قوله تعالى : ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم
فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل
فنجعل لعنة الله على الكاذبين " .
في غاية المرام : الشيخ المفيد في كتاب الاختصاص ، عن محمد بن
الحسن بن أحمد - يعني ابن الوليد - عن أحمد بن إدريس ، عن محمد بن .
أحمد ، عن محمد بن إسماعيل العلوي ، قال : حدثني محمد بن الزبرقان
الدامغاني الشيخ ، قال : قال أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام ، قال : اجتمعت
الأمة برها وفاجرها أن حديث النجراني حين دعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المباهلة ، لم
يكن في الكساء إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهما السلام ، فقال الله
تبارك وتعالى : ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم ، فقل تعالوا
ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم " ، فكان تأويل
أبناءنا الحسن والحسين ، ونساءنا فاطمة ، وأنفسنا علي بن أبي طالب سلام الله
عليهم .
وقد روى العامة بأسانيد صحيحة أن معاوية بن أبي سفيان ، قال
لسعد : ما يمنعك أن تسب أبا تراب ، فقال : لما ذكرت ثلاثا قالهن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلن أسبه ، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر
النعم .
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول حين خلفه في بعض مغازيه ، فقال له
علي عليه السلام : يا رسول الله ، خلفتني مع النساء والصبيان ؟ فقال له
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "
أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه
لا نبي بعدي ؟ " ،
وسمعته يقول يوم خيبر : " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله
ورسوله ، ويحبه الله ورسوله " قال : فتطاولنا لها ، فقال : ادعوا لي عليا ،
فأتي به أرمد العين ، فبصق في عينيه ، ودفع الراية إليه ففتح الله على يده .
ولما نزلت هذه الآية : ( قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا
ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل ) دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا وفاطمة
وحسنا وحسينا ، وقال: اللهم هولاء أهل بيتي .
أقول : انحصار أصحاب الكساء في الخمسة الطيبة سلام الله عليهم
مما اجتمعت عليه الأمة ، ولم يختلف فيه أحد منهم ، كما نبه عليه مولانا
الكاظم عليه السلام ، وتواترت فيه روايات الفريقين ،
ولا ينافي ذلك التعبير بصيغة
الجمع في كل من الفقرات ، مع عدم تعدد النساء والأنفس ، لأن التعبير عن
الواحد بصيغة الجمع في مقام التعظيم شائع ، مع أن التعبير بصيغة الجمع في
المقام إنما هو لتبيين أن كلا من المتباهلين ينبغي أن يدعو خواص أهل بيته من
هذه الأصناف الثلاثة في مقام المباهلة ، سواء تعدد أفراد كل صنف أم لا
فإحضاره صلى الله عليه وآله وسلم من البنين سيدي شباب أهل الجنة : الحسن والحسين عليهما السلام ، ومن
النساء الصديقة الطاهرة عليها السلام ، ومن الأنفس مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ، يكشف
عن أنهم أخص أهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يكن فيهم من يدانيهم في الفضل ، حتى
يدعوه معهم ، فالآية الكريمة دلت على أن الذين اختارهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
للمباهلة مع النصارى بأمر الله عز وجل ، وجعلهم تحت الكساء كانوا أحب
الخلق وأقربهم إلى الله تعالى ، وإلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، كما أنها دلت على أن
مولانا أمير المؤمنين [ عليه السلام ] من بينهم أخص وأقرب ، حيث نزله تعالى
شأنه منزلة نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ لا مجال لدخوله عليه السلام في غير أنفسنا .
أنه
كما لا مجال لتأويل أنفسنا بغير مولانا أمير المؤمنين ، إذ الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمباهلة
باتفاق الأمة لم يكونوا إلا مولانا أمير المؤمنين ، وفاطمة الزهراء ، والحسن ، والحسين عليهم السلام
وتأويله بنفس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يجوز من وجوه :
الاول : أنه يلزم أن لا يكون حينئذ ذكر عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام مع دخوله عليه السلام في
المدعوين للمباهلة باتفاق الأمة .
والثاني : أنه يلزم اتحاد الداعي والمدعو ، وبطلانه واضح .
والثالث : أنه يلزم زيادة قوله تعالى : ( وأنفسنا وأنفسكم ) وعدم الحاجة إليه ، لدخوله
في قوله تعالى ( قل تعالوا ندع )
ولا ينافي ذلك تأخيره في الذكر عن " أبناءنا ونساءنا " لأن الترقي إنما
هو من الخاص إلى الأخص ، ومن العالي إلى الأعلى ، مع أنه لو قدم لتوهم
كونه تأكيدا للضمير ، فيفوت المقصود حينئذ .
وكيف كان ، فقد اتضح لك أن الآية الكريمة تدل على أن منزلة مولانا
أمير المؤمنين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منزلة نفسه منه صلى الله عليه وآله وسلم ، ويدل على ذلك أيضا ما
رواه العامة والخاصة من أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لبني وليعة : لتنتهين يا بني وليعة أو لأبعثن إليكم رجلا كنفسي ، يقتل مقاتليكم ، ويسبي ذراريكم ، وإنما عنى
عليا عليه السلام .
في غاية المرام : قال ابن أبي الحديد : الخبر المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أنه قال لبني وليعة : لتنتهين يا بني وليعة ، أو لأبعثن إليكم رجلا عديل
نفسي ، يقتل مقاتليكم ، ويسبي ذراريكم ، قال عمر بن الخطاب : فما تمنيت
الإمارة إلا يومئذ ، وجعلت أنصب له صدري رجاء أن يقول هو هذا ، فأخذ
علي عليه السلام .
ويدل عليه أيضا ما رواه في غاية المرام ، عن موفق بن أحمد بإسناده ،
عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من نبي إلا وله نظير في
أمته ، وعلي نظيري
وعن أحمد بن حنبل في مسنده ، قال : أخبرنا أبو غالب محمد بن
أحمد بن سهل النحوي ، يرفعه إلى سعد بن حذيفة ، عن أبيه حذيفة بن
اليمان ، قال : آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار ، وكان يؤاخي بين
الرجل ونظيره ، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب عليه السلام ، فقال : هذا أخي ، قال
حذيفة : فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيد المسلمين ، وإمام المتقين ، ورسول رب العالمين ،
الذي ليس له شبه ونظير . وعلي عليه السلام أخوه .
وإذا اتضح لك أن منزلته من الرسول صلى الله عليه وآله و
سلم منزلة نفسه منه صلى الله عليه وآله وسلم اتضح لك اختصاص الخلافة والامامة به، ضرورة أن خلافة شخص عن شخص آخر
عبارة عن تنزيله منزلته ، وقيامه مقامه ، وصيرورته بمنزلة نفسه ، ولا حقيقة للخلافة إلا ذلك .
فبعد ثبوت هذه المنزلة لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام من رسول الله بنص
الآية الكريمة ، لا يعقل سلب الخلافة عنه ، ويكون السلب في حكم
المناقضة بل عينها ، ويكون التصريح بالخلافة تأكيدا وإرشادا إلى ثبوت هذه
المنزلة .
إذ تنزيله منزلة نفسه صلى الله عليه وآله وسلم إطلاقا لا يجتمع مع عدم خلافته عليه السلام عنه صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنها من أحد وجوه
التنزيل ، بل أظهرها وأجلاها ، بحيث لو نزل منزلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا في مقام الولاية والإمامة
التي هي عمدة شؤونه لا يصح التعبير عنه عليه السلام بأنه نفس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قطعا .
وأيضا خلافة شخص عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من جهة رسالته وولايته
المستتبعة لافتراض طاعته على الناس ، ووجوب البيعة معه فرع اتصافه
بصفات الأصل الموجبة لاستحقاقه الخلافة ، وصيرورته أهلا لها ، بحيث
لا يكون جعلها له للشئ في غير محله ، والاتصاف بصفات الأصل له
مراتب متدرجة ، ودرجات متصاعدة ، وأقوى المراتب وأكمل الدرجات ،
بحيث لا يتصور فوقها مرتبة ، هو درجة بلوغه مرتبة يصح معها أن يقال إنه
نفس الأصل على وجه الاطلاق ، من دون تقييد بصفة خاصة ، فمن له هذه
المنزلة يستحق الخلافة عن الأصل قطعا ، ولا يعقل العدول عنه إلى من لم
يكن كذلك ، مع وجوده بالضرورة .
وأيضا بعد ما تبين لك أن الآية الكريمة تدل على أن أصحاب الكساء
أقرب الخلق ، وأحبهم إلى الله تعالى ، تبين لك أنه لا يعقل صرف الخلافة
عنهم إلى غيرهم ، ضرورة استحالة أن يكون الأبعد مولى للأقرب ، فتبين أن
الآية الكريمة تدل على اختصاص الخلافة والإمامة بمولانا أمير المؤمنين عليه السلام
وجوه متعددة ، والفرق بين الوجوه ظاهر للمتأمل .
فإن قلت : دلالة قوله عز من قائل : ( وأنفسنا ) على خلافته
وإمامته عليه السلام مسلمة ، ولكن لا دلالة له على اختصاص الإمامة به عليه السلام إذ
لا ينافي ذلك مع تنزيل شخص آخر بمنزلة نفسه صلى الله عليه وآله وسلم أيضا ، فلا مانع من ثبوت
الخلافة للخلفاء الثلاثة حينئذ .
قلت : ثبوت الخلافة له عليه السلام بنص الآية الكريمة مانع عن ثبوت الخلافة
لغيره بالبيعة واتفاق أهل الحل والعقد من الناس ، إذ لا مجال للبيعة والاتفاق
مع وجود النص بالضرورة ، واتفاق الأمة وخلافة الخلفاء الثلاثة عند القائلين
بها ، لا تكون بالنص ، بل خلافة الأول بالبيعة ، وخلافة الثاني بنصبه الأول ،
وخلافة الثالث بحكم الشورى التي جعلها الثاني بزعمهم .
وأيضا لو كانت منزلتهم من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم منزلة نفسه منه صلى الله عليه وآله وسلم لأدخلهم
تحت الكساء للمباهلة ، لأن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة من كان كذلك
للمباهلة ، فعدم دعوته إياهم للمباهلة كاشف عن عدم ثبوت هذه المنزلة
لهم .