المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فرسان الجحيم


عاشقه الحسن والحسين
03-01-2008, 03:53 PM
حبيت أنقل لكم قصة
تابعوها:



كان أول الأمر يقطع الطريق في خطى حثيثة مجترا آلامه المبرحة، وبغثة اعتراه الوهن وانتابه الفتور فجعل يجر قدميه الطريتين في إيقاع متراخ كثمل أعياه السكر والسهر. الأرض أمامه بساط من شظايا صخور مسننة، تتخللها منعطفات حادة.. وضع السلة المملوءة عن آخرها من على كتفه وقبع مقرفصا، مرهفا السمع لطلقات المدافع تدوي عن بعد وتملأ صدر الأرض رعبا.. تعالت في الأفق البعيد ألسنة الدخان في شكل لولبي كأنها ثعابين سوداء.. خضم من الحياة فظيع رتيب، قطعة من جهنم موحشة مروعة.. تحامل على نفسه ورفع الحمل الثقيل مسويا إياه على كتفه، وواصل سعيه الإجباري حتى أشرف على الحي المقصود. ثمة وجه مألوف أومض سناه فغمر أنفاسه اللاهثة.. أقر في نفسه وهو ينظر إليه في لهفة، بأن دنيا الخالق الرحيبة لا تعدم فرسان الرحمة.. وظل الشاب حقا يبادله نظرات تفيض تأثرا و تمتلئ عطفا ورحمة .. اعتاد أن ينفحه من جيبه بسخاء منذ وقع في مخالب اليتم. يوسف ملاك ما يزال معدودا من صغار الطير الراكنة في أعشاشها، الفاغرة أفواهها في انتظار أوبة العصفورة محملة بالحب والماء. لم يبق لديه من الأجنحة ما يحضن جسمه الغض المقرور.. كل شيء ارتحل عن دنياه وبطشت به يد الأفول، حتى زهرة الطفولة اعتراها الاصفرار والذبول.. بيد أنه حمد الله على ما ألفاه في عبد الحليم سرحان من فيض المن وجميل السلوان. واصل السير صوبه، سعى هذه المرة في خفة وكأنه يحمل على ساعديه الريش.. حتى إذا وصل أنزل الحمل الذي ناء به كاهله وارتمى بين أحضانه منتحبا.. جد في أن يهدئ من روعه ويعيد السكينة والأنس إلى خاطره، كدأبه دائما كلما صادفه، بيد أنه لم يفلح، خمن وأدرك بحدسه أن المصاب قد يكون أمر وأفدح، تحدث مخاطبا، والطفل في غمرة شهيقه المتقطع.. هون عليك يا يوسف.. تسلح بالشجاعة المعهودة فيك واحك عن محنتك الجديدة.. قال ذلك وأشعل سيجارة فاخرة .. وأنى ليوسف ملاك أن يحكي وقد غصت بحنجرته رياح المتجر، ذلك القبو المضاء طيلة النهار لما يكتنفه من العتمة.. يبدو أن الصبي لا يعرف عن ذلك المكان سوى كونه متجرا لا تفتر فيه الحركة طيلة النهار، ومخزن الدقيق المظلم رصت على أرضيته أكياس من دقيق دمغت على واجهاتها الأهلة والصلبان.. وهؤلاء الرجال دوي السحن البيضاء لا يفتأون يترددون على المتجر، تارة في بزاتهم العسكرية وتارة بدونها.. والحاج عبد الحميد السلوقي متربع في مجلسه أمام مكتبه يستخلص الفواتير ويدس المال في الصندوق الحديدي بجانبه.. و عن يساره الكهل رشوان مسئول الميزان يكيل بغير قسطاس. وأنت يا ملاك، لست في هذا الفضاء الرهيب سوى قردا خدوما كان من نصيبك أن تروض في هذا الجناح من نار السعير. هات أكياس الدقيق من المخزن يا نسناس.. سمعا وطاعة.. آه، ما أثقلها!.. آه، ما أخبث رائحة البرودة وغبار الدقيق!.. رتبها هناك أيها القرد الخامل.. اصعد وهات علب الأرز.. آه من الرفوف الشاهقة!.. والحل؟.. لا مخرج.. ليس أمامك سوى القفز إلى أعلى.. ألست قردا أهلا لذلك؟!... وصعد على درج السلم، وأمسك بعلبة وانزلقت أخرى لتهوي أرضا وينتثر ما جمعت عليه من حب الأرز.. تجرع الحاج المصيبة وكظم غيظه وتوعد في خاطره. ظل لفترة منشغلا مع ضيفين ثقيلين من ضباط الجنود الغرباء.. همسات.. حديث عيون ماكرة.. تدوين معلومات.. الحاج السلوقي يفتي في همس والعسكري يدون!.. انتهت مهمة الحاج بعد أن ختم بدفع أجر ما تسلمه من حمولة الدقيق والأرز. وابتدأت أخرى، قادها هذه المرة الكهل رشوان.. لم يتلقف يوسف ملاك سوى هذه العبارة تند عن مسئول الميزان.. صفية وحسيبة، طريدتان طريتان فائقتا الجمال.. وصافحاه بحرارة، وعانقاه ولسان حاله يخاطب كل منهما: تستأهل يا مستر.. التفت الحاج إلى يوسف وأشار إليه بأن يدنو منه ففعل، ربت على كتفه وهمس في أذنه بحنو:
ـ ألم تفطر بعد يا بني؟
وتساءل الصبي بعين الاستغراب.. هل تخدعني أذني يا ثرى؟.. هل تجردت من سحبها السماء وابتهجت إذ عمها الصفاء؟ هل حقا شمله العفو ونجا جلده من لعنة علبة الأرز الساقطة؟
ـ نعم سيدي لم أذق الطعام منذ الأمس..
ـ حسنا، اتبعني إلى مخزن الدقيق أحضر لك ما تشتهي النفس.. هيا فقد كل ساعداك وأنهك جسمك الفتي الصعود والهبوط..
وسار الفتى في إثره مبتهجا وقد نشط الريق في فمه. جلس على كيس من دقيق يترقب، ممنيا نفسه بوجبة شهية. انتصب الحاج خلفه مخاطبا: فطور ساخن أم بارد يا فتى؟.. بل ساخن يا سيدي.. نعم الاختيار، تفضل.. وإذا السماء التي خالها صفت تمطره بردا كالحجارة مكهربا.. خذ ما تيسر أيها القرد المشئوم... هاك أيها المشلول.. احتس يا مفسد.. وانهالت ضربات السوط تشوي رأس الصبي الصائح المستعطف.. أمسك بأذنه بعدما أشرف على عملية الإفطار، وأشار إليه بنقل سلة الزاد والمئونة إلى البيت.. حرام علي ما صليت وما حججت، إن أنت تلكأت في الطريق أو تأخرت، لأمسكن برقبتك حتى الموت، هيا انصرف.. وغادر المتجر ينوء من ثقل المحمول، تشيعه نظرات الغريبين الساخرة.. حتى الكهل رشوان ابتهج وفرك يديه انتشاء.. سلك كل سبل المناورة لقطف تمرة الصبي المحرمة ولم يبلغ الأرب، ولا غرابة إذا تربص بالصبي، من حين لآخر، وسدد إلي خذه الصفع مختلقا تبريرات واهية.. كان يوسف ملاك حقا آية من الحسن والرواء، نفذ سناه إلى دماغ رشوان وأصابه بجنون المرض اللعين، وجعل يسري في دماغ الجنديين ..






لبث سرحان مذهولا رغم ما طبع سحنته من الطيبة والوداعة، ليستفيق على ثمالة السيجارة تحرق أصابعه.. هدأ مجددا من روع الغلام، وهمس بنبرة متأسية.. الحاج ورهطه أوغاد وكلاب وقساة أكباد.. لم تصر على البقاء هناك؟
وبالكاد نبس يوسف: لا ثقة في الحاج يا سيد سرحان.. يدعي دوما أنه سيسلمني ـ إن أنا غادرت بغير إذنه ـ لأصدقائه الضباط كما فعل بأبي حين أدرج اسمه في قائمة الرؤوس المناوئة..
أشعل سرحان سيجارة أخرى ونفث الدخان زافرا متأففا.. أعرف معدن الحاج جيدا يا يوسف.. الحاج شوكة حادة منغرسة في حلق هذا التراب .. أجل كل هذا التراب بات، من سطوة الغريب المغير، عزيز قوم ذل.. اكتفى بذلك وودع الغلام بعد أن منَ عليه ببعض المال..
انحرف ملاك إلى اليمين حيث مسكن عبد الحميد السلوقي.. دلف إلى صحن الدار وأنزل القفة من على كتفه بعد لأي، ولبث في مكانه منتصبا في انتظار أن تقبل حرم الحاج، يتابع بعينين منزعجتين نجلا مدللا من أنجال آل السلوقي يلتهم طعام فطوره في نهم غير عابئ بهذا الكائن المهزوم يزاول المهام المدموغة على جبينه. طال ترقبه فهمَ بالانصراف لولا أن باغته صوتها عن كثب.. لا تبرح يا يوسف حتى تنظف البهو وتحمل الأغطية إلى السطح تأخذ نصيبا من الهواء وضوء الشمس..
ـ أنا اللحظة متعب سيدتي ..
وكشرت عن أسنانها ضاحكة مستهزئة..
ـ ومتى كانت الحمير تشكو أتعابها أيها القرد الفاتن؟!
ـ السيد يريدني على عجل سيدتي..
ـ السيد!.. والسيدة؟.. وأرسلت كفها إلى أسفل ظهره بكل ما أوتيت من القوة.. اغتنم فرصة الباب الخارجي المشرع فأطلق ساقيه للريح ، يحك موطن الضربة من مؤخرته. انطلق يجدف في خضم بحر هائج من دون أن يعرف لقاربه متجها.. سار يخبط في الدروب كالسكران.. عكست عيناه القلقتان لغة اليأس والرجاء.. لا موضع قدم له من الآن في المتجر الرهيب، ذلك القبو الذي تفنن في تقويض أحلامه وانتهاك حرمة جسده.. فماذا خلف وراءه غير السراب؟!.. الأب هلك تحت غطاء المقاومة، الأم قضت تحت الأنقاض، أخوه وقع في قبضة الصياد.. كل ذلك لم يدع له سبيلا إلى التردد أو الإحجام عما عقد العزم عليه. وابتسم الحظ من جديد وهل هلال عبد الحليم سرحان.. ساعة من الزمن أعادت للجسم المحموم انتعاشته.. فعلا لم يضن عليه مرافقه وولي نعمته. أكل ما لذ وشرب ما طاب واسترخى على الكرسي في صحن المقهى، فعاد إليه أنسه وانبسطت أساريره. انهض سرحان وأشار بيمناه إلى النادل، فأدى الواجب وبرح ويوسف المكان..
ـ هيا يا ملاك ننشد الفسحة بعيدا عن عالم الخراب والضباب المعربد من حولنا..
استطاب يوسف الفكرة واستجاب على السجية، وما المانع وقد أضحى العالم من حوله ديار فسحة برمته؟! أخذت الظلمة في بسط ستائرها حين تخلصا من قيود الآليات المحترقة والعمران المتداعي، ظل سرحان ممسكا براحة الصبي حتى انتهيا إلى منحدر عند قدم ربوة. أخرج من جيبه علبة السجائر وناوله واحدة غير أن الصبي اعتذر. شعور غريب اعتراه، والمكان على رحابته ضاق وتقلص أمام ناظريه.. ما سر هذا التودد المبالغ فيه وما بال هذه الأنامل تزحف عند مشارف خصره؟.. ومهما يكن فقد تملكته الهواجس.. ارتاب.. انتفخ رأسه المعطوب.. كل ما يهابه الساعة أن تكون النهاية دامية مفجعة بين أنياب وحش وديع.
اعتذر سرحان وترجل يبغي إفراغ متانته.. تملكه الفرح وغمرته المسرة ظنا منه أن التمرة الغضة الحلوة التي ظل يترقبها نضجت وحان قطافها.. حتى إذا عاد لم يلف غير السراب.. وما يزال الملاك يعدو حتى تلاشى في لجة من الضباب الحالك. تمنى وهو يصارع الموج، منسلخا عن عالمه الصاخب الطاغي، لو يصبح قردا يقفز بين الأشجار، يضحك على بني آدم، يردد الترانيم ويهزأ من فرسان الجحيم[/hide]