![]() |
الفصل الرابع : خلقــه وفضائلــه
خلقه وفضائله : إنما جعل اللـه أنبياءه وحملة رسالاته من البشر ، لكي تتم الحجة على الناس فيقتدوا بهم ، ولو كانوا ملائكة لكان الناس يقولون مالنا والملائكة ، أوليسوا من جنس آخر ؟ بلى وإن الإنسان مفطور على حب الفضيلة ، وإذا تجسدت في شخص ازداد لها حباً ، ودفعته دواعي الخير في ذاته إلى اتباعه ، والسعي لكي يكون مثله . إنك لو ألقيت على شخص محاضرة مفصّلة عن فضيلة الإحسان فإنه لا يندفع بقدر ما لو حكيت له قصة رجل محسن . إن مكارم أخلاق الأئمة من أهل البيت (ع) أفضل منهاج تربوي ، وإنهم - بحق - أسمى قدوات الخير والفضيلة ، وإن سيرة حياتهم الحافلة بالمكرمات أقوى حجة على سلامة نهجهم في التربية وسلامة خطتهم في الحياة ، وإن أفكارهم التي تناقلتها الرواة هي التفسير الصحيح للقرآن الحق ، أوليسوا من البشر ؟ إذاً كيف بلغوا هذا الشأن من العظمة ، ألم يبلغوه بتطبيق هذه الأفكار التي رويت عنهم ؟ بلى ، أولسنا نحن أيضاً نريد العظمة ؟ إذاً دعنا نقرأ تلك الأفكار ونتفاعل معها . والواقع أن التاريخ لم يحفظ لنا من سيرة الأئمة إلاّ قليلاً ، لأنهم كانوا محاصرين إعلامياً من قبل سلطات الجور حتى أن رواية فضيلة لهم كانت تكلِّف في بعض العصور حياة الراوي ، وكان على الشاعر دعبل أن يحمل على كتفه خشبة إعدامه لمدة ربع قرن ، ويهيم على وجهه في القفار لأنه كان يمدح أهل البيت . ومع ذلك فإن ما تبقّى من فضائلهم يعتبر دورة تربوية كاملة لمكارم الأخلاق . ولأن عاش إمامنا الكاظم (ع) في أشد أيام الصراع وأصعب أوقات التقيّة وسرّية العمل ، فإن اختراق قصصه لحصار السلطات يعتبر معجزة ، وعلينا أن نستدل بما وصلتنا من قصصه وهي قليلة على ما لم تصل إلينا وهي الأكثر . أ - عبادته وزهده : من أبرز سمات القيادات الرسالية الزهد ، والتقشف والإجتهاد في التبتل إلى اللـه تعالى ، وقد كان عصر الإمام الكاظم (ع) معروفاً بالعصر الذهبي ، وكانت بيوت السلطة العباسية تفيض بالثروات الطائلة، وتشهد حفلات المجون ، كالتي نقرأ بعضها في قصص ألف ليلة وليلة ، وفي ذات الوقت ينقل إبراهيم بن عبد الحميد ويقول : ( دخلت على أبي الحسن الأول (ع) في بيته الذي كان يصلي فيه فإذا ليس في البيت شيء إلاّ حضفة (1) وسيف معلق ومصحف ) (2). وكان (ع) يسعى إلى بيت اللـه الحرام ماشياً لشدة تواضعه لله ، واجتهاده في العبادة ، وإذا عرفنا المسافة بين المدينة ومكة التي تقارب ( 400) كليو متر وطبيعة الصحراء في أرض الحجاز ، عرفنا مدى تحمل الإمام للصعاب في سبيل اللـه . يقول علي بن جعفر (ع) : ( خرجنا مع أخي موسى بن جعفر (ع) في أربع عُمَرٍ يمشي فيها إلى مكة بعياله وأهله ، واحدة منهن مشى فيها ستة وعشرين يوماً ، وأخرى خمسة وعشرين يوماً ، وأخرى أربعة وعشرين يوماً ، وأخرى واحداً وعشرين يوماً ) (3). أما شدة اجتهاده في الصلاة وهي قرة عين المؤمنين وملتقى الحبيب مع الحبيب فيقول عنها الحديث التالي : “ روي أنه كان يصلي نوافل الليل ، ويصلها بصلاة الصبح ، ثم يعقب حتى تطلع الشمس ، ويخر لله ساجداً فلا يرفع رأسه من السجدة والتحميد حتى يقرب زوال الشمس ، وكان يدعو كثيراً فيقول : اللـهم إني أسألك الراحة عند الموت ، والعفو عند الحساب ، ويكرر ذلك ، وكان من دعائه (ع) عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك ، وكان يبكي من خشية اللـه حتى تخضلّ لحيته بالدموع ، وكان أوصل الناس لأهله ورحمه ، وكان يفتقد فقراء المدينة “ (4) . والواقع أن اجتهاد الإمام في عبادة ربه والتبتل إليه بالصلوات والأدعية ، هو السبب الذي بعثه اللـه به مقاما محموداً . وهو الذي أعطاه قدرة تحمل أعباء الرسالة التي نهض بها وضحّى بما لديه في سبيل تبليغها ، وكانت صلواته أعظم مؤنس له في ظلِّ ظُلم الطغاة ، فهذا أحمد بن عبد اللـه ينقل عن أبيه فيقول : ( دخلت على الفضل بن الربيع وهو على سطح فقال لي : إشرف على هذا البيت وانظر ما ترى ؟ فقلت : ثوباً مطروحا فقال : أنظر حسناً فتأملت فقلت : رجل ساجد ، فقال لي : تعرفه ؟ هو موسى بن جعفر أتفَّقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلاّ على هذه الحالة ، إنه يصلي الفجر فيعقب إلى أن تطلع الشمس ثم يسجد سجدة ، فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس ، وقد وكّل من يترصّد أوقات الصلاة ، فإذا أخبره وثب يصلّي من غير تجديد وضوء ، وهو دأبه فإذا صلّى العتمة أفطر ، ثم يجدد الوضوء ثم يسجد فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر ، وقال بعض عيونه : كنت أسمعه كثيراً يقول في دعائه : “ اللـهم إنك تعلم أنني كنت أسألك أن تفرِّغني لعبادتك ، اللـهم وقد فعلت فلك الحمد “ (5) . أما قراءته للقرآن ، فيحدثنا عنها حفص ويقول : ( ما رأيت أحداّ أشد خوفاً على نفسه من موسى بن جعفر (ع) ولا أرجى للناس منه ، وكانت قراءته حزناً ، فإذا قرأ فكأنه يخاطب إنساناً (6). لقد علّمه القرآن الكريم أسمى القيم ، ومن أبرزها الإشفاق على نفسه ، والسعي الدائب لتزكيتها وخلاصها من غضب الرب ، وإصلاحها لتكون موضع محبة الخالق ورضوانه . بينما كان يرجو للناس كل خير ، ولم يكن رجاؤه مجرداً عن العمل ، بل كان (ع) يتقرب إلى اللـه بالإحسان إلى الناس ، فقد كان يتفقد فقراء أهل البيت فيحمل إليهم في الليل العين والورق وغير ذلك ، فيوصله إليهم وهم لا يعلمون من أي جهة هو)(7). |
تابع
ب - جوده وكرمه : بالتوكل على اللـه واليقين يعظم ثواب المحسنين عنده ، والثقة بأنه الرزاق ذو القوة المتين . يعطي المؤمن عطاءً لا يخشى الفقر ، وأئمة الهدى هم المثل الأسمى في الكرم والجود ، فهذا الإمام موسى بن جعفر (ع) مع ما كان يعيشه من ظروف قاسية ، اشتهر بهذه الصفة في الآفاق . جاء في التاريخ رواية مأثورة عن محمد بن عبد اللـه البكري ، قال : ( قدمت المدينة أطلب ديناً فأعياني ، فقلت لو ذهبت إلى أبي الحسن (ع) فشكوت إليه ، فأتيته بنقمي في ضيعته ، فخرج إليّ ومعه غلام ومعه منسف فيه قديد مجزع ، ليس معه غيره ، فأكل فأكلت معه ، ثم سألني عن حاجتي فذكرت له قصَّتي ، فدخل ولم يقم إلاّ يسيراً حتى خرج إليّ فقال لغلامه : إذهب ثم مدّ يده إليّ فناولني صرة فيها ثلاثمائة دينار ، ثم قام فولى فقمت فركبت دابّتي وانصرفت ) (8). وروي عن أبي الفرج في مقاتل الطالبيين عن يحيى بن الحسن قال : ( كان موسى بن جعفر (ع) إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرة دنانير ، وكانت صراره ما بين الثلاثمائة إلى المائتين دينار ، فكانت صرار موسى مثلاً )(9). وجاء في حكاية تاريخية طريفة أن المنصور العباسي تقدم إلى موسى بن جعفر (ع) بالجلوس للتهنئة في يوم النيروز ، وقبض ما يحمل إليه فقال (ع) : “ إني قد فتشت الأخبار عن جدي رسول اللـه (ص) فلم أجد لهذا العيد خبراً ، وإنه سنة للفرس ومحاها الإسلام ، ومعاذ اللـه أن نحيي ما محاه الإسلام “ . فقال المنصور : إنما نفعل هذا سياسة للجند ، فسألتك باللـه العظيم إلاّ جلست ، فجلس ودخلت عليه الملوك والأمراء والأجناد يهنئونه ، ويحملون إليه الهدايا والتحف ، وعلى رأسه خادم المنصور يحصي ما يحمل ، فدخل في آخر الناس رجل شيخ كبير السن فقال له : يا ابن بنت رسول اللـه إني رجل صعلوك لا مال لي أتحفك ولكن أتحفك بثلاثة أبيات قالها جدّي في جدّك الحسين بن علي (ع) : عجبـت لمصقول عــــلاك فرنده * يوم الهيــاج وقـد عــلاك غبــار ولأسهم نفذتــــك دون حــــرائـر * يدعــون جدك والـدموع غــزار ألا تغضغضت السَّهـام وعـاقهـا * عــن جسمــك الإجـلال والإكبار قال : قُبلت هديتك ، إجلس بارك اللـه فيك ، ورفع رأسه إلى الخادم وقال : إمضي إلى أمير المؤمنين وعرّفه بهذا المال وما يصنع به ، فمضى الخادم وعاد وهو يقول : كلّها هبة منّي له ، يفعل به ما أراد ، فقال موسى للشيخ : إقبض جميع هذا المال فهو هبة مني لك ) (10). وكان يلقى بكرمه عدوه فإذا به يصبح ولياً حميماً ، فهذا شخص من أولاد الخليفة الثاني كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى (ع) ويسبه إذا رآه ، ويشتم عليّاً ، فقال له بعض حاشيته يوماً : دعنا نقتل هذا الفاجر ، فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم ، وسأل عن العمري فذكر أنه يزرع ناحية من نواحي المدينــة ، فركب إليه ، فوجده في مزرعة له ، فدخل المزرعة بحماره ، فصاح به العمري لا توطىء زرعنا، فتوطأه (ع) بالحمار حتى وصل إليه ونزل وجلس عنده ، وباسطه وضاحكه ، وقال له : كم غرمت على زرعك هذا ؟ قال : مائة دينار ، قال : فكم ترجو أن تصيب ؟ قال : لست أعلم الغيب ، قال له : إنما قلت كم ترجو أن يجيئك فيه ؟ قال : أرجو أن يجيء مائتا دينار . قال : فأخرج له أبو الحسن (ع) صرة فيها ثلاثمائة دينار ، وقال هذا زرعك على حاله ، واللـه يرزقك فيه ما ترجو ، قال : فقام العمري فقبل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه ، فتبسم إليه أبو الحسن وانصرف ، قال : وراح إلى المسجد فوجد العمري جالساً فلما نظر إليه قال : اللـه أعلم حيث يجعل رسالاته قال : فوثب أصحابه إليه فقالوا له : ما قضيتك ؟ قد كنت تقول غير هذا ، قال : فقال لهم : قد سمعتم ما قلت الآن ، وجعل يدعو لأبي الحسن (ع) فخاصموه وخاصمهم ، فلما رجع أبو الحسن إلى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري : إيَّما كان خيراً ما أردتم أم ما أردت ؟ إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم وكُفيت به شره (11). ج - علمــه (ع) : سبق الحديث عن علم الإمام ونعود هنا لنثبت رواية طريفة في علمه ، حيـث ينقل عن محمـد بن النعمان المعروف بأبي حنيفة إمام المذهب أنه قال : ( رأيت موسى بن جعفر وهو صغير السن في دهليز أبيه ، فقلت : أين يحدث الغريب منكم إذا أراد ذلك ؟ فنظر إليّ ثم قال : يتوارى خلف الجدار ويتوقَّى عن أعين الجار ، ويتجنب شطوط الأنهار ومساقط الثمار ، وأفنية الدور والطرق النافذة ، والمساجد ، ولا يستقبل القبلة ، ولا يستدبرها ، ويرفع ويضع ذلك حيث شاء . قال : فلما سمعت هذا القول منه ، نبل في عيني ، وعظم في قلبي فقلت له : جعلت فداك ممن المعصية ؟ فنظر إليّ ثم قال : إجلس حتى أخبرك ، فجلست فقال : إن المعصية لابد أن تكون من العبد أو من ربه أو منهما جميعاً ، فإن كانت من اللـه تعالى فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويأخذه بما لم يفعله ، وان كانت منهما فهو شريكه ، والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف ، وإن كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر ، وإليه توجه النهي ، وله حق الثواب والعقاب ، ووجبت الجنة والنار فقلت : { ذريةً بعضها من بعض } ( آل عمران / 34) . وروي عنه الخطيب في تاريخ بغداد ، والسمعاني في الرسالة القومية ، وأبو صالح أحمد المؤذن في الأربعين ، وابو عبد اللـه بن بطة في الإبانة ، والثعلبي في الكشف والبيان ، وكان أحمد بن حنبل مع انحرافه عن أهل البيت (ع) لما روي عنه قال : حدثني موسى بن جعفر قال : حدثني أبي جعفر بن محمد وهكذا إلى النبي (ص) ثم قال أحمد : ( وهذا إسناد لو قُرِأ على المجنون أفاق ) . |
تابع الفصل الرابع
شجاعتــه واستقامتــه : لقد حمل الإمام أعباء رسالات الأنبياء بذات العزيمة العظيمة التي كانت للنبيين (ع) . لقد تحدى كل طغيان الإستكبار ، وكل تراكمات الفساد بثقة مطلقة برب العالمين . حينما يأتيه الفضل بن الربيع ويقول له : استعد للعقوبة يا أبا إبراهيم رحمك اللـه فقال (ع) : “ أليس معي من يملك الدنيا والآخرة ولن يقدر اليوم على سوء بي إن شاء اللـه “ : وحينما يدخل على هارون الرشيد ذلك الطاغية الذي كان يخاطب مرة السحاب ويفتخر بسعة سلطانه ، فيقول : شرِّقي غرِّبي فأنّى ذهبت فخراجك إليّ . يقول له هارون : ما هذه الدار ؟ فقال الإمام : هذه دار الفاسقين ، قال اللـه تعالى : { سَاَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الاَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَةٍ لاَيُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } (الاعراف/146) فقال له هارون : فدار من هي ؟ قال : “ هي لشيعتنا فترة ، ولغيرهم فتنة “ . قال : فما بال صاحب الدار لا يأخذها ؟ فقال : “ أخذت منه عامرة ولا يأخذها إلاّ معمورة “ . قال فأين شيعتك ، فقرأ أبو الحسن (ع) : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } (البَيِّنةِ/1) قال : فقال له : فنحن كفّار ؟ قال : لا .. ولكن كما قال اللـه : { الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللـه كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } (اِبراهيم/28) فغضب عند ذلك وغلّظ عليه (12). ومن المعتقل حيث تحيط به جلاوزة السلطات المجرمون ، كتب رسالة إلى الرّشيد جاء فيها : “ إنه لن ينقضيَ عنّي يوم من البلاء إلاّ انقض عنك معه يوم من الرضاء، حتى نقضي جميعاً إلى يوم ليس له إنقضاء يخسر فيه المبطلون “ (13). (1) الحضفة : الحيكة تعمل من الخوص للتمر ، وأيضاً يقال للثوب الغليظ جداً . (2) المصدر : ( ص 100 ). (3) المصدر. (4) المصدر : ( ص 102 ). (5) المصدر : ( ص 107 ، 108 ) . (6) المصدر : ( ص 111 ) . (7) المصدر : ( ص 108 ) (8) المصدر : ( ص 102 ) . (9) مقاتل الطالبيين ( ص 104 ) . (10) المصدر : ( ص 108 ) . (11) المصدر : ( ج 56 ، ص 102 - 103 ) . (12) البحار : ج 56 ( ص 223 ) . (13) المصدر : ( ص 148 ). |
الفصل الخامس : محنتــه وشهادتــه
بعد محنة أبي عبد اللـه الحسين (ع) ، وأكثر من سائر أئمة الـهدى من أهل بيت الرسول ، كانت محنة أبي إبراهيم موسى بن جعفر (ع) شديدة وأليمة . لقد كان الرّشيد يترصده ولا يقدر عليه ، ولعله كان يخشى من بعث جيش إليه خوف انقلابه وتحوله إلى صفِّه ، وكانت السرّية التي عمل بها الرساليون تجعل السلطات لا تثق بأقرب الناس إليهم ، فهذا علي بن يقطين وزير الرّشيد ، وذاك وزيره الآخر جعفر بن محمد بن الأشعث شيعيان ، كما كان من بين قيادات جيشه ، وأبرز ولاته على الأمصار من يخفي ولائه لآل البيت (ع) ، فلذلك قرر الذهاب بنفسه إلى المدينة ، لإلقاء القبض عليه ، وأخذ معه قوّاته الخاصة ، بالإضافة إلى جيش من الشعراء ، وعلماء السلاطين ، والمستشارين و. و. كما أنه حمل معه الملايين مما سرقه من المحرومين ، فقسّمها بين الناس لشراء سكوتهم . وخص منهم رؤساء القبائل ووجوه وأعيان المعارضة . هكذا ذهب الرّشيد إلى المدينة ليلقي القبض على أعظم معارضي سلطانه الغاصب ، لننظر ما فعل : أولاّ : جلس عدة أيام يستقبل الناس ويأمر لهم بالصِّلات السخية ، حتى أشبع بطون المعارضين ، ممن كانت معارضتهم للسلطة لأسباب شخصية ومصالح خاصة . ثانياً : بعث في البلد من يبث الدعايات ضد أعداء السلطان ، وأغرى الشعراء وعملاء السلطة من أدعياء الدين بمدح السلطان وإصدار الفتاوى بحرمة محاربته . ثالثاً : استعرض قوّته لأهل المدينة لكي لا يفكر أحد بمقاومته في هذا الوقت بالذات . رابعاً : وحينما أكمل استعداده قام شخصياً بتطبيق البند الأخير من خطته الإرهابية ، فدخل مسجد رسول اللـه ، ربما في وقت يجتمع الناس لأداء الفريضة ، ولا يتخلف عنهـم - بالطبـع - الإمام موسـى بن جعفـر (ع) . ثم تقدم إلى قبر الرسول وسلم عليه : وقال : السلام عليك يا رسول اللـه ، يا ابن عم . وكان هدفه إثبات شرعية خلافته لرسول اللـه ، لتكون سبباً وجيهاً لاعتقال الإمام (ع) ، ولكن الإمام فوّت عليه هذه الفرصة ، وشق الصفوف حتى تقدمها وتوجه إلى القبر الشريف وقال في ذهول الجميع : السلام عليك يا رسول اللـه ، السلام عليك يا جدّاه . فلإن كان رسول اللـه ابن عمك يا سلطان الجور ، وإنّك تدّعي شرعية سلطتك بانتمائك النسبي لرسول اللـه (ص) ، فإنه أقرب إليّ ، فهو جدي وأنا أحقَّ بخلافته منك . ولكن الرّشيد استدرك الموقف وقال وهو يبرّر عزمه على اعتقال الإمام بالقول : بأبي أنت وأمي يا رسول اللـه ، إني أعتذر إليك من أمر عزمت عليه ، وإني أريد أن آخذ موسى بن جعفر فأحبسه ، لأني قد خشيت أن يلقي بين أمتك حرباً تسفك فيها دماؤهم . فلما كان اليوم التالي أرسل إليه الفضل بن الربيع وهو قائم يصلي في مقام رسول اللـه ، فأمر بالقبض عليه وحبسه (1) . وأخرج من داره بغلان عليهما قبتان مغطاتان هو في أحدهما ، ووجّه مع كل واحدة منهما خيلاً فأخذ بواحدة على طريق البصرة ، والأخرى على طريق الكوفة ، ليعمي على الناس امره ، وكان الإمام في القبة التي مضت على البصرة ، وأمر الرسول أن يسلم إلى عيسى بن جعفر بن المنصور ، وكان والياً يومئذ على البصرة فمضى به فحبسه عنده سنة . ثم كتب إلى الرّشيد أن خذه منّي ، وسلّمه إلى من شئت ، وإلاّ خلّيت سبيله ، فقد اجتهدت بأن أجد عليه حجة ، فما أقدر على ذلك ، حتى أني لأتسمّع عليه إذا دعا لعله يدعو عليّ أو عليك فما أسمعه يدعو إلاّ لنفسه ، يسأله الرحمة والمغفرة ، فوجّه من تسلمه منه ، وحبسه عند الفضل بن الربيع ببغداد ، فبقي عنده مدة طويلة ، وأراده الرّشيد على شيء من أمره فأبى ، فكتب بتسليمه إلى الفضل بن يحيى ، فتسلّمه منه وأراد ذلك منه فلم يفعل ، وبلغه أنه عنده في رفاهية وسعة ، وهو حينئذ بالرقة . فأنفذ مسروراً الخادم إلى بغداد على البريد ، وامره أن يدخل من فوره إلى موسى بن جعفر (ع) فيعرف خبره ، فإن كان الأمر على ما بلغه أوصل كتاباً منه إلى العباس بن محمد وأمره بامتثاله ، وأوصل منه كتاباً آخر إلى السندي بن شاهك يأمره بطاعة العباس (2). وتمضي الرواية التاريخية لتقول : وبلغ يحيى بن خالد فركب إلى الرّشيد ودخل من غير الباب الذي يدخل الناس منه ، حتى جاءه من خلفه وهو لا يشعر ، ثم قال : التفت إليّ يا أمير المؤمنين فأصغى إليه فزعاً ، فقال له : إن الفضل حدث وأنا أكفيك ما تريد ، فانطلق وجهه وسرّ وأقبل على الناس فقال : إن الفضل كان عصاني في شيء فلعنته وقد تاب وأناب إلى طاعتي فتولوه ، فقالوا له : نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت وقد توليناه . ثم خرج يحيى بن خالد بنفسه على البريد حتى أتى بغداد فماج الناس وأرجفوا بكل شيء ، فأظهر أنه ورد لتعديل السواد ، والنظر في أمر العمّال وتشاغل ببعض ذلك ، ودعا السندي فأمره فيه بامره ، فامتثله وسأل موسى (ع) السندي عند وفاته أن يحضره مولى له ينزل عند دار العبّاس بن محمد في أصحاب القصب ليغسله ، ففعــل ذلك ، قال : وسألتــــه أن يأذن لي أن أكفّنه فأبــى وقــال : ( إنا أهل البيت مهور نسائنا وحجّ صرورتنا ، وأكفان موتانا من طاهر أموالنا ، وعندي كفني ) . فلما مات أدخل عليه الفقهاء ووجوه أهل بغداد وفيهم الهيثم بن عدي وغيره فنظروا إليه ولا أثر به ، وشهدوا على ذلك وأخرج فوضع على الجسر ببغداد ، ونودي : هذا موسى بن جعفر قد مات فانظروا إليه، فجعل الناس يتفرّسون في وجهه وهو (ع) ميت . قال : وحدّثني رجل من بعض الطالبيّين أنه نودي عليه : هذا موسى بن جعفر الذي تَزعم الرافضة أنه لا يموت ، فانظروا إليه ، فنظروا إليه . قالوا : وحمل فدفن في مقابر قريش ، فوقع قبره ، إلى جانب رجل من النوفلِّيين يقال له عيسى بن عبد اللـه (3). وتنقل الروايات التاريخية : أن الإمام (ع) كان يتصل بشيعته وأهل دعوته من السجون التي يتناقل فيها ، ويأمرهم بأمره ، كما انه كان يجيب عن مسائلهم السياسية ، والفقهية . وقد نتساءل : كيف كان (ع) يتصل بهم ، لعله بطرق غيبية ، ولكن أحاديث كثيرة تبيّن لنا أن أكثر من سجن عندهم الإمام (ع) قالوا بإمامته ، بالرغم من أن السلطة كانت تختار سجّانه من بين أغلظ الناس وأكثرهم ولاءً لها ، لما كانوا يرونه فيه من شدة الإجتهاد في العبادة ، وغزارة العلم ومكارم الأخلاق ، ولما كانوا يرونه منه من كرامات . وفي كتاب الأنوار قال العامري : إن هارون الرشيد أنفذ إلى موسى بن جعفر جارية خصيفة ، لها جمال ووضاءة لتخدمه في السجـن ، فقـال قل له : { بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } (النَّـمْل/36). لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها ، قال : فاستطار هارون غضباً وقال : إرجع إليه وقل له : ليس برضاك حبسناك ولا برضاك أخذناك ، واترك الجارية عنده وانصرف ، قال : فمضى ورجع ، ثم قام هارون عن مجلسه وأنفذ الخادم إليه ليستفحص عن حالها فرآها ساجدة لربها لا ترفع رأسها تقول : قدوس سبحانك سبحانك . فقال هارون : سحرها واللـه موسى بن جعفر بسحره ، عليّ بها ، فأتي بها وهي ترعد شاخصة نحو السماء بصرها فقال : ما شأنك ؟ قالت : شأني الشأن البديع ، إنّي كنت عنده واقفة وهو قائم يصلي ليله ونهاره ، فلما انصرف عن صلاته بوجهه وهو يسبح اللـه ويقدّسه قلت : يا سيدي هل لك حاجة أعطيكها ؟ قال : وما حاجتي إليك ؟ قلت : إني أدخلت عليك لحوائجك قال : فما بال هؤلاء ؟ قالت : فالتفت فإذا روضة مزهــرة لا أبلغ آخرها من أولها بنظري ، ولا أولها من آخرها ، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج ، وعليها وصفاء ووصائف لم أرَ مثل وجوههم حسناً ، ولا مثل لباسهم لباساً ، عليهم الحرير الأخضر ، والأكاليل والدرّ والياقوت ، وفي أيديهم الأباريق والمناديل ومن كل الطعام ، فخررت ساجدة حتى أقامني هذا الخادم فرأيت نفسي حيث كنت . قال : فقال هارون : يا خبيثة لعلك سجدت فنمت فرأيت هذا في منامك ؟ قالت : لا واللـه يا سيدي إلاّ قبل سجودي رأيت فسجدت من أجل ذلك ، فقال الرّشيد : إقبض هذه الخبيثة إليك ، فلا يسمع هذا منها أحد ، فأقبلت في الصلاة ، فإذا قيل لها في ذلك قالت : هكذا رأيت العبد الصالح (ع) ، فسئلت عن قولها قالت : إني لما عاينت من الأمر نادتني الجواري يا فلانة ابعدي عن العبد الصالح ، حتى ندخل عليه فنحن له دونك ، فما زالت كذلك حتى ماتت ، وذلك قبل موت موسى بأيام يسيرة . هذه هي كرامة الإمام (ع) على اللـه ، وتلك هي عاقبة الرّشيد الظَّالم الطَّاغي . نـسأل اللـه العلي العظيـم أن يجعلنا ممـن يتولى أوليائه ، ويتبرأ من أعدائه ، ويسير على نهجهم أئمة الهدى من آل محمد ( صلى اللـه عليه وعليهم اجمعين ) والحمد لله رب العالمين . (1) المصدر : ( ص 213 ) (2) المصدر : ( ص 233) . (3) المصدر : ( ص 234 ) نقلاً عن كتاب الغيبة للطوسي : ( ص 22 ). |
الامــام الكاظم (عليه السلام) قدوة وأسوة
آية الله السيد محمد تقي المدرسي ● تمهيـد ● الفصل الاول: الاصل الكريم والمولد المبارك ● الفصل الثاني : الامــام وعصــره ● الفصل الثالث : معاجـز الإمـام وعلمــه ● الفصل الرابع : خلقــه وفضائلــه ● الفصل الخامس : محنتــه وشهادتــه المصدر شبكة أنصار الحسين عليه السلام |
يعطيك ألف ألف عافية
تسلم يدااااااك وننتظر جديدك بالتوفيق والنجاح http://www.alnshama.com/lines/f057.gif تحياتي ..... |
الشبكة: أحد مواقع المجموعة الشيعية للإعلام الساعة الآن: 03:54 PM. بحسب توقيت النجف الأشرف |
Powered by vBulletin 3.8.14 by DRC © 2000 - 2025