لم يُرضِنا أن دَعا بالبَينِ طائرُنا *** شَقُّ الجُيوبِ، وما شُقّتْ مرائرُنا
يا غائبينَ ومأواهم سرائرُنا *** تَكادُ حينَ تُناجيكُم ضَمائرُنا
يقضي علينا الأسَى لولا تأسينا
حمدتُ أيّام أُنسٍ لي بكم سَعِدتْ *** وأسعَدتْ إذ وَفتْ فيكم بما وَعدتْ
فاليومَ إذ غِبتمُ، والدّارُ قد بعُدتْ *** حالتْ لفقدكمُ أيامُنا فغدتْ
سوداً، وكانتْ بكم بيضاً ليالينا
فزنا بنيلِ الأماني من تشرفِنا *** بقربكم، إذا برينا من تكلفنا
حتى كأنّ اللّيالي في تصَرفنا *** إذا جانبُ العيشِ طلقٌ من تألفِنا
ومَورِدُ اللّهوِ صافٍ من تَصافينا
كم قد وردنا مياهُ العزّ صافية ً*** وكم عَللَنا بها الأرواحَ ثانيَة ً
إذْ عينُها لم تكن بالمنّ آنية ً*** وإذ هصرنا غصونَ الأنسِ دانية ً
قطوفها، فجنينا منهُ ماشينا
يا سادة ً كانَ مغناهم لنا حرما *** وكانَ رَبعُ حَماة ٍ للنّزيلِ حِمَى
كم قد سَقيتم مياهَ الجودِ ربّ ظمَا *** ليسقِ عهدكمُ عهدُ الغمامِ فما
كنتم لأرواحِنا إلاّ رياحينا
هل يعلمُ المسكرونا من سماحهمُ *** برشفِ راحِ النّدى من كأسِ راحهمْ
أنا لبِسنا الضّنا بعدَ التماحهمُ *** من مبلغُ الملبسينا بانتزاحهمُ
ثوباً من الحزنِ لا يبلي ويبلينا
إذا ذكرنا زَمانا كان يُدرِكُنا *** بالقُربِ منكم، وفي اللّذاتِ يُشرِكُنا
لا نَملِكُ الدّمعَ والأحزانُ تملكُنا *** إنّ الزمانَ الذي قد كان يضحكُنا
آناً بقربكُم قد صارَ يبكينا
نعى المؤيد قومٌ لودروا ووعوا *** أيَّ الملوكِ إلى أيّ الكِرام نعَوا
أظنّهُ، إذ سقانا الودَّ حينَ سعَوا *** غِيظَ العِدى من تَساقينا الهوى فدعَوا
بأن نغصّ، فقالَ الدهرُ آمينا
لمّا رأوا ما قَضينا من مَجالِسِنا *** وسِبطَ أنسٍ رأينا من مَجالِسِنا
دعوا لنفجعَ في الدّنيا بأنفسِنا *** فانحلّ ما كانَ معقوداً بأنفسِنا
وانبَتَّ ما كانَ مَوصولاً بأيدينا
أينَ الذينَ عَهِدْنا الجودَ يُوثِقُنا *** في رَبعِهم، ولهم بالشّكرِ يُنطِقُنا
وكان فيهم بهم منهم تأنقنا *** وقد نكونُ وما يُخشَى تَفَرّقُنا
فاليومَ نحنُ، وما يرجَى تلاقينا
يا غائبين، ولا تخلو خواطرنا *** من شَخصِهم وإن اشتاقتْ نواظرُنا
واللَّهِ لا يَنقَضي فيكم تَفكّرُنا *** لا تحسبوا نأيكم عنّا يغيرُنا
إنْ طالَ مَا غَيّرَ النّأيُ المُحّبينا
إنّا، وإن زادَنا تَفريقُنا غُلَلاً *** إلى اللّقا، وكسانا بعدكم عِلَلاً
لم نَدعُ غَيرَكمُ سُؤلاً، ولا أملاً *** واللهِ ما طلبتْ أرواحُنا بدلاً
منكم، ولا انصرفتْ عنكم أمانينا
إذا ذكرتُ حِمَى العاصي ومَلعَبِهِ *** والقَصرَ والقُبّة َ العُليا بمَرقَبِهِ
أقولُ، والبرقُ سارٍ في تلهبهِ *** يا ساريَ البرق غادي القصرَ فاسقِ بهِ
من كان صَرفَ الهَوى والوُدّ يَسقينا
يا غاديَ المزنِ إن وافيتَ حلتَنا *** على حَماة َ، فجُد فيها محَلّتَنا
واقرَ السلامَ بها عنّا احبتنا *** ويا نسيمض الصَّبا بلغْ تحيتنا
مَن لو على البُعدِ مُتنا كانَ يُحيينا
نحنُ الفداءُ لمن أبقَى لنا خلفاً *** من ذكرهِ، وإن ازددنا به أسفاً
وإن نكن دونَ أن يُفدى بنا أنفاً *** ما ضرّ إن لم نكن أكفاءهُ شرفاً
وفي المَوَدّة ِ كافٍ من تَكافينا
يا مَن يَرى مَغنَمَ الأموالِ مَغرَمة ً *** إن لم يُفِدْ طالبي جَدواهُ مَكرُمة ً
إنّا، وإن حُزتَ ألقاباً مكَرَّمة ً*** لَسنا نُسَمّيكَ إجلالاً وتَكرِمة ً
وقدرُكَ المُعتَلي عن ذاكَ يُغنينا
كم قد وصفتَ بأوصافٍ مشرفة ٍ*** في خطّ ذي قلمٍ أو نطقِ ذي شفة ٍ
فقَد عَرفناكَ منها أيَّ مَعرِفَة ٍ*** إذا انفَرَدتَ وما شُورِكتَ في صِفة ٍ
فحسبنا الوصفُ إيضاحاً وتبيينا
خلّفتَ بعدَكَ للدّنيا وآمِلِها *** نجلاً يسرّ البرايا في تأملِها
فلم تقل عنك نفسٌ في تململها *** يا جنة َ الخلدِ أبدلنا بسلسلِها
والكوثرِ العذبِ زقوماً وغسلينا
كم خلوة ٍ هزنا للبحثِ باعثُنا *** فليسَ يؤنسنا إلاذ مباحثنا
فاليَومَ أُخرِسَ بالتّفريقِ نافثُنا *** كأنّنا لم نبتْ، والوصلُ ثالثُنا
والدهرُ قد غضّ من أجفانِ واشينا
ولَيلَة ٍ قد حَلا فيها تَنادُمُنا *** والعزُّ يكنفنا، والسعدُ يقدمنا
ونحنُ في خَلوَة ٍ، والدّهرُ يَخدُمُنا *** سرينِ في خاطرِ الظلماءِ يكتمنا
حتى يكادُ لسانُ الصبحِ يفشينا
للَّهِ كم قد قضَينا منكمُ وطراً *** قد كان عيناً فأمسَى بعدكم خبرا
لا تَعجَبوا إن جعلنا ذكرَكم سمراً *** إنّا قَرأنا الأسَى يومَ النّوى سُوَراً
متلوة ً، واتخذنا الصبرَ تلقينا
كم من حَبيبٍ عَدَلنا مع تَرحّلِهِ *** إلى سِواهُ، فأغنى عن تأمّلِه
وصعبِ وردٍ عدلناهُ بأسهلِهِ *** أما هواكَ، فلم يعدَل بمنهلِهِ
شُرْباً وإن كانَ يَروينا، فيُظمينا
تشكو إلى اللهِ نفسٌ بعَ ما لقيتْ *** غبّ النعيمِ الذي من بعدِه شقيتْ
فَيا سَحاباً بهِ كلُّ الوَرى سُقِيتْ *** عليكَ منّى سَلامُ اللَّهِ ما بقيَتْ
صَبابَة ٌ منكَ تُخفيها وتُخفينا