يقول الإمام علي (عليه السلام) في الخطبة رقم (184) عن خلق الأرض: (وأنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال، وأرساها على غير غرار. وأقامها بغير قوائم، ورفعها بغير دعائم، وحصنها من الأود والاعوجاج، ومنعها من التهافت والانفراج. أرسى، وضرب أسدادها، واستفاض عيونها، وحد أوديتها. فلم يهن ما بناه، ولا ضعف ما قوّاه).
وفي قوله (عليه السلام): (وأرساها على قرار) وما بعده، رد على من زعم أن الأرض تدور على قرن ثور ونحوه، من الأباطيل والأوهام.
ويقول (عليه السلام) في الخطبة (89) في صفة الأرض ودحوها على الماء: (كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة، ولجج بحار زاخرة... الخ).
ففي هذا يبين أن الله سبحانه خلق الماء قبل خلق الأرض، ثم وضع الأرض على الماء وضغطها بشدة، فسكنت أمواج المياه بعد أن كانت هائجة مستفحلة، وأصبحت ساجية مقهورة لجاذبية الأرض، وهي التي تغطي ثلاثة أرباع الأرض، عدا عما يتخلل الربع الباقي من جيوب الينابيع وأجواف الماء، وفي كلام الإمام هذا تفصيلات دقيقة عن خلق الأرض لم تتوصل إليها نظريات العلماء الجيولوجيين.
خلق الجبال والينابيع
إلى أن يقول (عليه السلام): (فلما سكن هيج الماء من تحت أكنافها، وحمل شواهق الجبال الشمخ البذخ على أكتافها، فجر ينابيع العيون من عرانين أنوفها، وفرقها في سهوب بيدها وأخاديدها، وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها، وذوات الشناخيب الشم من صياخيدها.
فسكنت من الميدان لرسوب الجبال في قطع أديمها، وتغلغلها متسربة في جوبات خياشيمها، وركوبها أعناق سهول الأرضين وجراثيمها. وفسخ بينها وبينها، وأعد الهواء متنسماً لسكانها، وأخرج إليها أهلها على تمام مرافقها).
فيصور الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع تشكل الجبال بعد أن سكن الماء الحامل للأرض وأحاطها من جميع أطرافها، فيقول: لما حمل الله تعالى شواهق الجبال على أكتاف الأرض، فجر ينابيع العيون من سفوحها، وأجرى تلك الينابيع في شقوق الأرض وصحاريها. وعدل بذلك حركة الأرض بما أنشأ من الصخور الثقال والجبال العالية، فسكنت عن الاضطراب لنزول الجبال في أجزاء سطحها، ودخولها في أصول الأرض... ثم جعل سبحانه للأرض جواً فسيحاً، جعل أسفله موضعاً لحركة الهواء، الذي يروح بنسيمه عن المخلوقات التي أوجدها عليها وأمّن لها جميع مرافقها. وفي هذا الكلام حقائق علمية جديرة بالتأمل منها:
- أولاً: أن الله سبحانه خلق في الجبال مخازن المياه التي تنفجر عنها العيون.
- ثانياً: ومنها أن سطح الأرض كان أثناء تشكله عرضة للاضطراب، فثبت الله الأرض بما رسخ من الجبال القاسية في أديمها. فالأرض كانت مائدة مضطربة قبل جمودها، وأول ما تجمد منها الجبال، فمنعتها عن الاضطراب.
- ثالثاً: ومنها ما اكتشفه علم الجيولوجيا الحديث عن تركيب الجبال، وهو أن لكل جبل وتداً في الأرض، يمسكه عن الانزلاق والتهافت، ويمسك به طبقات الأرض عن أن تتفكك عن بعضها وتتحرك، فالوتد أشبه ما يكون بالمسمار الفولاذي الذي يخترق الصفائح المعدنية ليمسكها ببعضها، ولولا ذلك لمادت الأرض بأهلها، ولتبدل سطح الأرض باستمرار، فوجود الجبال يتيح للإنسان حياة مستقرة على سطح الأرض.
تسخير الينابيع والسحب لحياة النبات والإنسان
ثم يقول (عليه السلام):
(ثم لم يدع جرز الأرض التي تقصر مياه العيون عن روابيها، ولا تجد جداول الأنهار ذريعة إلى بلوغها، حتى أنشأ لها ناشئة سحاب تحيي مواتها، وتستخرج نباتها...).
إلى أن يقول (عليه السلام):
(فلما ألقت السحاب برك بوانيها، وبعاع ما استقلت به من المحمول عليها، أخرج به من هوامد الأرض النبات، ومن الجبال الأعشاب، فهي تبهج بزينة رياضها وتزدهي بما ألبسته من ربط أزاهيرها، وحلية ما سمطت به من ناضر أنوارها، وجعل ذلك بلاغاً للأنام، ورزقاً للأنعام..).
فالإمام (عليه السلام) يصف في هذا بعض مظاهر القدرة الإلهية والعناية الربانية، فيما سخر للمخلوقات على سطح الأرض، من الماء الذي لا غنى لأحد من المخلوقات عنه، فقد سخر لها جيوباً في الجبال تنفجر من لدن الينابيع لتشكل الجداول والأنهار، وهي في الشتاء لتستمر متدفقة طول الصيف، ثم هي عذبة الماء باردة المعين، على غير شاكلة البحار التي نشأت منها...
ثم إنه سبحانه بثّ نعمته في جميع أنحاء الأرض، فبعض المناطق منحها الينابيع والمياه الجوفية في حين عوض بعضها الآخر عن ذلك بما أنشأ لها من سحب تجود عليها بالماء بين الآونة والأخرى.
ثم يصور (عليه السلام) كيفية نزول الأمطار من هذه السحب، حتى تحط كل عبئها الذي تحمله فوق الأرض الجدباء، فإذا هي رابية بعد همودها، مليئة بأنواع الأعشاب، وأصناف النبات وألوان الرياض، تزهر بأزاهيرها، وتختال بما تحلّت به من عقود أنوارها الساحرة.. كل ذلك رزقاً للأنعام وكفاية لبني الإنسان.
وفي آخر الخطبة رقم (209) يبين (عليه السلام) كيفية نشوء السحب والغيوم من ماء البحر عن طريق عصف الرياح به، فيقول:
(فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها، وأجمدها بعد رطوبة أكنافها. فجعلهما لخلقه مهاداً، وبسطها لهم فراشاً. فوق بحر لجّي راكد لا يجري وقائم لا يسري، تكركره الرياح العواصف، وتمخضه الغمام الذوارف، (إن في ذلك عبرة لمن يخشى).
وفي الواقع إن السحب التي يبعثها الله رحمة للعباد، تنشأ عن طريق تكنيس الرياح للطبقات السطحية من البحار والمحيطات، فتلعب بها وتمخضها، حاملة معها بخار الماء وذرّاته بكميات وافرة، ثم تعلو بها إلى السماء، وتسوقها إلى الأرض العطشى فتسقيها، وإلى الجبال الشاهقة فتملأ جيوبها وخازنها.
ورغم وفرة تلك السحب والغيوم فإنها لا تنعقد أمطاراً وقطراً إلا حيثما يريد الله وفي الزمان الذي يريده سبحانه، فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء، (إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار)(10).