المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ألم ذلك الحسين (رواية) كمال السيد..


أرجوان
17-07-2008, 01:07 AM
كمال السيد



الـم

ذلـك الحسيـن



رواية

أودّ لو غرقتُ في دمي إلى القرار
لأحمل العبء مع البشر
وأبعث الحياة
إن موتي انتصار

تقدمت الفتاة بأدب وقدمت بين يديه طاقة من الرياحين ...
- السلام عليك يا سيّدي
انتشر عبير ربيعي .. ملأ الأنف الأشم :
- انطلقي حرة لوجه الله
سرت همهمة .. تناثرت أسئلة .. علامات استفهام ..
- جارية تساوي ألف دينار مقابل باقة ورد ؟!
ابتسم الوجه المضمخ بعبير النبوات
- هكذا علمنا الله ، أن نردّ التحية بأحسن منها ،
وهل هناك سوى الحرية ؟!

1

الكلاب تنهش جسمه بقسوة .. كلاب لم يرها من قبل .. متوحشة .. ملوثة بكل القذارات .. ينزّ من أنيابها الصديد . يحاول دفعها ولكن لا جدوى . إنها مسعورة وتزداد ضراوة وقسوة . وأشدّها كان الأبقع . إنه يطلب العنق .. يندفع بوحشية لينقضّ على الرقبة الناصعة .. كإبريق فضة .
-آه .. آه .. ماء .. ماء .. قلبي يتفطر عطشاً .
انتبه من نومه .. جفف حبات عرق كانت تتلألأ في ضوء القمر .
تقابل الوجهان .. وجه القمر ، ووجهه .
تأمل الحسين النجوم في أغوارها البعيدة .
البريق قادم من الأعماق السحيقة يشتد لمعاناً .. يومض .. يحاول كشف الأسرار .
نهض السبط من فراشه .. أسبغ وضوءه .. أشاعت برودة الماء السلام في روحه . لقد مضى من الليل ثلثاه ، وليس هناك ما يخدش صمت الليل سوى نباح كلاب بعيدة .
حمل جراباً مليئاً بالطعام ، كيساً يغص بصرار الدراهم الفضية والدنانير ، وراح يجوس أزقة المدينة .
اجتاز بعض المنعطفات .. توقف أمام بيت يكاد يتهدم . أحكم لثامه ، فبدا كشبح من أشباح الليل ، أو سرّ من أسراره . وضع قدراً من السمن ، وشيئاً من الدقيق ، وأسقط – من كوّة صغيرة – صرّة نقود ، ثم طرق الباب ، وحثّ الخطى – قبل أن تنفتح – داخل زقاق غارق في الظلام ..
كانت تنبعث من كوّة بيت كبير أضواء ساطعة .. وسمع ضحكة ماجنة أعقبتها ضحكات . استعاذ بالله ، وهو ينعطف نحو اليمين . صار قريباً من قصر الوليد بن عتبة بن أبي سفيان – حاكم المدينة .
منظر القصر المنيف ، والبيوت الطينية التي تحيطه من كل الجهات يعبّر عن الظلم الفادح في توزيع الثروات ، الفقر إلى جانب الغنى .. البؤس إلى جانب الترف والبذخ ..
-أين أنت يا رسول الله ؟! .. هلمّ لتشاهد ما يفعل طلقاؤك .. في مدينتك .. أين أنت يا جداه ... .
الليل ما يزال يغمر المدينة بظلمة حالكة يحيطها بالأسرار ، والنجوم ما تزال مسمّرة في صفحة السماء ، والقمر يختفي خلف الربى والتلال ، فيزداد الظلام رهبة . كراهبة ترفل بحلّتها السوداء بدت المدينة تلك الليلة .
توقف الرجل الأسمر ذو العينين المتألّقتين والأنف الأشم . وقف إلى جانب النخلة التي غرسها جده النبي وتذكّر حديثه : اكرموا عمتكم النخلة . لقد شاخت كثيراً ، ولكنها ما تزال تَهب الرطب والتمر والظلال . أسند جذعه إلى جذعها .. أضحيا جذعاً واحداً .. انبثق نبع من الصلاة ، وغمر رشاش الكلمات السماوية المكان ... وصلّى الحسين ركعتين .. ثم انطلق نحو النبي .
الذاكرة ما تزال تتألق بصورة الطفولة .. الحسين بسنواته السبع يركض نحو جده العظيم يرتمي في أحضان النبوّة وعبق الوحي ، وابتسامات الملائكة تغمر دنياه . وتتلاحق الصور .. تشتعل وتنطفئ كبروق سماوية .
ألقى الرجل الذي ذرّف على الخمسين بنفسه على القبر . شعر بدفء الأحضان . احتضن التربة الطاهرة ، وراح يستنشق .. يملأ صدره بشذى السماء . شعر بأنه يقبّل وجه جدّه .. يمسّد شعره المتموّج تموّج الصحارى ، ويداعب سوالفه المتلألئة . وشعر أنه يعانق آدم وإبراهيم ، ويحتضن الكون كله .
-يا جدّاه ، إنهم يريدون مني شيئاً عظيماً .. تكاد له السماوات يتفطّرن وتنشقّ الأرض . يريدون لقمم الجبال أن تغادر أماكنها الشماء إلى الهاوية ، وللسحب أن تدع السماء ، وللنخيل أن تنحني ... إنهم يريدون للحسين أن يبايع .. يبايع يزيد ... .
أغمض الحسين عينيه المتعبتين ، فانبثق شلال من نور محمد .. وجه يتلألأ كالبدر ، ترفرف حوله أجنحة الملائكة مثنى وثلاث ورباع .
-حبيبي يا حسين .. إن أباك وأمك وأخاك قدموا عليّ .. إنهم مشتاقون إليك ، فهلمّ إلينا .
-لاحاجة بي إلى الدنيا فخذني إليك يا أبتي .
-والشهادة يا بني .. الدنيا كلها تحتاج شهادتك .
وانتبه الحسين على أنفاس الصبح ، فودّع جدّه وقفل عائداً إلى منزله . الرؤيا تتجسد أمام عينيه ، حتى كاد يلمس غصناً من سدرة المنتهى . نور سماويّ يسطع في أعماقه .. ونداء يتردد في صدره .. يدعوه إلى الرحيل . لقد أزفت الساعة .. والنوق في الصحاري رفعت رؤوسها تترقب انتظام القافلة .

2

ما لها المدينة خائفة هكذا ، بيوتها ترتجف ، وجدرانها تهتز رعباً ؟ .. أين مجد الكوفة الضائع ؟ .. أين هيبتها القديمة ؟ .. أم تراها نسيت أنها كانت العاصمة ؟!
تساءل الرجل الغريب – الذي كانت تحفه الألوف قبل ليلة .. أما الآن فهو يجوس أزقة المدينة خائفاً يترقب .. ليس معه من يدلّه على الطريق ... .
هل تراه أخفق في مهمته .. إنه سفير الحسين إلى الكوفة عاصمة المجد الغابر . أين الرجال الذين بايعوه على الثورة ؟ .. أين كل تلك السيوف والدروع ، وتلك الكلمات التي تشبه بوارق الفضاء ودويّ الرعود ؟!
كيف تحوّل جيش ناهز العشرين ألفاً إلى فئران خائفة تختبئ مذعورة في جحور .. منقوبة في الأرض ؟.
فكّر أن ينادي بأعلى صوته : (( يا منصور أمت )) ، شعار الثورة .. ذكريات بدر .. علّهم يلتفّون حوله من جديد .. علّهم يهّبون لحصار قصر الظلم مرة أخرى . ولكن من تركوه في وضح النهار ، كيف يعودون إليه في قلب الظلام . الذين فرّوا في ضوء الشمس ، هل يعودون في غمرة الليل ؟
كان مسلم بن عقيل يسير .. ينقل خطىً واهنة . تداعت أمامه كل الصور المثيرة ، وهو يعبر الصحراء مع دليليه .. الرمال المتموّجة القاحلة حيث لا ماء .. ولا حياة .. ولا شيء ، سوى الذرات الملتهبة .. الظمأ .. التيه .. .
مات الدليلان عطشاً ، أما هو فبقي يواصل سيره وحيداً . أراد أن يعود من حيث أتى .. ولكن الحسين كان يريد له المسير حتى النهاية . إنه سفيره إلى الكوفة .. الكوفة التي تريد استرداد مجدها الضائع .. الكوفة التي تتلهف لرؤية علي بن أبي طالب مرة أخرى .. تنشد عدله .. رحمته .. رفقه بالفقراء والمساكين .. تريد أن تطرب على بلاغته من جديد .. تريد للمنبر المهجور أن يتدفق علماً وفصاحة .
تلك أحلام الرجال الفئران تحلم في جحورها وترتجف ذعراً .
الأحلام الوردية تحتاج سواعد بقوة الحديد أو أشدّ بأساً .
((السفير)) أعياه التعب .. كقائد مخذول كان يجرجر نفسه بعناء .. يحس مرارة الهزيمة .. أمام جيش وهمي ، حقّ له أن يندهش كيف تشتّت جيشه الكبير أمام شائعة كاذبة ! .. أمام جيش سوف يصل من الشام .. جيش وهمي .. صنعه الخيال المريض .. الخيال الذي يحلم بعقل فأرة مذعورة من القط .. من اسمه فقط .
جلس الغريب عند باب عتيقة ، وراح يلتقط أنفاسه كأنه ما يزال يخترق الصحراء .. يجوب الأودية .
فتحت ((طوعة)) – المرأة العجوز الني كانت تنتظر عودة ابنها ، والابن ذهب يبحث عن الرجل الجائزة .
-هل لي في جرعة من الماء ؟.
وما أسرع أن عادت المرأة تحمل إليه الماء .. فراح يعبّ منه ، ثم سكب الباقي على صدره . أراد أن يطفئ لهيب الصحراء في أعماقه .
قالت العجوز مستنكرة جلوسه :
-ألم تشرب يا عبد الله ؟! .. قم فانصرف إلى أهلك .
اعتصم بالصمت .. الصمت المجهول الذي لا يريد أن يسبر غوره أحد .
-قم عافاك الله .. فإنه لا يجدر بك الجلوس على بابي .
-وماذا أفعل .. لقد ضللت الطريق .. وليس هناك من يدلّني .
قالت المرأة متوجسة :
-من تكون يا عبد الله ؟!
-أنا مسلم بن عقيل .
فهتفت المرأة مأخوذة بالمفاجأة :
-أنت مسلم ؟! .. انهض إذن انهض .
-إلى أين يا أمة الله .
-إلى بيتي ..
وانفتح باب في الأفق المظلم .. كوّة تفضي إلى النور .. لحظة من أمل .. قطرة ماء في لهب الصحراء .
واحتضن بيت كوفي (( مسلم بن عقيل )) – الرجل الشريد . أما بقية البيوت فقد كانت تصغي برعب إلى حوافر الخيل وهي تدكّ الأرض بحثاً عن رجل غريب .
3

القافلة تطوي في طريقها إلى أم القرى .. قافلة عجيبة . لم تكن قافلة تجارية ، ولم تبدُ – كذلك – قافلة للحجاج .. ففيها أطفال كثيرون .. أطفال يشبهون ورود الربيع .. قافلة يتقدمها رجل في عينيه بريق الشمس وفي جبينه يتلألأ القمر ، وفي حنايا صدره تنطوي الصحارى . إلى جانبه وجه يشبه البدر .. شاب في الثلاثين من عمره أو يزيد .. يدعى ((أبو الفضل)) أو قمر بني هاشم .. دائم النظر إلى أخيه يتأمله بخشوع .. يخاطبه : يا سيّدي .
ويظهر خلفه فتى عجيب يشبه النبي خلْقاً وخُلُقاً ومنطقاً .. إنه علي .. علي الأكبر . وفي القافلة هوادج كثيرة .. كثيرة جداً .. وأطفال ... .
القافلة تسير ، والتاريخ يحبس أنفاسه ، وكلمات تتردد بخشوع ، فتمتزج مع تمتمات النوق .
-ولمّا توجّه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل .
-الطريق محفوفة بالأخطار ، فلو تنكبت الطريق .
قدر عجيب يسيّر القافلة .. قافلة صغيرة تحاول تصحيح المسار الإنساني .
الكلمات التي قالها الحسين ما زالت تدوّي في الآذان . الأهداف العظيمة .. الروح السامية في جلال الملكوت . كلماته تذهب مع نسائم الصحراء بذوراً تنبت في أعماق الأرض .. هل يكون الموت هدفاً .. كيف تخرج الحياة من رحم الموت ؟. وإذا كان الموت هو النهاية لكل كائن ، فلم لا نختار الطريقة التي سنموت بها ؟ هل يكون الموت جميلاً أحياناً ، لكي يقول الحسين : خُطّ الموت على ولد آدم مَخَطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف .
-ولكن إذا كان هدفك الموت ، فلم تأخذ معك الأطفال والنساء ؟ وإذا كانت الآفاق مظلمة ، لماذا تصطحب كل هذا الحَشْد من الضعفاء ؟ ... .
-شاء الله أن يراهن سبايا .. شاء الله أن يراني قتيلاً .. سوف أموت عطشاً .. سأسقط قرب نهر يموج بالمياه كأنه بطوت الحيّات .
-ماذا يريد الحسين ؟.
-يريد أن يموت ظامئاً .
-لماذا ؟!
-إنها مشيئة الله !
-مشيئة الأمة .. .
القافلة تقترب من مكة .. أم القرى واد غير ذي زرع .. أول بيت وضع للناس .. مهبط جبريل فوق جبل النور .. غار حراء ، حيث التقت السماء بالأرض .. طفولة محمّد .. شبابه .. آخر النبوات في التاريخ .. .
المساء ينشر ظلاله الخفيفة .. وأنوار واهنة تحاول أن تتلألأ كالنجوم .. أضواء مدينة حائرة هزّتها أنباء قادمة من دمشق . لقد هلك هرقل وجلس مكانه هرقل آخر .
شعبان يطوي ثلاثة من أيامه .. القافلة تدخل مكة ، وتلقي عصا الترحال عند البيت العتيق . الحسين يحنّ إلى زيارة قبر جدته خديجة الكبرى .. يذكر تضحياتها من أجل محمّد .. وهو يريد أن يواصل ذات الدرب .. يريد إعادة نهج النبي العظيم .
-ماذا تريد يا سيدي الحسين .. ألا تبقى هنا في حرم الله ؟.
-إنهم لن يدعوني أعيش بسلام .. إنهم يريدون الفتك بي ، حتى لو تعلقت بأستار الكعبة .. إنهم يطلبون مني شيئاً عظيماً .. هل رأيت النخيل ينحني أو الجبال ؟ هيهات .. هيهات .
-ولِمَ العراق ؟ .. أليس هناك مكان آخر ؟ العراق الذي قتل أباك واغتال أخاك ، وسلّم المنبر لمعاوية ! .. .

أرجوان
17-07-2008, 01:10 AM
ولِمَ الذهاب الآن .. ألا تمكث قليلاً .
-إن لم أذهب اليوم ذهبتُ غداً ، إن لم أذهب غداً ذهبت بعد غد ، وما من الموت والله بُدّ .. وإني لأعرف اليوم الذي أُقتل فيه .
تنبعث من الأرض أسئلة .. تتفجر علامات استفهام سرعان ما تتلاشى أمام كلمات سماوية كأنها تأتي من وراء أستار الغيب .
ينظرون فلا يرون سوى بيارق أمويّة .. سيوفاً تقطر غدراً وخناجر مسمومة .. أما هو فيرى ينابيع تتدفق .. أنهاراً وسواقي .. إنه يرى ما وراء الآفاق .. يرى المستقبل القادم من رحم الأيام .
عجيب أمر هذا الرجل .. يحاول أن يلوي القدر .. أن يقهر كل شياطين الأرض .. أن يهزم نظاماً مدجّجاً بالسلاح .. كيف ؟!
بقافلة صغيرة .. سبعين أو يزيدون .. أطفال ونساء .. وتصغي الصحارى لكلمات متمرّدة ثائرة .. كلمات تختصر النبوّات .. تبدأ ببسم الله .. مجراها ومسراها .. .
-هذا ما أوصى به الحسين بن علي إلى أخيه محمد بن الحنفية .
إن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله .. جاء بالحق من عنده .
وأن الجنة حق ، والنار حق ، والساعة آتية لا ريب فيها . وأن الله يبعث من في القبور .
وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي .
أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدّي ، وأبي علي بن أبي طالب .
فمن قبلني بقبول الحق ، فالله أولى بالحق ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق ، وهو خير الحاكمين .. .
انطلقت الثورة وصدر بيانها الأول . أسلحتها الصبر والمقاومة والموت .
الموت سلاح .. بل حياة .. حياة .. كيف ؟
-أجل .. إن من يموت كريماً سيحيا .. سيحيا إلى الأبد .. هكذا علّمني أبي قال على شاطئ الفرات بصفين :
الموت في حياتكم مقهورين ، والحياة في موتكم قاهرين .
4

قصر الإمارة يجثم فوق الكوفة .. نسر هائل جاثم على فريسته .. غراب أسطوري ينعب فتطير الرؤوس وتطيح الأيدي ..
ذئاب جائعة تعوي من بعيد .. وكلاب مسعورة تنبح .. وليل حالك مليء بالأسرار والغموض .. ورجل أرقط مجهول النسب اسمه ابن زياد بن أبيه .. ابن الليلة الماجنة . الرجل الأرقط بدا مفزعاً تلك الليلة .. شيطاناً مريداً يفكّر ويدبّر ، فقتل كيف فكر .. يتشبث بمخالب نسر .. يهدّد بجنود قادمين من الشام .. فتطيع القبائل ، وتنحني الرقاب .. وتتساقط الرؤوس … .
التفت نحو هاني بن عروة ، وصرخ بعصبية :
-أتيت بابن عقيل إلى دارك ، وجمعت له السلاح ؟
قال هاني بثبات :
-أفضّل لك أن تمضي إلى الشام ، فقد جاء من هو أحق بالأمر منك ومن صاحبك .
وتفجّر ابن زياد غضباً :
-والله لا تفارقني حتى تأتيني به .
وجاءه الجواب هادئاً ثابتاً .. ثبات الجبال :
-والله لو كان تحت قدميّ ما رفعتهما عنه .
-لأقتلنّك .
-إذن تكثر البارقة حولك .
هجم الأرقط على زعيم ((مراد)) وجرّه من شعره ، وسددّ له ضربة هشمت أنفه .
يا كوفة .. يا مدينة عجيبة .. أيتها الغانية اللعوب .. يا مومساً تريد كل يوم بعلاً .. لِمَ تُضيعين أبناءك ؟ أين مسلم أيتها الغادرة ؟! ..
خيول الدوريات تجوس المدينة الخائفة .. الخائنة .. يبحثون عن رجل مكّي مدني اسمه مسلم .. مسلم حقاً .
-لِمَ يبحثون عنه ؟ ..
-إنه يحمل أشياء ممنوعة .. أشياء خطيرة . يحمل سيفاً علوياً .. وقلباً حسينياً .. يريد تهريب الثورة ..
-في هذا الليل والناس نيام ؟!
العيون الحمراء ترقب المدينة .. ومسلم في بيت طوعة .. رجل انقطعت به السبل ، وضاقت عليه الأرض بما رحبت ، ولا ملجأ له سوى مهنّد في يمينه .
وطوعة .. المرأة العجوز .. تتأمل أسداً جريحاً من ليوث محمّد .. يقبض على قائمة سيفه . لقد طلع الفجر . وآن للنهاية أن تبدأ .
-إنهم كثيرون .. مئة أو يزيدون .
-لا عليك يا أمَة الله . لقد حان اللقاء . رأيت عمي أمير المؤمنين – في المنام – يقول لي : أنت معي غداً .. .
اقتحمت الذئاب منزل طوعة ، ولمع السيف العلوي كبرق سماوي .. ودوّى رعد مهيب له صوت مسلم :
أقسمـت لا أُقتل إلا حرّاً


وإن رأيت الموت شيئاً نكراً

الرجل الغريب القادم من رمال الجزيرة ، يقاتل لوحده في المدينة المشهورة بالغدر ، والرجال الذين ابتسموا له بالأمس يكشرون عن أنياب مسمومة .. ملوّثة بالصديد .
وصرخ ((ابن الأشعث)) مستمدّاً :
-الرجال .. الرجال .
ويستنكر قصر الإمارة :
-ويلك إنه رجل واحد .
-أتظن أنك أرسلتني إلى بقال من بقالي الكوفة ! .. إنه سيف من أسياف محمّد .
وعجزت السيوف أن تكسر سيفه .. والرجل ما يزال يقاتل .. يقاتل بضراوة أسطورية .. الجراح النازفة .. الظمأ .. الإعياء .. غامت المرئيات أمام عينيه .. وتوالت الطعنات .. طعنات الغدر . الخناجر المسمومة تنغرز في جسده . وتهاوى الجبل . الإرادة الفولاذية عجز الجسد عن مواكبتها . تراخت قبضته . ولمّا انتزعوا سيفه بكى . وتعجّب الذين من حوله .. لم يدركوا سرّ البكاء .
5

القافلة تطوي الصحراء .. والنجوم المحتشدة في السماء ترسل أضواء واهنة ، فتبرق ذرّات الرمال ، والقافلة التي سبقت قوافل الحجيج في مغادرة مكة تنساب في بطون الأودية .. وخشخشة الأشواك تبوح بأسرار الليل .
وصادفهم رجل في ((الصفاح)) يريد العمرة .
-من الرجل ؟
-الفرزدق بن غالب .
-هذا نسب قصير .
-أنت أقصر نسباً مني .. أنت ابن رسول الله .
ولاح سؤال عن الكوفة .. عاصمة أبيه وأخيه .
-قلوبهم معك وسيوفهم عليك .
أية قلوب تلك لا تنقاد لها السواعد .. القلوب الخائفة قلوب ميتة ..
وفي ((ذات عرق)) كان الحسين جالساً يقرأ كتاباً بين يديه .. وبين يديه أيضاً الصحراء المترامية .. صحراء لا نهاية لرمالها .. وبين يديه وقف التاريخ حائراً لا يدري أين مساره . ومرّ به رجل كان في الكوفة منذ أيام .. .
هزّ الرجل رأسه آسفاً :
-السيوف مع بني أمية والقلوب معك .
-صدقت .
-ماذا تقرأ يابن رسول الله ؟
-كتاباً من أهل الكوفة وهم قاتلي .. فإذا فعلوا ذلك لم يدعوا لله محرماً إلا انتهكوه .
-أنشدك الله في حرمة العرب .
ومضى الرجل إلى وجهته .. ومضى التاريخ بعد أن عرف مساره .. كان يسير باتجاه يختلف قليلاً عن جهة الكوفة . هناك بمحاذاة النهر سيكون اللقاء .. سيبني التاريخ في تلك البقعة إحدى مدنه الخالدة .
وفي ((الخزيمية)) لوت النوق أعناقها .. توقفت هنيهة .. أصغت إلى هاتف عجيب :
ألا يـا عين فاحتفلـي بجهـد


فمن يبكي على الشهداء بعدي

علـى قوم تسوقهـم المنايـا

بـأقـدار إلى إنجـاز وعـدِ

وتمتم الحسين :
-القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم .
-أو لسنا على الحق يا أبي ؟
تأمل ابنه الأكبر .. فحنّ إلى جدّه .. .
-بلى والذي إليه مرجع العباد .
-يا أبت إذن لا نبالي .
وفاضت عيناه شوقاً إلى جدّه .
وفي ((الثعلبية)) قال الحسين لرجل تاهت به السبل .. لا يدري أي الطريقين يسلك .
-يا أخا العرب لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبريل في دارنا .. أفعلموا وجهلنا ؟! وهذا مما لا يكون !
ومضى الرجل حائراً لا يدري أي الطريقين يعني النجاة .. طريق الحسين أم طريق الحياة .
ومضت القافلة لا تلوي على شيء . إلى الكوفة كانت الخطى تتجه ، ولكن القلوب كانت تهفو إلى مدينة أخرى .. مدينة لم تولد بعد .
كبّر صاحب للحسين :
-رأيت النخيل .. نخيل الكوفة .
استنكر آخر :
-ما بهذا الموضع نخل .. وإنما هو أسنّة الرماح وآذان الخيل .
ونظر الحسين :
-وأنا أراه ذلك .. أليس هنا ملجأ ؟.
-نعم ((ذو حسم)) جبل عن يسارك .
وأناخت النوق .. هوَتْ بأثقالها إلى الأرض .. توقّفت سفن الصحراء . توقفت لتتأكد من اتجاه البوصلة .. أو لتواجه القراصنة .. قراصنة التاريخ

أرجوان
17-07-2008, 01:13 AM
6

الكوفة خائفة . جلست ذليلة في حضرة ابن زياد .. وزياد يشير بسوطه .. فتتساقط الرؤوس .. وتطيح الأيدي . وانحنت الرقاب ((للأرقط)) لقد انتصر بجيشه الوهمي القادم من الشام . الكوفة كلّها أسيرة في قبضته .. تنقاد له طائعة . يصرخ فيها :
-اقتلوا آل الحسين .. إنهم أناس يتطهّرون .
وينتظم العبيد .. عبيد الدنيا جيشاً عرمرماً يقوده ((الحرّ)) .
المهمة خطيرة .. القبض على القافلة .. فارس يقود ألف فارس مدجّج السلاح يجوبون الصحراء بحثاً عن قافلة صغيرة ..
قدر عجيب ساق هذا الرجل .. جعله في طليعة الذين يريدون اغتيال الحريّة .. وهو ((الحر)) كما سمّته أمّه ..
والحرّ يجوب الصحراء في مهمّة كان يلعنها في أعماق نفسه .. الرمال الممتدة إلى ما لا نهاية تدعوه إلى الرحيل .. الرحيل إلى الشمس ، وكانت الأرض تشدّه إليها كما شدّت ألفاً يسيرون خلفه .
ويسمع الحرّ صوتاً عجيباً .. صوتاً قادماً من وراء الرمال :
-ابشر يا حرّ بالجنة .
-أية جنّة وأنا سائر لقتال سبط النبي .
الخيل تلهث .. أضرّ بها الظمأ .. والصحراء تلتهب .. تتوهج .. تشتعل جحيماً لا يطاق والحرّ يُبشَّر بالجنّة . وتبدو في الأفق قافلة تتجه نحو ذي حسم (الجبل الصغير) .
الشمس في كبد السماء تتشظى حمماً .. تتفجّر لهباً ، والرمال تشتعل جمراً ، والخيل تلهث .. تهوّم عيونها نحو سراب بعيد يحسبه الظمآن ماء . وقف الحرّ قبال الحسين في الظهيرة العظمى .. الخيول تنظر إلى الحسين .. تشمّ رائحة الماء ، وتحمحم .
هتف الحسين :
-اسقوهم وارشفوا الخيل .. .
ومرّت مئات الخيول الظامئة .. تعبّ من الماء .. وتطفئ لهب الصحراء .
ورأى الحسين فارساً وصل متأخراً ، وقد أضرّ به العطش ، فقال بلغة حجازية :
-أنخ الراوية .
-... ؟!
-انخ الجمل .
أناخ الظامئ الجمل . ولما أراد أن يشرب ، جعل الماء يسيل من السقاء ، فقال الحسين بلغة حجازية :
-أخنث السقاء .
فلم يدر الرجل ما يصنع ، فعطف الحسين له السقاء حتّى ارتوى وسقى فرسه .
وساد صمت رهيب رغم حمحمة الخيل .. وكان الجميع يتساءلون عن سرّ وجودهم في تلك البقعة الملتهبة من دنيا الله . وأذَّن ((ابن مسروق)) للصلاة : فقال للحسين :
-أتصلّي بأصحابك .
-لا ، بل نصلّي جميعاً بصلاتك .
وصلّى الحسين بالجموع .. وصلّى خلفه ألف فارس كانوا يريدون القبض على الرجل القادم من الحجاز . وقال الحسين بعد الصلاة :
-نحن أهل بيت محمد أولى بالأمر من هؤلاء المدّعين .. السائرين بالجور والعدوان ، فإن أبيتم إلّا الكراهية لنا ، والجهل بحقنا ، وكان رأيكم على غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم .. .
تساءل الحرّ :
-ما أدري ، ما هذه الكتب التي تذكرها ؟!
فنظر الحسين إلى ((ابن سمعان)) ، فأحضر خرجين مملوءين كتباً .. رسائل بالآلاف .. كتبها الكوفيون .. كتبها الكوفيون ، كلها تقول أن أقدم علينا ليس لنا إمام غيرك .
تمتم الحرّ خجلاً :
-إني لست من هؤلاء .. وإني أمرت أن أقدمك الكوفة على ابن زياد .
قال صاحب الأنف الأشمّ :
-الموت أدنى إليك من ذلك ..
القافلة تريد أن تستأنف رحلتها .. سفن الصحراء ترفع مراسيها .
و((الحر)) يعترض :
-أنا أنفّذ أمر الخليفة .
-ثكلتك أمّك .
-أما لو غيرك من العرب يقولها لي ما تركت ذكر أمّه كائناً من كان .. ولكن مالي إلى ذكر أمّك من سبيل .. فأمّك الزهراء البتول .
وأردف الحرّ متوسّلاً :
-لتسلك طريقاً وسطاً .. لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة ، حتى أكتب إلى ابن زياد ، فلعلّ الله يرزقني العافية .
كانت القافلة تسير باتجاه بوصلة القدر .. باتجاه مدينة تعيش في رحم المستقبل .
كانا يسيران على مهل .. يسيران في طريق واحد .. طريق رسمته الأقدار .
همس الحرّ بحزن :
-إني أذكّرك الله في نفسك ، فإني أشهد لئن قاتلت لتُقتلَنَّ .
وأدرك الحسين ما تموج به أعماق ((الحرّ)) .
-أفبالموت تخوّفني ؟!
سأمضي وما بالموت عار على الفتى


إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلما

فإن عشت لم أندم وإن مت لم أُلَم

كفى بك ذلاً أن تعيس وترغما

وأدرك الحر هدف الحسين .. الغاية التي يتحرك نحوها . ابتعد عنه .. أخذ ناحية أخرى من الطريق .. يسايره فيها من بعيد .. ولكنه شعر بنفسه تهفو إلى الرجل السائر نحو الموت .. الرجل الذي قال من قبل : من لحق بنا استشهد ومن تخلّف عنا لم يبلغ الفتح .

7

ما بين ((عين التمر)) و((القريات)) ، لاحت من بعيد خيمة وحيدة .. في خارجها رمح مركوز وفرس تحمحم . وفي داخل الخيمة رجل وحيد .. فرّ من الكوفة .. يريد أن ينأى بنفسه بعيداً عن قدر رهيب . فجاءه رجل من أقصى الجزيرة يسعى .
-ماذا تريد !!
-إني جئتك بهدية وكرامة . هذا الحسين يدعوك إلى نصرته .
أجاب الرجل الوحيد :
-والله ما خرجت من الكوفة إلا لكي لا أراه .. لعلّك لم تسمع الأخبار .. لقد خذلته شيعته .. قُتل ((مسلم بن عقيل)) و ((هاني بن عروة)) ورجال آخرون ، ولا أقدر على نصره ..
وأردف وهو يطرق برأسه إلى الأرض :
-ولست أحب أن يراني وأراه .
ولكن الحسين أراد أن يراه فمضى إليه .. ورآى ((الجعفي)) لمّة من الناس تهفو إليه .
رجل ذرّف على الخمسين وحوله رجال وصبية وأطفال قادمين ، فأوسع لهم في المجلس ، وجلس الجعفي قبال رجل لم يره من قبل .. تموج في جبينه طيوف النبوّات . أراد أن يكسر حاجز الصمت ، فقال مبتسماً وهو يشير إلى لحية تشبه ليلة غاب فيها القمر :
-أسواد أم خضاب ؟!
-عجّل عليّ الشيب يا ابن الحرّ .
-خضاب إذن !
-يا ابن الحرّ .. ألا تنصر ابن بنت نبيّك وتقاتل معه ؟
-إنّ نفسي لا تسمح بالموت .. ولكن فرسي ((الملحقة)) هذه لك .. والله ما طلبت عليها شيئاً قط إلا لحقته .. ولا طلبني أحد إلا سبقته .. .
-أما إذا رغبت بنفسك عنّا ، فلا حاجة لنا في فرسك .
ونهض الحسين . كان يريد أن يرفع الرجل .. أن يسمو به ، ولكنه اثّاقل إلى الأرض .
وفي آخر الليل أمر الحسين فتيانه بالاستسقاء والرحيل . ونهضت النوق .. يمّمت وجوهها نحو الأرض التي بورك فيها للعالمين .. وكان هناك ألف ذئب تتوهج عيونها غدراً .. القافلة تسير .. تشقّ طريقها في الظلام .. تتبعها قطعان من الذئاب وهي تعوي في آخر الليل .
لاح راكب من بعيد .. مدجج بالسلاح . كان رسولاً من ابن زياد إلى ((الحرّ)) يحمل إليه كتاباً خطيراً . قرأه الحرّ بصوت يسمعه الحسين :
-جعجع بالحسين حين تقرأ كتابي ولا تنزله إلا بالعراء على غير حصن ولا ماء . قال الحسين :
-دعنا ننزل ((نينوى)) أو ((الغاضريات)) .
-لا أستطيع . فحامل الكتاب عين عليّ .
قال (( زهير بن القين )) ، وكان رجلاً صحب الحسين على قدر :
-يابن رسول الله ! دعنا نقاتلهم .. إن قتال هؤلاء أهون علينا من قتال من يأتينا بعدهم . فلعمري ليأتينا ما لا قبل لنا به .
-ما كنت أبدأهم بقتال .
-ههنا قرية و((الفرات)) يحدق بها من ثلاث جهات .
-ما اسمها ؟.
-((العقر)) .
-نعوذ بالله من العقر .
والتفت الحسين إلى الحر :
-سر بنا قليلاً .
ومضت القافلة لا تلوي على شيء .. يتبعها ألف ذئب أغبر .
اهتزّت البوصلة .. تعثرت النوق .. ووقف جواد الحسين .. تسمّر في مكانه .. رفعت النوق رؤوسها .. تلفتت .. لعلّها شمّت رائحة وطن تبحث عنه . سأل الحسين :
-ما اسم هذه الأرض ؟
-الطّف .
-فهل لها اسم آخر ؟
-كربلاء .

أرجوان
17-07-2008, 01:14 AM
تجمعت الدموع في عينيه كغيوم ممطرة :
-أرض كرب وبلاء ... ههنا محطّ ركابنا وسفْك دمائنا . بهذا أخبرني جدّي رسول الله .
وفي تلك الليلة ، لاح هلال ((المحرّم)) حزيناً كقارب وحيد .. تائه في بحر الظلمات .
تعالت أصوات رجال يدقّون أوتاد الخيام ، وضحكات بريئة لأطفال يلهون في الرمال .. ونسائم عذبة تهبّ من ناحية ((الفرات)) ، وكان الحسين واقفاً يتأمّل الأفق البعيد..يحدّق في آخر الدنيا .

8

مادت الكوفة بأهلها ، واهتزّت الأرض تحت الأقدام . كتائب جنود مذعورين تتحرك في كل اتجاه .. عيون زائغة لأشباه رجال تحمل أسلحة القتل .. تنطلق إلى خارج المدينة .
((زجر بن قيس)) يقود خمسائة فارس .. يتّجه صوب جسر ((الصراة)) .
وخرج ((الشمر)) في أربعة آلاف مقاتل ، و((الحصين بن نمير)) في أربعة آلاف ، و((شبث بن ربعي)) في ألف ، و((حجّار بن أبجر)) في ألف .. وتتابعت الكتائب تلو الكتائب .. جنود يشبهون في ذلّتهم الأسرى .. قلوبهم مع الحسين وسيوفهم تستهدف قلبه .
حيّات وأفاعٍ تتلوّى .. تزحف باتجاه ((الفرات)) . وبدا النهر أفعى خرافية تتمدد وسط الرمال ... .
وفي الكوفة ، مطرت السماء ذهباً يخطف الأبصار ويسلب الألباب ، واجتمع زعماء ((القبائل)) تحت المطر ، فلم يبرحوا حتى طمّت رؤوسهم بالذهب ، والأرقط ينثر الأموال ويوّفر العطاء .. يلقي حباله وعصيّه ، فإذا هي حيّات وعقارب تسعى .
وافتتنت ((المومس)) بابن زياد ، فنسيت ذكر الحسين . قالت بخلاعة :
-مالي والدخول بين السلاطين ..
قهقه ((الأرقط)) . دوّت ضحكة شيطانية في أرجاء القصر .. جيوشه تحاصر القافلة .. تمنعها من العودة .
-وقعت في قبضتي يا حسين .. ها أنا أرتقي قمّة المجد .. سيدخل بوابة قصري قائلاً : حطّة . أنا ابن زياد ابن .. أبي سفيان .. صخر بن حرب .
افتر الرجل الأبرص ، فظهرت أنياب حادّة .
-لا تقبل من الحسين إلا النزول على حكمك . إنه الآن في أرضك ، فضيّق عليه الخناق.
ما لهذا الأبرص ؟! .. صوته كفحيح الأفعى . الخنزير يريد للنخل أن يركع .. والنخل باسق يعشق الفضاء ، وإلا مات واقفاً .
الأرقط يجيد ((الشطرنج)) . ينقل جنده وقلاعه .. يحرّك فيلة وخنازير وبيادق تحلم بحكم ((الري وجرجان)) .
الأرقط يعرف ((أصول اللعبة)) من يمينه تتدلى مشانق وحبال ، ومن شماله يسيل ذهب أصفر يأخذ بالألباب . والبيادق الفئران تفرّ مذعورة .. تحمل سيوفاً خشبية .. وتمتلئ جيوبها فضة أو ذهباً ... .
والأرقط الذي تلبّس وجهه جلد الأفعى يتمدّد في ((النخيلة)) ، يراقب بيادقه بحذر وترقب . هناك رجل سيدمّر لعبته .. سيلقف سيفه كلّ حباله وعصيّه .. وجيوشه الوهمية .
صرخ الأرقط بالرجل الأبرص .
-اكتب ((لابن سعد)) : أما بعد ، إني لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه ولا لتمنّيه السلامة . انظر ، فإن نزل الحسين وأصحابه على حكمي فابعث بهم إليّ ، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثّل بهم .
كخنزير راح الشمر يجري صوب أحلامه المريضة .. تفوح منه رائحة الموت ، وآلاف الضحايا ترقد في عينه المنطفئة .. ومنعطفيه تنبعث حرائق ودخان ، وروائح أجساد محترقة .
سلّم الكتاب إلى ((قائد الجيش)) ، وراح ينظر إليه خلسة بعين نصف مغمضة . أما عينه الأخرى فقد بدت هوّة سحيقة تعشعش فيها العناكب .
أدرك الرجل الذي ناهز السبعين أن الأبرص قد جاء يسرق منه أحلاماً قديمة .. جميلة تحكي جمال مدن ((الري)) و ((جرجان)) .
-قبّحك الله وقبّح ما جئت به . والله لا يستسلم الحسين . إنَّ نفس أبيه بين جنبيه .
-فخلّ بيني وبين العسكر .
-بل أنا الذي أتولّى ذلك .
-عقربان يتنافسان في الصحراء .. ينعب في صدريهما بوم وغراب .. يتنافسان على الفوز في سباق من الخسران المبين .

9

تجمعت في السماء النذر .. وإرهاصات حرب مدمّرة تتراكم ، كأكوام من الغيوم المشحونة بآلاف الصواعق .. وليل الصحراء مليء بالأسرار .
خرج رجل من بين مضارب الخيام .. عيناه تتألّقان تألّق النجوم .. وخرج رجل يتبعه .. يخاف عليه الغدر .
-من الرجل ؟!
-نافع بن هلال الجملي .
-ما الذي أخرجك في جوف الليل ؟.
-أفزعني خروجك يا ابن النبي .. والظلام يخفي سيوفاً مسمومة وخناجر .
-وخرجت أتفقّد التلاع والروابي ، مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل يوم تحملون ويحملون .
شدّ الحسين على يد صاحبه وقال :
-هذه هي الأرض التي وُعدت بها . ونظر إلى صاحبه بإشفاق وأردف :
-ألا تسلك بين هذين الجبلين وتنجو بنفسك ؟.
كظامئ اكتشف ينابيع الماء ، ألقى نافع نفسه على ينبوع الخلد وحياة لا تفنى :
-ثكلتني أمي يا سيّدي .. والله الذي منّ بك عليّ ! لا فارقْتك أبدا .
-ماذا رأى ((نافع)) تلك الليلة ؟! ماذا اكتشف لكي يفرّ من الدنيا .. لكي يسافر مع الحسين .. لعلّه شاهد في عينيه جنة من أعناب ونخيل تجري من تحتها الأنهار ... .
وعاد الحسين إلى مضارب القافلة ، وفي عينيه تصميم وعزم ... .
الجيوش التي أحدقت بالفرات تشدّ الأفق .. تموج كالسيل .. كلاب مسعورة وذئاب تريد الفتك .. قبائل وحشية ، أسكرتها نشوة السلب والنهب .. ما عساها أن تفعل في مهبّ إعصار فيه نار ؟! .. سبعون سنبلة خضراء تحدق بها أسراب الجراد ..
نظر الحسين إلى آلاف السيوف التي جاءت تتخطّفه ، وقال بحزن :
-الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم .
وتلفّت خلفه ، فلم يجد إلا ثلّة من المؤمنين ، سبعون أو يزيدون ومثلهم معهم من الضعفاء صبية ونساء .. وطريقان لا ثالث لهما : السلّة أو الذلّة .
-هيهات منا الذلة .. الموت أولى من ركوب العار .
-لسوف يقودون بنات محمدٍ سبايا !
-العار أولى من دخول النار .
الذئاب الجائعة تعوي .. تتحفزّ للفتك ، والقبائل تحلم بالغزو وليالي السلب المجنونة .
شمّت النسور من بعيد رائحة معركة وشيكة ، فراحت تدور في السماء .. تترقب صيدها بفارغ الصبر .. بدت وكأنها مقبرة هائلة فاغرة الأفواه ... .
القبائل تشاورت حول الأسلاب .. تفاهمت .
وقف ((الأبرص)) على الميسرة ، وانفرد ((ابن الحجاج)) بالميمنة ، فيما وقف بينهما رجل قارب السبعين يحلم بـ ((الري)) و ((الجرجان)) .
-ماذا أعددت لهؤلاء يا سيدي الحسين ؟
-سيف محمّد .
-وماذا ؟
-ورجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه .
-وماذا ؟
-والأجيال .
وشوهد الحسين يجول بفرسه .. يرسم خطّة المواجهة .
-قاربوا بين الأبنية .
تعانقت الخيام ببعضها .. تلاحمت كالبنيان المرصوص .
وشوهد الحسين وأصحابه يحفرون الخنادق خلف الخيام ويملأونها حطباً .
-كيلا تقتحمه الخيل ..
-ويكون القتال في جبهة واحدة .
الأطفال ينظرون – بحزن – جهة الفرات . شفاه باسمة تحلم بالندى .. وفتيات بغلتْ قلوبهن الحناجر يصغين – برعب – إلى طبول قبائل تحلم بالغزو والسبي ، ونسور مجنونة تحوم .. تنتظر لحظة الانقضاض . هي ذي لحظات الغروب تتراكم ملتهبة .. والفرات يتأجّج خلف ذرى النخيل المتقدة .. الليل يوشك أن يهبط والحمرة الفانية تتحول إلى رماد .. الظلام يجثم فوق الرمال كغراب في مساء خريفي . الحزن يجوس خلال الخيام .. ينشر ظلّه الثقيل ..وآهات تتصاعد من كل مكان .. وأمنيات خضراء تحلم بالمطر والخصب والحياة .
دخل الحسين خيمة أخته زينب .. المرآة التي شهدتْ – من قبل – مصرع أبيها واغتيال أخيها .. فجاءت تحرس آخر أصحاب الكساء . تريد أن تشاركه في كل شيء .. تقتسم معه الموت والخلود .
نسيم هادئ حرّك طرف الخيمة .. ربّما مسح عليها مواسياً قبل هبوب العاصفة . قالت زينب :
-هل استعملت من أصحابك نياتهم ، فإني أخشى أن يسلموك عند الوثبة .
-والله لقد بلوتهم ، فما وجدت فيهم إلا الأشوس .. يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل إلى محالب أمّه .
وكان نافع يصغي إلى هموم زينب .. إلى مخاوف عقيلة بني هاشم . أسرع نافع إلى رجل ذرّف على الستين بأعوام :
-هلم يا حبيب .. هلمّ إلى زينب .. إنها تخشى الغدر .. وقد اجتمعت النسوة عندها يبكين .
بريق نفّاذ اتّقد في العينين الأسديتين ، توهجات الغضب المخزون اشتعلت كلّها في لحظة واحدة ... هتف حبيب :
-يا أصحاب الحمية وليوث الكريهة !
انبعثت من بين الخيام سيوف ورجال . العزم المشتعل في العيون يكاد يضيء التاريخ ، والسواعد المفتولة توشك أن تلوي الأقدار .
وقف الرجال إزاء خيمة يعصف بها القلق والخوف .
هتف حبيب :
-يا معشر حرائر رسول الله ! هذه صوارم فتيانكم ، آلوا ألّا يغمدوها إلّا في رقاب من يريد السوء فيكم ، وهذه أسنّة غلمانكم أقسموا ألّا يركزوها إلّا في صدور من يفرق ناديكم .. .
ومن قلب الخيمة الحزينة ، ينبعث صوت استغاثة .. استغاثة ما تزال حتى اليوم تستفهم التاريخ والإنسانية . صوت امرأة خائفة تنشد حقّها في السلام .
-أيها الطيبّون حاموا عن بنات رسول الله .
لو كانت الغيوم حاضرة لتفجّرت مطراً ساخناً كدموع الأطفال .
وبكى الرجال .. بكت العيون المتأجّجة وهي تتطلّع إلى مذبحة مروّعة ستحدث بعد ساعات .
وفي سحر تلك الليلة ، رأى الحسين – في عالم الأطياف – كلاباً تنهشه .. تتخطف جسده ، وأشدّها كان الأبقع ..

10

فجر يشبه رماداً ذرّته الريح في العيون ، والفرات ما يزال يجري متلويّاً كحيّة تسعى ، والقبائل التي باتت تحلم بالأسلاب استيقظت ترنو بعيون متنمّرة إلى مضارب بعيدة .
اختلطت أصوات عديدة ، رغاء جمال .. وصهيل خيول .. وقعقعة سيوف ورماح ودموع .
والحرّ الذي أوقع بالقافلة ، وساقَها إلى أرض الموت ، يقف مشدوداً لمنظر جموع غفيرة .. جاءت لقتل سبط النبي . لم يخطر بباله أبداً أن تنحدر الكوفة لقتل ((المخلّص)) ..
حرّك فرسه إلى مقدمة الصفوف ، وراح يحدّق في الأفق حيث يقف الحسين . شاهده من بعيد يرتّب مقاتليه . إنهم لا يزيدون عن السبعين أو الثمانين . هل سيقاتل الحسين حقاً ؟ هل يدخل معركة خاسرة ؟
وسمع الحرّ الحسين يخطب بجيشه الصغير :
-إن الله تعالى قد أذن في قتلكم وقتلي في هذا اليوم فعليكم بالصبر والقتال ... .
رآهم ينقسمون إلى ثلاث فرق ، الجناح الأيمن بقيادة ((زهير بن القين)) ، والجناح الأيسر بقيادة ((حبيب بن مظاهر)) ، أما الحسين فقد ثبت في القلب .. وتسلّم الراية ((أبو الفضل)) فبدا والراية تخفق فوق رأسه جيشاً لوحده .
القبائل تزحف باتجاه الخيام .. والخيول تجول .. تثير غباراً والقلوب الصغيرة تخفق بشدّة .. يا له من يوم عصيب !
أصدر الحسين أمره بإضرام النار في الخندق .. فتصاعدت ألسنة اللهب .. وتراجعت الخيول .. فرّت مذعورة من خطّ النار .
اغتاظ ((الأبرص)) من هزيمة فرسانه ، فصاح بنفاق :
-يا حسين تعجّلت بالنار قبل يوم القيامة !
-سأل الحسين مستوثقاً :
-من هذا ؟! كأنه شمر بن ذي الجوشن .
-نعم .. إنه الشمر .
انطلق صوت الحسين :
-يابن راعية المعزى ! أنت أولى بها صليّاً .
وضع ((مسلم بن عوسجة)) سهماً في كبد القوس .. استهدف الأبرص الذي باع نفسه للشيطان . وفي اللحظة الأخيرة ، تدخّل الحسين قائلاً :
-أكره أن أبدأهم بقتال .
-تذكّر الحسين كيف كان الأبقع ينهش جسده بوحشية . رفع يديه إلى السماء .. إلى العالم اللانهائي .. شاكياً ويلات الأرض . كانت كلماته تنساب كنهر بارد .. نهر قادم من جنات عدن :
-اللّهم أنت ثقتي في كل كرب ، ورجائي في كل شدة ، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدّة .. كم من هم يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت فيه العدوّ أنزلته بي وشكوته إليك رغبةً مني إليك عمّن سواك ، فكشفتَه وفرّجتَه . فأنت وليّ كل نعمة ومنتهى كل رغبة ... .
القبائل تزداد ضراوة .. والسيوف تبرق من بعيد .. تقطر حقداً ونذالة .. والحرّ يتقدمّ قليلاً قليلاً . راح ينظر إلى الحسين الذي ركب ناقته .. يريد أن يخطب بالقبائل المحيطة به . أرهف الحرّ سمعه لهذا القادم من أقصى الجزيرة يحمل معه كلمات محمد وعزم علي .
استوى الحسين على ناقته ، فبدا كنبيٍّ يعظ قومه :
-أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حق لكم علي ، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم . فإن قبلتم عذري وصدّقتم قولي وأعطيتموني النصَف من أنفسكم كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم عليّ سبيل . وإن لم تقبلوا مني العذر ولم تعطوا النصَف من أنفسكم فأَجمِعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غُمّة ثم اقضوا إليَّ ولا تُنظرون إنّ وليّي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين .
اختلطت الكلمات مع بكاء مرير انبعث من قلب الخيام ... .
توقف الحسين عن إلقاء الخطاب .. أمر أخاه ((أبا الفضل)) وابنه ((علياً الأكبر)) :
-سكتاهن ، فلعمري ليكثر بكاؤهن ... .
عاد الصمت قليلاً .. سكوت عجيب يهيمن على كل شي ما خلا ريح خفيفة كانت تحمل كلمات الحسين :
-أيها الناس إن الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال . فالمغرور من غرّته والشقي من فتنته فلا تغرنّكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن إليها وتخيّب طمع من طمع فيها . وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم . أحلّ بكم نقمته . فنعم الربّ ربّنا وبئس العبيد أنتم ، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّد ، ثم إنكم زحفتم إلى ذريّته وعترته تريدون قتلهم . لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم .. هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم ، فبعداً للقوم الظالمين .. .
الكلمات تخترق الآذان ... تتغلغل في القلوب . شعر الحرّ بأن زلزالاً يضرب دنياه . راح يصغي إلى دويّ الأنقاض وهي تتراكم في أعماقه :
هل أنا في كابوس ؟ .. ماذا أرى ؟ .. ماذا أسمع ؟ ربّاه ماذا أفعل ؟!
راكب الناقة ما يزال يرسل كلمات يبعثها مع الريح .. على أجنحة الفكر ..
-أيها الناس انسبوني من أنا ، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحلّ لكم قتلي .. ألست أنا ابن بنت نبيكم ؟ وابن وصيه وابن عمه ؟ وأول المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله ؟ .. أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي ؟! أو ليس جعفر الطيار في الجنة عمّي ؟ .. أو لم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي هذان سيدا شباب أهل الجنّة ؟ فإن صدّقتموني بما أقول ، وهو الحق والله ما تعمدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ويضرّ به من اختلقه ، وإن كذبتموني فإنّ فيكم من إذا سألتموه عن ذلك أخبركم . سلوا ((جابر بن عبد الله الأنصاري)) و ((أبا سعيد الخدري)) و ((سهل بن سعد الساعدي)) و ((زيد بن أرقم)) و ((أنس بن مالك)) يخبرونكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي . أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ؟.
صرخ صوت شيطاني يريد أن يبتلع كلمات الأنبياء . صرخ الأبرص :
-إنّا لا ندري ما تقول ؟!
هتف حبيب ، وكان رجلاً على أعتاب السبعين :
-أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول . قد طبع الله على قلبك .
البركان الثائر يستأنف إرسال حممه :
-فإن كنتم في شكّ من هذا القول ، أتشكّون أني ابن بنت نبيكم ، فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم ، ويْحَكم ! أتطلبوني بقتيل لكم قتلته ! أو بمال لكم استهلكته أو بقصاص جراحة ؟!.
وقفت القبائل عاجزة . إن في طينة البشر قابلية الانحطاط .. الانحطاط حتى المسخ .. قابيلة تشبه الجاذبية في الأجسام . الكوفة مثقلة بالإثم والغدر .. قلبها مع الحسين وسيفها يمزّق قلبه .
ونادى الحسين بصوت جهوري :
-يا ((شبث بن ربعي)) ويا ((حجّار بن أبجر)) ويا ((قيس بن الأشعث)) ويا ((زيد بن الحارث)) ألم تكتبوا إلي أن أقدم قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب وإنما تقدم على جند لك مجنّدة ؟
تعالت الأصوات مذعورة .. أصوات فئران خائفة :
-لم نفعل .. لم نفعل .

أرجوان
17-07-2008, 01:17 AM
-سبحان الله ! بلى والله لقد فعلتم .. أيها الناس إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمن من الأرض .
صرخ قيس بن الأشعث ، وقد التمعت عيناه بالغدر :
-أوَلا تنزل على حكم ابن عمّك ؟ فإنهم لن يروك إلا ما تحب ، ولن يصل إليك منهم مكروه .
-أنت أخو أخيك . أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل ؟ لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد ... عباد الله إني عذت بربي وربكم أن ترجُمون . أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب .
11

أشرقت الشمس .. حمراء .. بركة من دماء . التمعت ذرى النخيل ، وتوهجت ذرات الرمال ، واصطبغت وجوه القبائل بلون الجريمة .. واستيقظ الشيطان يعربد ويدمّر... .
صرخ شيطان من القبائل :
-يا حسين .. أبشر بالنار .
-كذبت بل أقدم على ربّ غفور كريم .. فمن أنت ؟ .
-أنا ابن حوزة .
-اللّهم حِزه إلى النار .
لا أحد يعرف كيف حدث الأمر . ما الذي أغضب الفرس ؟ ما الذي دفعها تركض كالمجنونة .. تدور وتدور . وفي فورة غضب تمكنت الفرس أن تقذف من على ظهرها الفارس .. في قلب الخندق المشتعل . لحظات مرّت تحول فيها ابن حوزة إلى رماد .. تحولت أحلام السلب والنهب وشهوة القتل إلى هشيم تذروه الريح ... .
لو كان هناك رجل من الحواريين لقال هذا ابن الله .
ولقال له الحسين :
-أنا ابن نبي الله .
هتف السبط :
-اللّهم إنا أهل بيت نبيك وذريته وقرابته ، فاقصم من ظلمنا وغصبنا حقّنا إنك سميع قريب ...
ما أقرب السماء للإنسان إن سما . وتذكر الحسين رجلاً سأل أباه : كم هي المسافة بين السماء والأرض ؟ فأجاب ((باب مدينة العلم)) : دعوة مستجابة .
وقف ابن سعد منتشياً بأحلامه ... ما هي إلّا ساعة ، ثم ينتهي كل شيء ... سوف يُحكم قبضته على الري وجرجان ... لم تبق إلّا خطوة واحدة .. أن يعبر جثة الحسين .. بركة صغيرة من الدم .. ثم ينطلق صوب الشرق .. إلى عالم يزخر بالجواري والحريم .
تقدّم الحرّ .. أيقظه من الحلم :
-أمقاتل أنت هذا الرجل ؟!
-إي والله قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي .
-دعوه ينصرف إلى مكان في هذه الأرض ؟
-لو كان الأمر بيدي لقبلت .. إنها أوامر ابن زياد .
أدرك الحرّ أن الساعة آتية لا ريب فيها ، ولسوف تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وترى الناس بسكارى وما هم بسكارى .. وبدأ الحرّ يخطو صوب القافلة .. قال ((ابن أوس)) وقد ذهبت به الظنون .
-أتريد أن تحمل ؟!
-...
ضرب الزلزال الأعماق مرّة أخرى ، وشعر الحرّ بالأنقاض تتراكم بعضها فوق بعض ..
هتف ابن أوس متعجباً :
-لو قيل لي من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك ؟ فما هذا الذي أراه منك ؟.
التفت الحرّ وصوّب نحوه نظرة تحمل كل معاني الاكتشاف :
-إني أخيّر نفسي بين الجنّة والنار .. والله لا أختار على الجنة شيئاً ولو أُحرقت ... .
تمتم ابن سعد مذهولاً :
-ماذا أرى ؟.. ماذا يفعل هذا المجنون ؟.. كيف يختار الإنسان الموت !.. انظروا إليه .. كيف يبدو خاشعاً أمام الحسين .. .
-انصتوا إنه الحرّ .
قهقه أحدهم :
-إنه يريد موعظتنا هو الآخر .. .
هتف شبث بن ربعي :
-أيها الأحمق ، دعنا نسمع ما يقول .
وجاء صوت الحرّ جهورياً مدويّاً منطلقاً من أعماق نفس اكتشفت ينابيع الخلود:
-يا أهل الكوفة لأمّكم الهبل والعبر ، إذ دعوتموا هذا العبد الصالح وأحطتم به من كل جانب ومنعتموه التوجه إلى بلاد الله العريضة حتى يأمن هو وأهل بيته ، وأصبح كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّا وحلأتموه ونساءه وصبيته وصحبه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والنصارى والمجوس ، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه ! وهاهم قد صرعهم العطش . بئسما خلفتم محمداً في ذريته ..
وانطلقت نحوه السهام كالمطر .. وتقهقر الحرّ متفادياً نبال القبائل الغادرة .
12

نسور مجنونة تحوم في السماء ، وريح عاصف تهب من ناحية الصحراء ، وبدت أشجار النخيل كرماح مركوزة في خاصرات الفرات .
بدا الجوّ مشحوناً بالخطر ، ومثلما تندلع الصواعق بين أكوام السحب ، تدفقت سهام مجنونة تحمل في أنصالها الموت .
هتف الحسين بأنصاره :
-قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لابدّ منه ، فإن هذه السهام رسل القوم إليكم .
هبّت رجال كانوا ينتظرون على أحرّ من الجمر .
كيف أصبح الموت أمنية لهم ؟. كيف أضحى في نظرهم خلوداً .. كيف تحولت الصحراء الملتهبة إلى جنات تجري من تحتها الأنهار .
غاص الرجال في أحراش كثيفة من رماح وسيوف . كانوا يقاتلون بضراوة لا نظير لها . أكما لو كانوا يريدون توجيه مسار التاريخ الاتجاه الذي ينشدون .
امتلأ الجوّ غباراً ودخاناً ، وكانت السيوف تهوي كبروق مشتعلة ، وعندما غادر الغبار أرض المعركة ، كان هناك خمسون صريعاً يعالجون جراحاتهم في الرمضاء .. الجراح تسقي الأرض .. والدماء تروي شجرة الحريّة .. شجرة أصلها ثابت في أعماق التراب ، وفرعها في هامة السماء .
تمتم الحسين متألماً :
-اشتد غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً ، واشتد غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة ، واشتد غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه ، واشتد غضبه على قوم اتفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيهم ... أما والله لا أجيبهم إلى شيء مما يريدون حتى ألقى الله وأنا مخضب بدمي .
هجم الأبرص على إحدى الخيام ، وقد اشتعلت في عينيه شهوة النهب ، وهاج شيطان يعربد في أعماقه :
-عليَّ بالنار لأحرقه على أهله ... .
القلوب الصغيرة الخائفة فرّت مذعورة من الخيمة كطيور هاربة من سفن بعيدة غرقت .
صاح الحسين :
-يابن ذي الجوشن أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي .. أحرقك الله بالنار .
واستنكر شبث بن ربعي الحضيض الذي وصل إليه رفيقه .
-أمرعباً للنساء صرت ؟! ما رأيت مقالاً أسوأ من مقالك ، ولا موقفاً أقبح من موقفك ...
وتمتم وهو يعضّ على يده :
-قاتلنا مع علي بن أبي طالب ومع ابنه من بعده آل أبي سفيان خمس سنين ، ثم عدونا على ولده – وهو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية ! ... ضلال ... يا لك من ضلال !!
توسطت الشمس كبد السماء ، والقبائل تتخطف القافلة ...
التفت ((أبو ثمامة الصائدي)) إلى الحسين . قال بخشوع :
-نفسي لك الفداء . إني أرى هؤلاء قد اقتربوا منك . لا والله لا تقتل حتى أُقتل دونك . وأحب أن ألقى الله وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها .
رفع الحسين رأسه إلى السماء وألقى نظرة على الشمس :
-ذكرت الصلاة .. جعلك الله من المصلّين الذاكرين ، نعم هذا أول وقتها ...
وأردف وهو يجفف حبّات عرق تلتمع فوق جبينه :
-سلوهم أن يكفّوا عنا حتى نصلّي .
هتف ابن نمير وكان فظاً غليظ القلب :
-إنها لا تقبل !
أجاب حبيب بن مظاهر غاضباً :
-زعمت أنها لا تقبل من آل الرسول وتقبل منك يا حمار !
عربد الشيطان في أعماق ((ابن نمير)) ، فأقحم الفرس نحو ((حبيب)) وحبيب واقف كالجبل لم يكترث بالجموع وهي تنحدر نحوه . وتخطفته سيوف القبائل ... وانسابت دماؤه قانية فوق رمال الصحراء تروي لها أروع قصص الوفاء والتضحية والفداء .
واسترجع الحسين كثيراً :
-عند الله أحستب نفسي وحماة أصحابي .
القبائل تموج كأنها ريح صفراء تحمل في طياتها الموت ، والحسين وسط الإعصار يصلّي بأصحابه الصلاة الأخيرة .. السماء تفتح أبوابها للقافلة القادمة ، والفضاء يزخر بأجنحة الملائكة .. ونسائم طيبة تحمل رائحة الربيع .. ربيع جنّات الفردوس .
التفت الحسين إلى أصحابه وهو يشير إلى مسار القافلة :
-يا كرام هذه الجنّة قد فتحت أبوابها ، واتصلت أنهارها ، وأينعت ثمارها ، وهذا رسول الله ، والشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله يتوقّعون قدومكم ويتباشرون بكم ، فحاموا عن دين الله ، ودين نبيّه وذبّوا عن حرم الرسول ...
القافلة التي اكتشفت ينابيع الخلد تهبّ للخطى الأخيرة :
-نفوسنا لنفسك الفداء ، ودماؤنا لدمك الوقاء . فوالله لا يصل إليك وإلى حرمك سوء وفينا عرق يضرب .
السماء تفتح أبوابها ، والرجال يعرجون . تقدم ((أبو ثمامة)) إلى المعراج ، وما أسرع أن حلّق إلى السماوات مخلِّفاً وراءه برْكة من دماء قانية .
ومن بعده انطلق ((زهير)) . وضع يده فوق منكب الحسين ، وأنشد :
أقدم هديـت هاديــاً مهديــاً


فـاليـوم ألقـى جـدّك النبيّــا

وحسنــاً والمرتضــى عليــاً

وذا الجنـاحـين الفتى الكميّــا

وأسـد الله الشهيــد الحيّــا
-وأنا ألقاهما على أثرك .
وما أسرع أن لحق برفاقه . القافلة تطوي السماوات .. تتخطى الكواكب والأفلاك .. في عروج ملكوتي فريد .
وقف الحسين عند مصرعه ، وقال متأثراً :
-لا يبعدنك الله يا زهير ولعن قاتليك لعْن الذين مسخوا قردة وخنازير .
واستعد ((نافع الجملي)) للرحيل ، فغاص في أعماق القبائل وانهمرت عليه الحجارة من كل صوب ، فتهشم عضداه ، وسيق أسيراً . كانت الدماء تنزف منه ، وقد صبغته بحمرتها المشتعلة . قال ابن سعد بلهجة ينمّ منها الإعجاب ببسالته :
-ما حملك على ما صنعت بنفسك ؟!
إن ربي يعلم ما أردت .
-أما ترى ما بك ؟!
-والله لقد قتلتُ منكم اثني عشر سوى من جرحت ، وما ألوم نفسي على الجهد .. ولو بقيت لي عضد ما أسرتموني .
جرّد الأبرص سيفه وقد برقت عيناه حقداً .. فقال نافع بطمأنينة :
-والله يا شمر لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا ... فالحمد لله الذي جعل منايانا على أيدي شرار خلقه ... .
هوى السيف بقسوة ، وتدحرج الرأس فوق الرمال ، وعيناه تنظران باتجاه عوالم لا نهائية ، وقد ارتسمت ابتسامة هادئة فوق شفتين ذابلتين من الظمأ .
ونادى رجل من القبائل :
-يا برير ، كيف ترى صنع الله بك ؟
أجاب برير وهو ينظر إلى ما وراء غبار الزمان :
-صنع بي خيراً وصنع بك شرّاً .
-كذبت وقبل اليوم ما كنت كذابا . أتذكر يوم كنت أماشيك في ((بني لوذان)) وأنت تقول : كان معاوية ضالاً وإن إمام الهدى علي بن أبي طالب ؟
-بلى أشهد أن هذا رأيي .
-وأنا أشهد أنك من الضالّين .
-تعال نبتهل إلى الله فيلعن الكاذبَ منا ويقتله .
توجهت أيد مع قلوب إلى السماء تستمد النصر ، وارتفعت أيد جذّاء . فتقبِّل من أحدهما ولم يُتقبل من الآخر . وبدأت المنازلة ... هوى برير بسيف يشبه صاعقة مدمّرة .. فهوى الرجل الذي حاقت به اللعنة إلى الأرض كأنما خرّ من شاهق .
13





الشمس ما زالت مسمّرة في زرقة السماء تصبّ لهيباً يشوي الوجوه ... وعجلة الموت تدور مجنونة في الرمال الملتهبة .. تتخطف رجالاً لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ... .
تقدم ((جون)) .. دفعته الأيام من أصقاع بعيدة ، وكان فتى لأبي ذر الغفاري ..
قال الحسين :

أرجوان
17-07-2008, 01:23 AM
-يا جون إنما تبعتنا طلباً للعافية ، فأنت في إذن مني .
أجاب جون بضراعة :
-أنا في الرخاء ألحس قصاعكم ، وفي الشدّة أخذلكم .. لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم .
واندفع جون يقاتل القبائل .. والأرض تهتزّ تحت قدميه بشدّة .. كطبول أفريقية .
وأطبقت السيوف عليه كأنياب وحش أسطوري .
تمتم الحسين ، وهو يتأمل جراحه النازفة :
-اللهم احشره مع محمد وعرّف بينه وبين آل محمد .
وتقدم من بعده أنس بن الحارث الكاهلي ، وكان شيخاً كبيراً صحابياً ، رأى النبي وسمع حديثه ، وشهد معه بدراً ، وحنيناً ، ومعارك دامية أخرى .
الشيخ الذي حنت ظهره الأيام .. ووقفت عاجزة أمام إرادته .. نزع عمامته ، وشدّ ظهره المقوّس بها ، ورفع حاجبيه بالعصابة .
كان الحسين يراقبه ، وعيناه تنهمران دموعاً .. ثم أجهش بالبكاء ..
-شكر الله لك يا شيخ !
تقدم الصحابي بخطى واهنة ، وعزم كالحديد أو أشد بأساً .. وتداعت أمامه صور مشرقة من جهاده مع النبي يوم كان يقاتل المشركين كافّة .. وها هو اليوم يقاتل أبناءهم وأحفادهم ... ودوّت في أذنيه كلمات الرسول في المعارك : يا منصور أمت ...
ووجدت القبائل فيه ثأراً قديماً من ثارات بدر وحنين .. فتكالبت عليه من كل حدب وصوب . وعندما هوى الصحابي الكبير إلى الأرض ، ولامس وجهه الرمال ، شعر بأنه يقبّل وجه النبي .
الصحراء تئنّ من وقع سنابك الخيل ، والرمال تشرب الدماء وتنشد المزيد ، والقبائل تنتشي بثارات قديمة .. قديمة جداً .
الفرات يجري .. تتدافع أمواجه ، فبدا غير مكترث لما يدور على شواطئه .. بل لعلّه كان يسرع ممعناً في الفرار .. لا يريد أن يشهد الأهوال .. أو ربّما كان يريد أن يروي للبحر قصة الصحراء والظمأ والحسين .
لم يبق مع الحسين من أصحابه أحد .. ودّعوه وذهبوا بعيداً ..
لم يبق مع الحسين سوى أهل بيته ... فتقدم علي الأكبر .. إعصار يختزن غضب الأنبياء .. الأب يودّع ابنه بنظرات حزينة كغيوم ممطرة .
كانت دموع الحسين تنهمر . وبصوت ، يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر ، هتف :
-قطع الله رحمك يابن سعد كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله .. وسلّط عليك من يذبحك على فراشك .
الأكبر يخترق غابة السيوف والرماح .. والحسين يرفع وجهه .. يحدّق في السماء :
-اللهم اشهد على هؤلاء القوم ، فقد برز إليهم أشبه الناس برسولك محمد خلْقاً وخُلُقاً ومنطِقا ، وكنا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيك نظرنا إليه ، اللهم فامنعهم بركات الأرض .
العلوي يخترق أحراش الرماح .. وبين الفينة والأخرى يلوح بريق سيف غاضب كوميض الصواعق بين سحب مشحونة .. مخزونة بالرعود .
هزّ (( مرّة بن منقذ )) رمحه ، وقد عصفت في نفسه الحمية .. حمية الجاهلية :
-عليَّ آثام العرب إن لم أثكل أباه .
واخترق رمح وحشي طيفاً نبوياً . فاعتنق فرسه . فانطلقت وسط أحراش السيوف وغابات الرماح .. وتختطفه القبائل المتوحشة .. وانبثقت كلمات ((الأكبر)) كنافورة حبّ أزليّة :
-عليك مني السلام أبا عبد الله ، هذا جدي قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها ، وهو يقول إن لك كأساً مذخورة .
وعندما وصل الأب المفجوع ، كان الابن قد رحل بعيداً .. بعيداً جداً .. وفي عينيه تلوح قوافل مسافرة .
الجراح النبوية تنزف . ملأ كفّه من ينابيع الحياة ، ثم رمى بها إلى السماء .. الرذاذ الأحمر يصّعّد إلى الفضاء اللانهائي .. يتحول إلى نجوم تنبض أملاً ، فتهتدي في وميضها قوافل قادمة من رحم الأيام .
-على الدنيا بعدك العفا ... ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول .
الراية ما تزال تخفق بعنف .. تعلن الثورة .. الرفض .. الإباء ..
الدماء تنزف .. تروي الرمال .. تنفخ فيها روحاً ، وتبثّها أسراراً لا يدركها أحد من العالمين .
-هل رأيتم القمر يمشي على الأرض
تمتم التاريخ متعجباً ، وهو يرى القاسم بن الحسن .. فتىً لم يبلغ الحلم بعد . يمشي الهوينى .. عليه قميص وإزار ، وفي رجليه نعلان ، في يمينه سيف .. يطوّح به يميناً وشمالاً .. يقاتل الذين غدروا .. إنهم لا إيمان لهم . انقطع شسع نعله اليسرى ، فانحنى يشدّه .. غير عابئ بالقبائل تدور حوله كدوّامة ما لها من قرار .
شدّ عليه رجل يلهث ، فاستنكر آخر :
-ما تريد من هذا الغلام ؟! يكفيك هؤلاء الذين استوحشوه .
-لأشدّن عليه .
وارتطم سيف جبّار ، فانشقّ القمر :
-يا عماه !
وهبّ الحسين عاصفة مدمّرة .. إعصار فيه نار . وما أسرع أن هوى العم على قاتل ابن أخيه بسيف مشحون غضباً . وصرخ القاتل لهول الضربة . وأرادت الخيل أن تدفع عنه الموت ، فداسته بحوافرها .. وضاع بين سنابك الخيل . وضاعت معه كل أطماعه وأوهامه .
وقف الحسين عند الفتى الشهيد :
-بعداً لقوم قتلوك . خصمهم يوم القيامة جدّك . عزَّ – والله – على عمك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك ثم لا ينفعك .
الموت يتخطف القافلة .. والمسافرون يعرجون إلى السماء .. أرواحاً شفافة خلعت أهابها الأراضي ورحلت إلى عالم معمور بالنور .
لم يبق مع الحسين سوى حامل الراية ، رجل يدعى أبو الفضل ، أبوه أبو الحسن ، وأمه امرأة ولدتها الفحولة من العرب .
الراية تخفق في شماله ، وفي يمينه بتّار يقصف الأعمار .
ثمة عيون تتطلع من وراء خيام .. تنظر إلى الراية .. تخفق كشراع سفينة تعصف بها الريح من كل مكان .
القلوب التي صدّعها الظمأ تنشد الماء ، والفرات دونه غابات من الرماح ، وأبو الفضل يكاد يتفجر غضباً كلما سمع أنّة بنت أو صراخ صبي : العطش ... العطش ... ولا شيء سوى السراب ، سراب يحسبه الظمآن ماء .
تقدم صاحب الراية من أخيه الذي بقي وحيداً .. الحسين ينظر إلى آخر القرابين السماوية :
-يا أخي أنت صاحب لوائي .
قال أبو الفضل وهو يكاد يتميز من الغيظ :
-قد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين ، وأريد أن آخذ ثاري .
-إذا كان ولابدّ ، فاطلب لهؤلاء الأطفال ماء .
انطلق أبو الفضل إلى القبائل .. إلى قلوب قاسية أقسى من الحجارة .. وإن من الحجارة لما يتفجّر منها الأنهار .
-يا عمر بن سعد ! هذا الحسين ابن بنت رسول الله .. قد قتلتم أصحابه وأهل بيته ، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء .. قد أحرق الظمأ قلوبهم . وهو مع ذلك يقول : دعوني أذهب إلى الروم أو الهند وأخلي لكم الحجاز والعراق .
صاح الأبرص بصوت يشبه رنّة الشيطان :
-يابن أبي تراب ! لو كان وجه الأرض كلّه ماء ، وهو تحت أيدينا ، لما سقيناكم منه قطرة .. إلا أن تدخلوا في بيعة يزيد .
الأطفال يصيحون .. القلوب الظامئة تئنّ .. الشفاه الذابلة تهتف : العطش .. العطش . والفرات يجري .. تتدافع أمواجه .. كبطون الحيّات . اعتلى صاحب اللواء صهوة الجواد ...
حمل القربة ، وفي أذنيه كلمات قالها أبوه على شاطئ الفرات بصفين : روّوا السيوف من الدماء ، ترووا من الماء .
انطلق أبو الفضل باتجاه الفرات وسط وابل من سهام ونبال .. رجال القبائل يفرّون بين يديه مذعورين .. كأنما يفرّون من الموت الزؤام ..
الفارس يشقّ طريقه غير مبالٍ بالألوف التي أحدقت به .. يتوغّل في أعماق النخيل المحدق بالشاطئ كأهداب حوريّة .. أبو الفضل يقحم فرسه النهر ، فيتطاير رذاذ الماء . اهتزّت سعفات نخلة لكأنما طربت لشجاعة وبأس ستذكرهما الأيام .
المياه المتدافعة تجري تحت الأقدام ، والفارس الظامئ يغترف من الماء غرفة .. فيتذكّر قلباً يكاد يتفطّر عطشاً ، تمتم وهو يطوّح بقبضة الماء بعيداً
يا نفس من بعد الحسين هوني


وبعـده لا كنت أن تكـوني

ملأ القربة ماءً ، ثم قفز فوق جواده ، وانطلق نحو مضارب الخيام ...
القبائل تقطع عليه طريق العودة ، وقد غاظها منظر القربة تموج بمياه الفرات .
الفارس يسطر الملاحم وينشد :
لا أرهب الموت إذا الموت زقـا


حتى أوارى في المصاليـت لقـى

نفسي لسبط المصطفى الطهر وقا

إني أنا العباس أغـدو بالسقـا


ولا أخاف الشرّ يوم الملـتقـى

رجل من القبائل يتقن الغدر يختبئ وراء نخلة .. في يده سيف ورثه عن ((ابن ملجم)) .
السيف الغادر يهوي – على حين غفلة – فيطيح باليمين لتستقر عند جذع نخلة سمراء :
والله إن قطعتـم يميـني


إني أحامي أبداً عن ديني


وعن إمام صادق اليقين


نجل النبي الطاهر الأمين

أبو الفضل يشقّ طريقه . أصبح هدفه إيصال الماء إلى قلوب تتصدّع عطشاً وتحلم بمواسم المطر .
سيف غادر آخر يهوي من وراء نخلة ، فيطيح بالشمال . سقطت الراية ومن قبلها سيف علوي .. وأبو الفضل يشقّ طريقه في وابل السهام والنبال . وعندما اخترق القربة سهم وانثالت المياه ، فقد الفارس المقطوع اليدين حماسه في العودة إلى المخيم ، ودارت به القبائل كدوّامة مجنونة ، وهوى الرجل – وما هو برجل – بعمود على رأسه ففلق هامته ، وانطلق صوت يبشر بالسلام القادم .
-عليك مني السلام أبا عبد الله .
وانطلقت من بين مضارب الخيام صيحات تنذر بهبوب العاصفة..صاحت زينب ومعها نسوة وبنات :
-واضيعتنا بعدك .
فتمتم الحسين وهو ينشج :
-واضيعتنا بعدك !


14

أزفت ساعة الرحيل .. أجال آخر الأسباط عينيه المتألقتين في الرمال الممتدّة حتى الأفق . نساء وأطفال خرجوا من بين الخيام .. العيون الحزينة تحدق بآخر الرجال .. بآخر خيوط الأمل . هتف الحسين بأعلى صوته .. يخاطب التاريخ والإنسان .
-هل من ذابّ عن حرم رسول الله ؟ هل من موحّد يخاف الله فينا ؟
وامتزجت صرخته بعويل وبكاء .. وانغمست بالدموع .. بالدماء .
نهض فتىً طوّح به المرض .. نهض يجرجر نفسه وسيفه .. يتوكأ على عصا .. فتى ادّخره أبوه ليوم آخر .
هتف الحسين بأخته :
-احبسيه لئلا تخلو الأرض من نسل آل محمد !
كأسراب الغربان طاف الحزن بين الخيام .. جثم على القلوب المقهورة ، وراح ينعق بصوت ينذر باقتراب الكارثة .
وقف الحسين للوداع .. وداع الأرض .. الشمس تغمر الرمال باللهب ، والفرات يجري .. يمعن في الفرار .. والقبائل مجنونة بثارات قديمة .. والريح تدور .. تعدو بعيداً .. مسكونة بالرحيل .. مبهورة بالسفر .. والحسين يرتدي حلّة العروج .. على رأسه عمامة مورّدة ، ملتحف ببردة النبي .. متقلد سيفه .
القبائل تجنّ لمنظره .. تشتعل في أعماقها شهوة الثأر .. تبرق عيونها للأسلاب العظيمة .
طلب الحسين ثياباً لا يرغب بها أحد ، ليضعها تحت حلّته . فقدموا له سروالاً قصيراً فأبعده بطرف سيفه .
-إنه من لباس الذلة .
اختار ثوباً قديماً ، فخرّقه بسيفه ، ولبسه تحت ثيابه .
القبائل تتحفز لقتل آخر الأسباط .. والسبط يودّع الأطفال والنساء .
احتضن طفله الرضيع ، وراح يقبله متمتماً بحسرة :
-بعداً لهؤلاء القوم إذا كان جدك المصطفى خصمهم .
الشفتان الصغيرتان تبحثان عن قطرة ماء .. والفرات يموج بالمياه .
يتلوّى وسط الصحراء حيّة تسعى . تقدم الحسين يحمل طفله الظامئ :
-ألا قطرة ماء ؟
وينطلق سهم غادر يحمل في نصله الذبح . الطفل يخرج يده الصغيرة من القماط . ما تزال يده ممدودة .. تستفهم التاريخ والإنسان .
الدماء الشّفافة تغمر صدر الحسين .. الأب يملأ كفّه من النافورة الحمراء .. ثم يطوّح بها في السماء . رشاش الدم يصّعد إلى الفضاء .. يخترق الحجب البعيدة .. يخرق قوانين الأرض . همس الحسين :
-هوّن ما نزل بي أنه بعين الله ، اللهم أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الناس برسولك محمد .
طيف ملائكي يخطف أمامه .. يحمل في جناحيه عبير الفردوس .
-دعه يا حسين فإنّ له مرضعاً في الجنّة .
مثل عاصفة غاضبة هبّ الحسين يمزّق بسيفه القبائل . تساءل النخيل وهو يهزّ سعفاته بإجلال عن رجل وحيد يقاتل الآلاف .
أنا الحسيـن بن عـلـي


آليت أن لا أنـثــنـي

صرخ ابن سعد وهو يرى أحلامه تتبدد :

أرجوان
17-07-2008, 01:26 AM
-هذا ابن الأنزع البطين . هذا ابن قتّال العرب .
احملوا عليه من كل جانب . فأطبقت عليه القبائل ، وأمّته آلاف السهام ، وحالت بينه وبين الخيام .
هتف آخر الأسباط :
-يا شيعة آل أبي سفيان !! إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم ، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون .
صاح الأبرص :
-ما تقول يابن فاطمة ؟
-أنا الذي أقاتلكم والنساء ليس عليهن جناح ، فامنعوا عتاتكم عن التعرّض لحرمي ما دمت حياً .
-لك ذلك .
وقصدته القبائل .. الحسين الظامئ يدمع أمواج الغدر .. يقاتل .. يقاوم .. يحصد رؤوس الذين كفروا . شعر بعطش شديد .. والفرات محاصر بأربعة آلاف أو يزيدون .. الفرات تنثال مياهه على الشطآن ترتاده دوابّ الأرض ... وآخر الأسباط ينشد غرفة واحدة .
الزوبعة تتجه نحو النهر .. تجتثّ في طريقها أشباه الرجال .
قال ابن يغوث – وكان مع القبائل : ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده وأهل بيته وصحبه أربط جأشاً منه ولا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً .. ولقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شدّ فيها ، ولم يثبت له أحد .
الحسين يقهر القبائل .. يحتلّ الفرات .. ويقحم فرسه المياه المتدفّقة .. الأمواج تتلألأ في ضوء الشمس . شعر الفرس ببرودة الماء .. حنى رأسه ليشرب .. ليرتوي .
قال قاهر الفرات مخاطباً الفرس ، وكان من جياد خيل النبي :
-أنت عطشان وأنا عطشان فلا أشرب حتى تشرب .
رفع الجواد رأسه .. رفض أن يشرب قبل صاحبه . مدّ الفارس يده ليغرف ، ناداه رجل من القبائل :
-أتلتذّ بالماء وقد هتكت حرمك ..
طوّح السبط بقبضة الماء وانطلق صوب الخيام .. أشرقت الوجوه الخائفة . لقد عاد الأمل .
التفّت حوله صبية ونساء .. تعلقت به . الشمس تجنح نحو الغروب ، والحسين يسافر مع الشمس . ودّع عياله . كشف لهم صفحة من عالم الغد ، وقرأ عليهم سطوراً من دفتر الأيام :
-استعدّوا للبلاء ، واعلموا أن الله تعالى حاميكم وحافظكم وسينجيكم من شرّ الأعداء ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ويعذّب عدوّكم بأنواع العذاب ويعوّضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة . فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم .
افتقد ابنته سكينة .. لم تكن مع المودّعين .. وجدها وحيدة في الخيمة وقد غلب عليها الاستغراق . كانت تفكّر في طريق أبيها العجيب .
صرخ رجل من القبائل وهو يحلم بعبور جثة الحسين :
-اهجموا عليه ما دام مشغولاً بنفسه وحرمه .
نفثت القبائل سهاماً مسمومة النبال تخترق الخيام .. وتشك أُزرَ النساء . فرّت النسوة إلى داخل الخيام .. العيون تحدّق بالحسين .. ماذا سيفعل آخر الأسباط ؟
الفارس الذي قدم من الجزيرة على قدر .. يحدّد ساعة الصفر ، ويبدأ الهجوم . التاريخ يركض مبهور الأنفاس .. يتشبّث بركاب الحسين .. والحسين يسبق التاريخ .. يغوص في عوالم بعيدة .. ويبقى التاريخ يقلب كفيه حائراً وسط الرمال .
القبائل تفرّ مذعورة بين يديه ، ووابل النبال يرشقه من كل حدب وصوب ، والحسين يقهر الموت .. يحطّم جدران الزمن .. يتخطى القرون .
الروح العظيمة .. تريد الانطلاق من أهاب الجسد المجرّح .. الجراح المتدفقة كينابيع فوّارة ، تروي الرمال المتوهّجة .. الفرات يمعن في الفرار .. يضنُّ بقطرة ماء .
-يا حسين ! ألا ترى الفرات كأنه بطون الحيّات ؟ فلا تشرب منه حتى تموت عطشاً .
ورماه أبو الحتوف بسهم في جبينه ، فانتزعه . وتدفقت الدماء من جبهته الشّماء .
همس الرجال الوحيد في قلب السماء : اللهم إنك ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العصاة ، اللهم احصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تذر على وجه الأرض منهم أحداً ، ولا تغفر لهم أبداً .
ثم هتف بأعلى صوته :
-يا أمّة السوء بئسما خلفتم محمداًَ في عترته . أما إنكم لا تقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله . بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إياي . وأيم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بالشهادة ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون .
عوى ذئب من القبائل :
-وبماذا ينتقم لك منّا يا ابن فاطمة ؟
-يلقي بأسكم ويسفك دماءكم ثم يصبّ عليكم العذاب صبّا .
الجسد الواهن تتسرب منه الدماء .. دماء كثيرة صبغت صعيد الأرض .
توقف السبط ليستريح قليلاً ، فرماه رجل من القبائل المسعورة بحجر ، فانبثقت دماء من جبهته .
أراد الحسين أن يوقف نزف الدم بطرف ثوبه ، فجاءه سهم محددّ له ثلاث شعب . انغرس السهم المثلث في قلب الحسين .. السهم يتشبث بالقلب الجبل .. إنها النهاية .. نهاية الألم .. بداية الرحيل إلى عوالم السلام .
تأوّه الحسين :
-بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ..
ثم رفع وجهه نحو السماء متضرعاً .
-إلهي إنك تعلم أنهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيري !
السهم يغوص في الجسد الواهن .. يخرج رؤوسه من القفا كالأفاعي .. وتنبعث الدماء غزيرة .. غزيرة . صوت يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر .
الحسين يملأ كفّيه دماً عبيطاً ثم يطوّح به نحو السماء ويهتف :
-هوّن ما نزل بي أنه بعين الله .
الدماء القانية الثائرة تسافر في عالم الأفلاك .. تصبغ النجوم .. تلوّن الآفاق .
مرّة أخرى ، ملأ الحسين كفّيه دماً ، ثم خضب رأسه ولحيته استعداداً للرحيل :
-هكذا ألقى الله .. وجدّي رسول الله .
وأعياه نزف الدم ، فهوى على الأرض كنجم منطفئ .
تقدم ((ابن نسر)) إليه وعيناه تبرقان حقداً ، فضربه بالسيف على رأسه .
تمتم الحسين متألماً :
-لا أكلت بيمينك ولا شربت ، وحشرك الله مع الظالمين .
وأحاطت به القبائل كلاباً مسعورة .. تنهش جسده .
همس الحسين :
-هذا تأويل رؤياي قد جعلها ربّي حقاً ..
ضربه ((زرعة)) على كتفه الأيسر ، ورماه ((ابن نمير)) في حلقه وطعنه ((سنان)) في ترقوته ، ثم في صدره ، ورماه بسهم في نحره .
الكلاب تنهش جسده .. وكان أشدّها الأبقع ... .
العينان الواهنتان فيها بقايا ألق .. يوشك على الرحيل..الحسين يرفع طرفه نحو السماء :
-اللهم متعالي المكان ، عظيم الجبروت ، شديد المحال ، غنيّ عن الخلائق ، عريض الكبرياء ، قادر على ما تشاء ، قريب الرحمة ، صادق الوعد ، سابغ النعمة ، حسن البلاء ، قريب إذا دعيت ، محيط بما خلقت ، أدعوك محتاجاً وأرغب إليك فقيرا ، صبراً على قضائك يا رب لا إله سواك .
الحسين ينوء بنفسه . الروح تتسرب من أفواه الجراح .. تغوص في الرمال .. تبثّها أسراراً توقظ فيها مدناً ثائرة .
ماذا يفعل الفرس ؟ لِمَ يدور حوله ؟ يلطخ ناصيته بدمه .. يشمه .. يصهل بغضب .. ينادي : الظليمة الظليمة من أمّة قتلت ابن بنت نبيها .
صرخ ابن سعد بالقبائل :
-دونكم الفرس فإنه من جياد خيل رسول الله . فدارت به الخيل .. أخذت عليه الطرق . الفرس يقاتل .. يقاوم .. يتحول إلى بركان . وانبهر قائد القبائل :
-دعوه لننظر ما يصنع ..
انطلق الفرس نحو مضارب القافلة ، وهو يصهل عالياً :
-الظليمة .. الظليمة من أمّة قتلت ابن بنت نبيها ...
هبّت نسوة وأطفال .. لقد وقعت الواقعة . صرخت زينب :
-وامحمداه .. وا أبتاه .. واعلياه .. واجعفراه .. واحمزتاه . هذا حسين بالعراء .. صريع بكربلاء .. ليت السماء أطبقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السهل !..
عندما وصلت زينب ، كان الحسين يوشك على الرحيل .. يودّع الصحراء ، بعد أن روّاها بدمه .
القبائل مفتونة .. تدور حول آخر الأسباط .. وقد زلزلت الأرض زلزالها . ماذا بوسع زينب أن تفعل . الحسين يجود بنفسه .. لقد تمزق جسده .. وما تزال الروح هي هي .. شديدة البأس . زينب تحاول إيقاظ بقايا الإنسان في زعيم القبائل .. هتفت بلوعة :
-أي عمر ! أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه !!
لقد مات الإنسان في داخله ...
أهاب بالقبائل لإسدال الفصل الأخير :
-أنزلوا إليه وأريحوه .
-صرخت زينب :
-أما فيكم مسلم ؟!
ولا من جواب . لقد مات الإنسان في عصر الذئاب والليل والعواء .
-انزلوا إليه وأريحوه .
كان الأبرص ينتظر الإشارة بلهفة . التمعت عيناه بوحشية ، وهو يرفس جسد الحسين الممزّق .. جلس على صدره . الأبقعُ ينهش جسد السبط .. يقبض على شيبته .. ويهوي بسيف غادر على رأسه . ينفصل الرأس عن الجسد .. القبائل تموج مأخوذة بهول ما يجري فوق الرمال ...
الجسد ساكن بلا حراك . الكلاب تنهش .. تنهش الجسد الدامي .
ويرتفع رأس ابن النبي فوق رمح طويل .. يتطلع إلى آخر الدنيا ، ويقرأ سورة الكهف .
انطفأت الشمس .. ومطرت السماء دماً عبيطاً ، وبدا الأفق الغربي شديد الحمرة كجراح نازفة .
وعصفت القبائل المسعورة بالخيام .. فأشعلت فيها النار . وفرّت النسوة والأطفال .. هاموا على وجوههم في الرمال .
وانبرت عشرة خيول مجنونة .. خيول اعتادت السلّب والنهب والغارات .. تعوّدت سحق ورود البنفسج وبقر بطون الأطفال ... اهتزّت الأرض تحت سنابك الخيل وهي تمزّق صدر الحسين .. وفاحت من الجسد قبلات محمد والزهراء ، ملأت الفضاء وامتزجت مع ذرات رمال الصحراء .. والتاريخ .
النار المجنونة تلتهم الخيام .. وصراخ الأطفال يملأ الدنيا ... والذئاب تعوي بقسوة ... والليل شديد الظلمة .. والريح تذرو الرمال .. تغطّي الأجساد العارية بغبرة خفيفة .. والقبائل تنهب وتسلب .. والفرات يمعن في الفرار .. ورأس الحسين فوق رمح طويل .. ينظر إلى آخر الدنيا .. إلى قوافل قادمة من رحم الأيام .
15

فرّت الشمس .. توارت خلف الأفق المضمخ بحمرة قانية ، وأشرق القمر دامياً كعين تنتحب .. القبائل ما تزال تعصف بالخيام تضرم فيها النار ، والنار تمدّ ألسنتها كأفواه جائعة أصابها مسّ من الجنون ، فهي تلتهم كل شيء .
الذئاب تعوي .. تفتك بجملان صغيرة خائفة ...
الشياطين تصارع الملائكة .
وصرخات تدوّي :
-لا تدعوا منهم أحداً صغيراً ولا كبيراً .
الذئاب تقتحم خيمة فيها فتى عليل لا يقوى على النهوض ... جرّد الأبرص سيفه .. ما زال متعطشاً للدماء .. استنكر رجل من القبائل :
-أتقتل الصبيان ؟! إنما هو صبي مريض .
-لقد أمر ابن زياد بقتل أولاد الحسين .
وانبرت زينب بشجاعة أبيها :
-لا يُقتل حتى أُقتل دونه .
ونادى منادٍ باقتسام الغنائم ، فتنازعت القبائل الرؤوس ، زلفى إلى ابن زياد حاكم المدينة الغادرة .
ارتفعت رؤوس مقطوعة فوق الرماح . قافلة من العمالقة يتقدمها رأس يبط آخر الأنبياء .. يحمله الأبرص . سبعون رأس أو يزيدون لم تنحنِ لغير الله .. فارتفعت فوق ذرى الرماح .. وكان في مقدمتها رأس آخر الأسباط .
وكان الفتى المريض يجود بنفسه ، فقالت عمته وهي تخترق جدران الزمن :
-ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي ، فوالله إن هذا لعهد من الله إلى جدك وأبيك ، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة الأرض ، وهم معروفون في هل السماوات ، أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطعة والأجسام المضرجة فيوارونها ، وينصبون بهذا الطف علماً لقبر أبيك لا يُدرس أثره ولا يمحى رسمه على كرور الليالي والأيام.وليجتهدُنّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وطمسه ، فلا يزداد إلا علوّاً .
منظر السماء والجثث المتناثرة هنا وهناك والسيوف المكسرة والسهام المغروسة في الرمال .. تحكي ملحمة رهيبة سطّرها رجال قهروا الموت ، وفجّروا في قلبه نبع الحياة ، وأماطوا اللثام عن سرّ الخلود .
تقدمت امرأة تعدت الخمسين من العمر إلى جسد تعرفه ، رعتْه صغيراً وراقبته كبيراً وشهدته ممزّقاً بحوافر خيل مجنونة .
جثت زينب عند مصرع آخر الأسباط ، الجسد الممزق ساكن بلا حراك . لقد غادرت الروح التي دوّخت القبائل . دست زينب يديها تحت جسد أخيها .. رفعت بصرها إلى السماء .. إلى الله .. وتمتمت بعينين تفيضان دمعاً :
-تقبلْ منا هذا القربان ... يا إلهي .
وألقت ((سكينة)) بنفسها على جسد أبيها العظيم واعتنقته ، وغمرتها حالة من الاستغراق . كانت تصغي إلى صوت ينبعث من أعماق الرمال .. همهمة سماوية عجيبة تشبه صوت والدها الراحل :
-شيعتي ما إن شربتم عذب ماء فاذكروني .
أو سمعتم بغريب أو شهيد فاندبوني .
لملمت القبائل خزيها .. عارها الأبدي تريد العودة إلى الكوفة .. و((سكينة)) ما تزال تتشبت بالجسد المضمخ بالدم .
هجم الأعراب من القبائل وجرّوها بعنف وراحوا يكعونها برؤوس الرماح حتى استوت على ناقتها .
عشرون امرأة ثكلى ، وفتى عليل ، وأطفال يتامى مذعورون ، هو كل ما غنمته القبائل في أطول يوم في التاريخ . أما الرؤوس فقد راحت تتسابق فيها الخيل بشرى إلى الأرقط حاكم المدينة المشهورة بالغدر .
غادرت القبائل شواطئ الفرات .. تركته وحيداً يتلوى في الصحراء كأفعى حائرة .
وغادر موكب السبايا والعيون الحزينة تتلفت إلى أجساد متناثرة فوق الرمال كنجوم منطفئة .. إلى أن غابت عن البصر ، وساد صمت رهيب ما خلا أنين خافت ينبعث من أعماق الأرض المصبوغة بلون إرجواني .


http://www.fadak.org/karbala/watermark.gif (http://www.fadak.org/karbala/karbala.htm)

بنتُ علي
18-07-2008, 01:07 AM
بارك الله فيك ارجوان

بس تعالي انتي من وين ناقلتها ...

اني نفسي اكتب كل روايات كمال السيد لانها رووووووووعة وانصح بقراءتها كلها

بس مااقدر اكتب لان اتعب ...

مشكورة ....

وياليت تكبري الخط لان كده مابتنقرا الرواية ..الخط صغير ..وياليت الادارة او المشرفين يكبروا خط اللي كتبتيه كونك ماراح تقدري تعدليه

احسنتي كثيراً

تحياتي

أرجوان
18-07-2008, 03:05 AM
بارك الله فيك ارجوان

وبارك الله بك عزيزتي فطومة

بس تعالي انتي من وين ناقلتها ...
من النت
الله وكيلك بس هالرواية
اني نفسي اكتب كل روايات كمال السيد لانها رووووووووعة وانصح بقراءتها كلها

بس مااقدر اكتب لان اتعب ...

أنا أنهلكت أنذبحت ما حصلته قالوا لي بأيران تحصلينه
واذا راحت أختي أوصيها وتقول ما شافت..
وأرجع أزعل..
مشكورة ....
العفوو يا عمري


وياليت تكبري الخط لان كده مابتنقرا الرواية ..الخط صغير ..وياليت الادارة او المشرفين يكبروا خط اللي كتبتيه كونك ماراح تقدري تعدليه

احسنتي كثيراً

تحياتي


اي انا سويت كبير بس تفاجأت أنه صغ هههههههههههه
أن شاء اله يكبرون الخط..


سررت بوجودك حبيبتي..

مودتي..

بنتُ علي
18-07-2008, 08:08 AM
اني اشتريت كل الروياات الخاصة بقصص اهل البيت عليهم السلام ...كلهم

من " ومبشرا من بعدي اسمه احمد...

الا علي

وكانت صديقة

عاصف السلام

.........الخ

كلهم روووووووووعة

اشتريتهم من واحد يجيبهم من البحرين ...روحي البحرين واشتريهم .... لوانتي في العوامية كان قلت لش روحي سوق الجمعة ووصي البياع ههههههههه

في كتاب دنيا الفتيات حليييييييو مرة

وكتاب عاصفة الشباب اعتقد ...صغير مرة بس حليو ...كلهم لكمال السيد

يلا موفقة يارب ..وتحصليهم ان شاءالله


وياليت يكبروا الخط ..لان بالفعل الرواية ررررووووووووعة ...هذا كمال السيد ياناس مواي كلام

تحياتي

hassan.khalifa
19-07-2008, 09:35 PM
.. ارجوان جهد جبار والله ..،

.. وانشاء الله نقرأهم في وقت لاحق :)..،

.. وسيثبت الموضوع لعيوونك :)..،

تحياااتي

أرجوان
20-07-2008, 12:58 PM
اني اشتريت كل الروياات الخاصة بقصص اهل البيت عليهم السلام ...كلهم

من " ومبشرا من بعدي اسمه احمد...

الا علي

وكانت صديقة

عاصف السلام

.........الخ

كلهم روووووووووعة
يا عيني عندك كل شي حلو,,

اشتريتهم من واحد يجيبهم من البحرين ...روحي البحرين واشتريهم .... لوانتي في العوامية كان قلت لش روحي سوق الجمعة ووصي البياع ههههههههه
يوه عاد أخوي كله يروح البحرين بس ولا مرة خطرت ببالي أني اقوله
اي عوامية أي سوق جمعه ويني وينهم

في كتاب دنيا الفتيات حليييييييو مرة

وكتاب عاصفة الشباب اعتقد ...صغير مرة بس حليو ...كلهم لكمال السيد

يلا موفقة يارب ..وتحصليهم ان شاءالله
أن شاء الله أحصلهم وأنبسط بقرائتهم..

وياليت يكبروا الخط ..لان بالفعل الرواية ررررووووووووعة ...هذا كمال السيد ياناس مواي كلام

تحياتي


أن شاء الله يكبروا الخط
تسلمين يا رروعه أنت ِ
اي والله كمال السيد مو اي كلام
كلامه حلوو ومفيد يجنن..

أرجوان
20-07-2008, 01:00 PM
.. ارجوان جهد جبار والله ..،
لأنكم تستاهلون كل شي مفيد..:)

.. وانشاء الله نقرأهم في وقت لاحق :)..،
أن شاء الله تقراء وتستفيد

.. وسيثبت الموضوع لعيوونك :)..،
تسلم عيونك حسن..

تحياااتي

ياليت يا حسن اذا تقدر تكبر لنا الخط أشوي
اذا ما تقر خلاص نقول للإدارة..


تحيتي..

hassan.khalifa
20-07-2008, 02:01 PM
.. احنا بخدمتكــم خيتوو ..،

.. واذا تبين اي شئ انا تحت امرك ..،

.. وانشاء الله الخط كذا ممتاز ..،

تحياااتي

أرجوان
20-07-2008, 02:04 PM
اي الحين تمام
الف شكر خيووو حسن..