التنفير من البخل و البخلاء
عجبت للبخيل يستعجل الفقر الفقر الذي منه هرب ويفوته الغنى الذي إياه طلب
فيعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء
نهج البلاغة – حكمة 126
تعجب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كما في حكمة من حكم نهج البلاغة من ستة و هم، البخيل، و المتكبر و الشاك في الله، الناسي للموت أو الغافل عنه، و لمنكر الآخرة، و لمعمّر الدّنيا دون الآخرة.
و مورد التعجب للمتكبر أنّ بدايته نطفة و آخره جيفة فليس له مكان للتكبر، و الشاك في الله و هو يرى خلق الله، و ناسي الموت و هو يرى الموتى يوميا، و لمنكر النشأة الأخرى و إعادة الأبدان بعد عدمها و هو يرى النشأة الأولى ابتداء دون إعادة و الإعادة أهون، و لمعمّر الدّنيا و ناسي الآخرة و هو يرى زوال الدّنيا و فنائها و لا يعمّر الآخرة مع بقائها و خلودها، فلا ينبغي للنّاس الاتصاف بهذه الصفات مورد التعجّب من البخل و التكبر، و لا ينبغي الشك في الله و نسيان الآخرة، أو إنكارها، و لا تعمير الدّنيا و ترك الآخرة، و الغرض من الحكمة و ذكرهم هو التنفير عن رذائلهم هذه التي تهلك الأفراد و الأمم و الترغيب في أضدادها.
و أمّا البخيل الذي يجمع المال و العقار و يقتّر على نفسه و على الآخرين و يكره صرف المال فمورد التعجب فيه هو أنّه يبخل خوف الفقر و الحاجة، و لكنه عمليا يقع في الفقر، فهو يقع فيما هرب منه، و يعيش في حالة من الفقر و البؤس و الحرمان، فهو مستعجل للفقر الذي هرب منه.
و إنّه يطلب الغنى ببخله و الحقيقة أنّ هذا البخل هو مفوت لغناه، لأنّه لا يشعر بلذة الغنى و لا يستمتع بغناه، فما ظنّه سببا لغناه الذي يطلبه هو حقيقة سبب لفقره، و هو البخل.
و نتيجة للبخل هو أنّ البخيل يعيش في الدّنيا حياة و حالة الفقراء الذين لا تتوفر لهم مقومات الحياة من الأكل و الشرب الطيب، و اللبس الجيد، و شراء ضروريات ما يحتاجه، و لكن حسابه في الآخرة حساب الأغنياء لأنّه يملك مواد الغنى من مال و عقار و ثروة.
و على هذا فإنّ الفقر للبخيل خير و أفضل من الغنى لأنّ الفقير يُحاسب في الآخرة بمقدار و حساب فقره، أما البخيل الغني فإنّه يحاسب بمقدار غناه و ممتلكاته.
قال عليه السلام: «عَجِبْتُ لِلْبَخِيلِ يَسْتَعْجِلُ الْفَقْرَ الَّذِي مِنْهُ هَرَبَ، وَ يَفُوتُهُ الْغِنَى الَّذِي إِيَّاهُ طَلَبَ، فَيَعِيشُ فِي الدُّنْيَا عَيْشَ الْفُقَرَاءِ، وَ يُحَاسَبُ فِي الْآخِرَةِ حِسَابَ الْأَغْنِيَاءِ»1.
و البخل يقابل السخاء و هي الملكة التي توجب انفاق المال و الممتلكات، و الأقرب أنّ هذه صفات اكتسابية من البيئة و المحيط الاجتماعي و تأثيرات التربية، و يمكن الاتصاف بها بكثرة مزاولتها و المداومة عليها، فمن كان بخيلا يستطيع أن يتحول إلى كريم بالمزاولة و المداومة عليها، فيصبح البخيل سخيا و الحريص كريما.
على ضوء الروايات أنّ مثل هذا البخيل يحاسب يوم القيامة حساب الأغنياء من أصحاب الأموال بينما الفقراء المؤمنين يتنعمون في الجنّة، في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام «إنَّ فُقَرَاءَ اَلْمُؤْمِنِينَ يَتَقَلَّبُونَ فِي رِيَاضِ اَلْجَنَّةِ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفاً، ثُمَّ قَالَ سَأَضْرِبُ لَكُمْ مَثَلاً إِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ سَفِينَتَيْنِ مُرَّ بِهِمَا عَلَى بَاخِسٍ فَنَظَرَ فِي إِحْدَاهُمَا فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئاً فَقَالَ أَسْرِبُوهَا، وَ نَظَرَ فِي اَلْأُخْرَى فَإِذَا هِيَ مَوْفُورَةٌ فَقَالَ اِحْبِسُوهَا»2.
و في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام أيضا «إِذَا كَانَ يَوْمُ اَلْقِيَامَةِ قَامَ عُنُقٌ مِنَ اَلنَّاسِ حَتَّى يَأْتُوا بَابَ اَلْجَنَّةِ فَيَضْرِبُوا بَابَ اَلْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُمْ مَنْ أَنْتُمْ، فَيَقُولُونَ نَحْنُ اَلْفُقَرَاءُ، فَيُقَالُ لَهُمْ أَ قَبْلَ اَلْحِسَابِ، فَيَقُولُونَ مَا أَعْطَيْتُمُونَا شَيْئاً تُحَاسِبُونَّا عَلَيْهِ، فَيَقُولُ اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ صَدَقُوا اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ»3.
فالبخيل لا يدفع فقرا و إنّما يقع فيه، و لا يطلب غنى و إنّما يفوته، و ليس له عيش سعيد و هنيئ بل شقاء و بؤس، و حسابه عسير شديد، فهو خاسر في الدّنيا و الآخرة، ﴿ ... وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ... ﴾ 4 و هو المتضرر و الخسران.
ثم أنّ البخل لا يكتفي بنفسه و إنّما يجر معه صفات أخرى من الجبن و الحرص و الشك و القلق.
و في نهج البلاغة عدد من الروايات في ذم البخل و التنفير منه، قال عليه السلام «الْبُخْلُ عَارٌ»5، «الْبُخْلُ جَامِعٌ لِمَسَاوِئِ الْعُيُوبِ وَ هُوَ زِمَامٌ يُقَادُ بِهِ إِلَى كُلِّ سُوءٍ»6، «وَ لَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلًا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَ يَعِدُكَ الْفَقْر،َ وَ لَا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ، وَ لَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ وَ الْجُبْنَ وَ الْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ»7.
و من كلام له عليه السلام يوبخ البخلاء بالمال و النفس، قال «فَلَا أَمْوَالَ بَذَلْتُمُوهَا لِلَّذِي رَزَقَهَا، وَ لَا أَنْفُسَ خَاطَرْتُمْ بِهَا لِلَّذِي خَلَقَهَا، تَكْرُمُونَ بِاللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَ لَا تُكْرِمُونَ اللَّهَ فِي عِبَادِهِ، فَاعْتَبِرُوا بِنُزُولِكُمْ مَنَازِلَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَ انْقِطَاعِكُمْ عَنْ أَوْصَلِ إِخْوَانِكُمْ»8.
و التحذير من مصادقة البخيل لتقاعسه وقت الحاجة، «وَ إِيَّاكَ وَ مُصَادَقَةَ الْبَخِيلِ فَإِنَّهُ يَقْعُدُ عَنْكَ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ»9.
أو توليته أمور المسلمين و جعله واليا لحرصه و جشعه، «وَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَالِي عَلَى الْفُرُوجِ وَ الدِّمَاءِ وَ الْمَغَانِمِ وَ الْأَحْكَامِ وَ إِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ»10.
و كذلك في غرر الحكم، قال عليه السلام في ذم البخل و البخيل «الْبَخِيلُ خَازِنٌ لِوَرَثَتِهِ»11، «الْبَخِيلُ يَبْخَلُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْيَسِيرِ مِنْ دُنْيَاهُ وَ يَسْمَحُ لِوُرَّاثِهِ بِكُلِّهَا»12، «أَبْعَدُ الْخَلَائِقِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْبَخِيلُ الْغَنِيُّ»13.
و ذكر أمير المؤمنين عليه السلام في حكم غرر الحكم صفات البخيل فهو كثير التعلل و ليس له رفيق أو حبيب، و ليس ناصحا سليما، وهو على غيره أبخل، و لا مروّة له، و هو ذليل و مذموم.
و كذلك ذكر عليه السلام صفة البخل و آثاره، ففي غرر الحكم أنّ البخل يزري بصاحبه، و يذله، و يكسب العار و المسبة و المقت، و يشين العرض و المحاسن، و يوجب البغضاء، و يمنع الشكر، و يشيع العيوب، و ينفر القريب، و يفسد الأخوة.
بل و حتى النظر إلى البخيل له أثر قلبي سلبي، ففي تحف العقول روي عن أمير المؤمنين عليه السلام «اَلنَّظَرُ إِلَى اَلْبَخِيلِ يُقْسِي اَلْقَلْبَ»14.
و في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام «إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ فِي عَبْدٍ حَاجَةٌ اِبْتَلاَهُ بِالْبُخْلِ»15.
التنفير من البخل و البخلاء
العرض العادي
