباغاً ، واغسل يديك من المرفقين كذلك وامسح مقدم رأسك وظاهر قدميك بنداوة وضوئك ، فقد زال ما كان يخاف عليك والسلام ) (12) .
3 - كان المسيّب نائب رئيس شرطة النظام سندي بن شاهك ، وكان موكلاً بسجن الإمام (ع) ، وكان يوالي الإمام (ع) كما يظهر من بعض التواريخ ، وكان يتصل بالشيعة ويأمرهم بما يوصيه الإمام ، والواقع أن كثير ممن سجن الإمام عندهم قالوا بولايته لما شاهدوا منه من المعاجز ، فهذا بشّار مولى السندي بن شاهك يقول : ( كنت من أشد الناس بغضاً لآل أبي طالب (ع) ، فدعاني السندي بن شاهك يوماً فقال لي : يا بشار إنّي أريد أن أئتمنك على ما ائتمنني عليه هارون ، قلت : إذن لا أبقي فيه غاية ، فقال : هذا موسى بن جعفر قد دفعه إلّي وقد وكّلتك بحفظه ، فجعله في دار دون حرمه ووكّلني عليه ، فكنت أقفل عليه عدّة أقفال ، فإذا مضيت في حاجة وكّلت امرأتي بالباب فلا تفارقه حتّى أرجع .
قال بشّار : فحوّل اللـه ما كان في قلبي من البغض حبّاً ، قال : فدعاني (ع) يوماً فقال : يا بشّار امضِ إلى سجن القنطرة فادع لي هند بن الحجاج وقل له : أبو الحسن يأمرك بالمصير إليه ، فإنّه سينهرك ويصيح عليك ، فإذا فعل ذلك ، فقل له : أنا قد قلت لك وابلغت رسالته ، فإن شئت فافعل ما أمرني ، وإن شئت فلا تفعل ، واتركه وانصرف ، قال : ففعلت ما أمرني وأقفلت الأبواب كما كنت أقفل وأقعدت امرأتي على الباب وقلت لها : لا تبرحي حتّى آتيك .
وقصدت إلى سجن القنطرة فدخلت إلى هند بن الحجّاج ، فقلت : أبو الحسن يأمرك بالمصير إليه ، قال : فصاح عليّ وانتهرني فقلت له : أنا قد أبلغتك وقلت لك ، فإن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل ، وانصرفت وتركته وجئت إلى أبي الحسن (ع) فوجدت امرأتي قاعدة على الباب والأبواب مغلقة ، فلم أزل أفتح واحداً منها حتى انتهيت إليه فوجدته وأعلمته الخبر ، فقال : نعم قد جائني وانصرف ، فخرجت إلى امرأتي فقلت لها : جاء أحد بعدي فدخل هذا الباب ؟ فقالت : لا واللـه ما فارقت الباب ولا فتحت الأقفال حتى جئت )(13).
(1) بحار الأنوار : ( ج 48 ، ص 291 ) .
(2) مقاتل الطالبيين : ( ص 505) .
(3) من نواحي رامهرمز في خوزستان إيران .
(4) موسوعة البحار : ( ج48 ، ص 260 ) .
(5) المصدر : ( ص 226 - 227 ) .
(6) المصدر : ( ص 176 ، 178 ) .
(7) المصدر : ( ص 179 ) الهامش عن شرح مشيخة الفقيه : ( ص 56 - 57 ) .
(8) المصدر : ( ص 174 ) .
(9) علي بن يقطين بن موسى البغدادي مسكناً ، والكوفي أصلاً ، مولى بني أسد يكنى أبا الحسن ، من وجوه هذه الطائفة ، جليل القدر ، وقد ضمن له الإمام الكاظم (ع) الجنة وأن لا تمسه النار ، وفي الكشي أحاديث دلت على عظم شانه وجلالة قدره ، وأنه كان يحمل إلى الإمام الكاظم (ع) أموالاً طائلة ، فربما حمل مائة ألف إلى ثلاثمائة ألف ، وكان علي يبعث في كل سنة من يحج عنه حتى أحصى له في بعض السنين مائة وخمسين أو ثلاثمائة ملبي ، وكان يعطي بعضهم عشرة آلاف وبعضهم عشرين ألف ، مثل الكاهلي وعبد الرحمن بن الحجاج وغيرهما ، ويعطي أدناهم ألف درهم ، له كتب رواها عنه أبنه الحسن وأحمد بن هلال مات سنة 182 في أيام حياة أبي الحسن الكاظم ببغداد ، وأبو الحسن في سجن هارون وقد بقى فيه أربع سنين .
" باقتضاب عن شرح مشيخة الفقيه : ( ص47 ) عنه هامش كتاب البحار : ( ص 178 ، ج 48 ) " .
(10) المصدر : ( ص 59 - 60 ) .
(11) المصدر : ( ص 35) .
ويبدو ان الامام امرهم بالانصراف من زيارة النبي (ص) والاكتفاء بزيارة خليفته زيارة مباشرة ، وذلك حين قال : اما رسول اللـه فقد رأيتماه .