المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مبحث فقهي: هل في ممارسة بعض الشعائر توهين للمذهب؟


قلم البرهان
23-11-2013, 08:01 AM
http://www.alanwar14.com/pic/ShFadelAssafar.jpeg


المصدر :
http://www.alanwar14.com/subject.php?id=280


سماحة آية الله الشيخ فاضل الصفار (دام ظله الوارف)/ أستاذ في الحوزة العلمية - كربلاء المقدسة


البعض وجَّه المنع من تعظيم الشعائر كلها أو بعضها – لاسيما شعائر الإدماء وضرب السلاسل والتشبيه- بأنها توجب الاستهزاء وتوهين المذهب، والوهن في اللغة الضعف(1)...

ونلاحظ أن هذا الإشكال مبتنٍ على قياس من الشكل الأول. صغراه أن تعظيم الشعائر – كلها أو بعضها – يوجب توهين المذهب، وكبراه أن ما يوجب توهين المذهب حرام، فتكون النتيجة أن تعظيم الشعائر حرام، ولكن لدى التأمل والتحليل نجد عدم تمامية الكبرى والصغرى.

أما الكبرى، فلثلاثة أسباب:
السبب الأول: عدم كليَّة الكبرى؛ إذ لا إشكال في أن توهين المذهب – في بعض مراتبه- من المحرمات شرعًا والقبائح عقلاً، وهو مفسدة عظمى توجب نقض الغرض من وجود المذهب، ولذا تعد حرمتها من الضروريات التي لا خلاف فيها ولا نزاع، وإنما الإشكال في حرمة ذلك في جميع مراتب التوهين؛ إذ هناك جملة من الأحكام الشرعية التي لا يرفع اليد عنها بالرغم من أنها قد توجب التوهين في نظر بعض المسلمين، نظير قيام ضرورة المذهب على استحباب نكاح المتعة، وحج التمتع، والسجود على التربة، وتفسيق بعض الصحابة الظلمة وعدم احترامهم أو الأخذ عنهم، وبعضها قد توجب توهين المذهب بنظر غير المسلمين أيضًا مثل الحجاب والحدود الشرعية والتعزيرات والولاية على الباكر في النكاح ونحو ذلك...

فيدور الأمر بين رفع اليد عن جميع الأحكام تمسكًا بحرمة توهين الدين أو المذهب، أو رفع اليد عن حرمة التوهين تمسكًا بالأحكام الأولية، ولا مجال للأول لأنه يستلزم القطع بالمخالفة والخروج من الدين، فيتعيَّن الثاني.

السبب الثاني: أن حرمة توهين المذهب لا تشمل جميع الأحكام، بل تجري في الأحكام الشخصية الخاصة لبعض الأفراد، نظير الأحكام التي تتعلق بعمل المؤمن الشيعي في وسط أناس لا يعرفون مغزى أحكامه، وأما الأحكام النوعية العامة أو الأحكام التي تتعلق بأصل وجود المذهب وبقائه حيًّا فلا تشملها الحرمة المذكورة. إما من جهة تخصيص حرمة التوهين بها باعتبار أنها آبية عن التخصيص، أو من جهة حكومتها عليها باعتبار أهميتها وملاكها الراجح على ملاك التوهين، أو من جهة انصراف أدلة الحرمة إلى الأعمال الفردية فقط... وهذا ما يؤكده منع الإمام الصادق (ع) بعض أصحابه من المتعة في المدينة حذرًا من بعض الأضرار (2)، وكذا ورد عن أبي الحسن (ع) (3)، فلما زال المانع رخَّصا فيها، والمنع الشخصي يرجع إلى ضابطة التقية، وهي تمنع العمل جزئيًّا، ولا ترفع الحكم أو تحرمه، بل القول بشمول الحرمة لمثل هذه الأحكام مخالف للضرورة، بل قد يقال باستحالته عقلاً؛ لأنه يلزم من وجوده عدمه، على أن الوهن الحاصل من الأعمال الفردية الخاصة مشمول بدليل التقية التحبيبية أو الخوفية الذي رخص للمؤمن أن لا يعمل بما يوجب الضرر المادي أو المعنوي عليه، وهذه مسألة لا تختص بالشعائر، بل تشمل جميع الأحكام الشرعية إلا ما خرج.
والخلاصة: أن الوهن لا يصلح لرفع الأحكام النوعية ولا الأصولية الاعتقادية، وإنما هو مختص بالأحكام الفرعية الشخصية، وهذا أجنبي عن الشعائر الحسينية؛ لأنها في مجملها أحكام نوعية تتعلق بفروع الدين، وأحكام أصولية تتعلق بالعقيدة الدينية، فلا يصلح الوهن لرفعها.

السبب الثالث: أن حرمة توهين المذهب في نفسها ليست مطلقة، بل مقيَّدة بعدة شروط يجب توفرها على سبيل الانضمام:
الشرط الأول: أن يكون قبح التوهين في الرتبة الملزمة، وأما إذا كان في الرتبة غير الملزمة نظير مخالفة المؤمن المنسوب إلى المذهب لوعوده الكاذبة، أو بذاءة لسانه، أو فساده، لا سيما إذا كان من أهل الوجاهة فإنه باعتبار نسبته إلى المذهب فإن ما يصيبه من سوء سمعة يصيب المذهب أيضًا بالملازمة العرفية، إلا أنه لا أحد يلتزم بأن درجة القبح فيه ملزمة وتوجب الحرمة من جهة التوهين. والضابطة في شدة القبح والحرمة تعود لأمور:
أحدها: أن فساده يؤدي إلى هتك حرمة المذهب.
وثانيها: أن فساده أو سوء سمعته يؤدي إلى ضعف الإيمان بالمذهب من قبل المؤمنين به.
وثالثها: أن فساده يؤدي إلى تنفر غير المؤمنين به واجتناب الدخول فيه.
وأما إذا كان التصرف لا يؤدي إلى واحد من هذه الأمور الثلاثة فلا دليل على حرمته.

الشرط الثاني: أن يكون حصول الوهن عند نوع الناس لا بعض الأشخاص؛ بداهة أن الآراء الشخصية مهما كانت محترمة فإنها لا تكون مدارًا للأحكام ووضع القوانين ليس فقط في الشريعة، بل حتى في القوانين الوضعية؛ إذ قد لا يوجد حكم من الأحكام أو قانون من القوانين ينفك من التوهين لدى بعض الأشخاص لسبب ولآخر.

الشرط الثالث: أن يحصل التوهين لدى أناس يجدر الاستماع لرأيهم ومراعاة شأنهم وهم – في الغالب- فئتان:
الأولى: فئة تؤمن بالمذهب وتهمها مصالحه.
والثانية: فئة يرجى إيمانهم بالمذهب والاعتقاد به.
وأما إذا حصل التوهين لدى أناس يعادون المذهب أو لا رجاء من دخولهم فيه فإن دليل التحريم منصرف عنهم؛ لأنهم يوهنون أصول المذهب وفروعه، ولا يرضون بشيء إلا بالتخلي عنه...

الشرط الرابع: أن لا تكون دوافع سياسية ونحوها وراء التوهين والاستهزاء، وإلا حرم الاستماع إليهم كما هو واضح.
الشرط الخامس: أن توجد ضابطة لتشخيص التوهين من عدمه، أو لصدق التوهين الملزم من غيره، والضابطة لا تخلو من ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأول: آراء الفقهاء ... والملحوظ أن الفقهاء كلهم أو جلهم لم يحكموا على تعظيم الشعائر بسائر أنواعها وأصنافها أنها توجب توهين المذهب، أو توجبه بالنحو المفضي إلى الحرمة. كما هو معروف مشهور من فتاواهم التي أجازوا بها كل أصناف الشعائر، وبعضهم أفتى باستحبابها، وبعضهم أفتى بوجوبها في الجملة.

الاحتمال الثاني: نظر العرف... والملحوظ أن العرف على اختلاف معتقداته ومذاهبه يرى أن تعظيم الشعائر حق طبيعي لكل مؤمن بدين أو مذهب، ولذا أقرتها القوانين العالمية والمحلية، لأن ذلك من الحقوق الأصيلة للإنسان...

الاحتمال الثالث: آراء بعض الأشخاص، وقد عرفت أن الآراء الشخصية لا تصلح لتأسيس ضابطة شرعية أو عرفية عقلائية عامة؛ لأن الأشخاص مختلفون في الآراء والأذواق والخلفيات الفكرية والسياسية.

والنتيجة: أن الكبرى المذكورة –أي حرمة توهين المذهب- مختلَّة من حيث كلّيتها؛ لأن الحرمة فيها مقيدة ببعض الصور دون بعض؛ لذا لا يمكن تطبيقها على جميع الموارد إلا إذا أحرزنا بالقطع واليقين أن المورد من مصاديقها، وهذا ما لم يحرز في الشعائر الحسينية من المستشكل نفسه؛ لأن غاية ما ادعاه هو الظن بالتوهين أو الاحتمال، وكلاهما لا يصلحان لتنجيز الحرمة؛ لأصالة حرمة العمل بالظن، والاحتمال رتبة ضعيفة من مراتب الظن... فالتمسك بحرمة توهين المذهب على الشعائر الحسينية من دون جزم بحصول الوهن يعد من أظهر مصاديق التمسك بالعام في الشبهة المصداقية... فإن الكبرى المزعومة مخدوشة من جهة كلّيتها، ومن جهة تطبيقها.

وأما الصغرى، فهي أيضًا ضعيفة لثلاثة أسباب:
السبب الأول: أن الدعوى في نفسها مجملة من جهتين:
الأولى: جهة معنى التوهين؛ لأن معنى توهين المذهب أو الاستهزاء به فيه أكثر من احتمال:
الاحتمال الأول: الوهن والضعف في مباني المذهب وأصوله واقعًا، وهو باطل بالضرورة العقلية والشرعية؛ بداهة أن المذهب أصولاً وفروعًا قائم على أدلة وبراهين قاطعة...

الاحتمال الثاني: الوهن والضعف لسمعة المذهب ومكانته في النفوس والقلوب عند غير المؤمنين به...
الاحتمال الثالث: الوهن والضعف في الإيمان بالمذهب والاعتقاد به...
والثانية: جهة من يحصل عنده الوهن والاستهزاء بالمذهب فإنه يحتمل عدة أطراف:

الطرف الأول: المؤمنون بالمذهب والمعتقدون به، وهذا الفرض باطل في نفسه؛ لأنه مستلزم للخلف.
الطرف الثاني: غير المؤمنين بالمذهب المعادون له، وهؤلاء لا يصح الاستماع لآرائهم ولحكمهم على المذهب...
الطرف الثالث: غير المؤمنين بالمذهب المحايدون له، وهم فئات عديدة في آرائها ومواقفها، أهمها فئة يحتمل دخولها في المذهب أو يرجى دخولها فيه ويحتمل أنها إذا رأت بعض الشعائر التي يتصور المستشكل أنها موهنة تبعدها عن المذهب، وهذا الاحتمال صحيح في نفسه، ولكن فئة قليلة جدًّا بالقياس إلى الفئات الأخرى كغير المبالين بأي معتقد، والآخرون الذين لا يرجى دخولهم في المذهب، أو الذين يعلم بأنهم لا يريدون الدخول فيه، ولأجل هذه الفئة القليلة التي لا يعلم بأنها ستؤمن بالمذهب، بل ولا يظن وإنما يحتمل فإن من غير المنطق وليس من الحسن عقلاً ولا من الجائز شرعًا أن ترفع اليد عن الشعائر التي تحظى بأهمية عظمى في الدين من حيث الدور الديني والسياسي والأهمية التربوية والإنسانية، فضلاً عن الثواب والأجر الأخروي... ومن المتفق عليه بين الفقهاء والأصوليين أن الاحتمال الضعيف لا يصلح لتنجيز التكليف، لا سيما إذا أريد منه رفع اليد عن الأحكام التي قطع بمنجّزيتها...
فيتحصل: أن الصغرى المذكورة مجملة، والمجمل لا يصح الاستدلال به، فتبطل النتيجة التي بنى عليها المستشكل رأيه، وعلى فرض رفع إجمالها فهي غير صحيحة في نفسها؛ لأنها لا ترقى إلى مستوى القطع أو الاطمئنان بالوهن؛ لأنها مجرد ظن أو احتمال، ولا يجوز العمل بالظن فضلاً عن الاحتمال في الأحكام الشرعية.

السبب الثاني: أن الدعوى في نفسها متهافتة؛ لأنها ناظرة إلى الأمر من جهة واحدة، وغافلة عن جهات عديدة أكثر أهمية للمذهب وأهله، فإن الوجدان والوقائع التأريخية والقواعد العلمية والعقلية تشهد بأن الشعائر الحسينية من العلل الأساسية لإبقاء الدين وحماية حقوق المتدينين... ولدى موازنة مصلحة حفظ المذهب وإحياء معالم الدين وتحشيد ملايين الطاقات من الأمة في نهج الإمام الحسين (ع) الذي هو نهج الإسلام والكرامة مع مفسدة التوهين التي يحتمل حصولها لدى فئة قليلة جدًّا من أناس لا يعلم مدى أهمية آرائهم... هل يا ترى يوجد مجال للموازنة والتكافؤ بين الأمرين حتى يرجح الاحتمال الضعيف للمفسدة على المصلحة العظمى القطعية؟ بل ولو افترضنا أن مفسدة التوهين مقطوعة وليست محتملة فهل تصلح لمناهضة مصلحة تعظيم الشعائر التي بها يقوم الدين وتحيا معالمه؟ ...
وقد شاهدنا بأنفسنا في بعض البلاد التي يغلب فيها غير الشيعة أن العديد من الشباب والباحثين كانوا يتشيعون في عاشوراء حينما يرون مراسم العزاء والمواكب الحسينية، ويتأثرون بذلك أشد تأثير...

السبب الثالث: أن الدعوى المذكورة لا تستند إلى أساس صحيح، بل هي من مصاديق الاجتهاد في مقابل النص، وذلك لأنها مبنية على تصديق أقوال غير المؤمنين، أو المعادين للمذهب، والجامع المشترك الذي يضمهم جميعًا هو الجهل بالمذهب وبالحكم والمصالح التي تقف وراء تشريعاته وأحكامه... الاستماع إلى قول الجاهل في نفسه قبيح وخروج عن النهج العقلائي، كما تترتب عليه عدة محاذير عقلية من قبيل الخلف والتناقض، ويدل على هذه الحقيقة طائفة كثيرة من الآيات الشريفة:

منها: قوله تعالى: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يُكَذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون، ولقد كُذّبت رسل من قبلك فصبروا على ما كُذِّبُوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين، وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقًا في الأرض أو سُلًّمًا في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين، إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يُرجعون) (4). وهي دالة على عدة حقائق:
الحقيقة الأولى: أن النهج العام لأعداء الدين هو الاستهزاء والتكذيب... وقد سخر اليهود في الصدر الأول بالأذان كما سخر المشركون بالسجود ومؤاخاة المسلمين(5)، فلم يثن من عزم المسلمين شيئًا، بل صبروا وتحملوا حتى علت كلمة الله وانتشر الإسلام.

الحقيقة الثانية: أن جميع الأنبياء والرسل (ع) قوبلوا بالتكذيب والإيذاء، وكانت سياستهم في مقابل ذلك ليس رفع اليد عن دعواتهم، ولا تحريم ما أحله الله لهم...
الحقيقة الثالثة: أن لله سبحانه مع المؤمنين سُنتين: سنة الابتلاء ويختبر بها صبرهم وتحملهم، وسنة الانتصار بعد الصبر...
الحقيقة الرابعة: أن على المؤمن أن يعمل بتكليفه في وظائفه الشرعية بغض النظر عن النتائج... وقد وصف الباري عز وجل الذي يسعى لإرضاء الجاحدين المعاندين بالجهل، ونزَّه نبيه منه؛ إذ قال سبحانه: (ولا تكونن من الجاهلين)...
ومن هنا حث الأئمة (ع) شيعتهم على الصمود والصبر في مقابل الاستهزاء... ففي رواية ذريح المحاربي قال: إني إذا ذكرت فضل زيارة أبي عبد الله (ع) هزأ بي ولدي وأقاربي، فقال (ع): (يا ذريح، دع الناس يذهبون حيث شاؤوا وكن معنا) (6) وفي رواية حمّاد عنه (ع) في زيارة النصف من شعبان قال (ع): (الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل عدونا من يطعن عليهم ومن يقبّحون ما يصنعون) (7) بل في رواية أخرى وصف رسول الله (ص) المستهزئين المنتهكين لحرمة المؤمنين بالحثالة من الناس، وقال: (أولئك شرار أمتي لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة) (8)...

ومن الواضح أن الآية في مقام بيان كبرى كلّية تنطبق في جميع الموارد المشابهة ومنها تعظيم الشعائر الحسينية، فتدل على أن الإشكال عليها بدعوى استلزامها توهين المذهب والدعوة إلى تحريمها هو ركون عملي إلى الجاهلين، واجتهاد في مقابل النص الذي أمرنا بالإعراض عنهم...
فالعمل بالصغرى المذكورة ونسبتها إلى الشرع مخالفة صريحة، وتشريع محرم.

ونعزز ما تقدم ببعض الحقائق:
الحقيقة الأولى: أن المطلوب من المؤمن عقلاً وشرعًا التصدي لتوضيح الغموض الذي قد يحصل في أذهان البعض تجاه المذهب، وبيان الحكمة والغايات التي تقف وراء أحكامه لا التراجع عنها، وهذه طريقة معهودة لدى العقلاء في كل قضية يؤمنون بها وتتعرض إلى النقد والإشكال... فإن العقل والنقل يوجبان على المستشكل – إن كان من المؤمنين بالمذهب- معالجة النقص الحاصل عنده بمزيد من العلم والتحصيل والتسلح بالثقافة الدينية الكافية للدفاع عن معتقده وأحكامه لا رفع اليد عنها... فإن أسلوب التوهين والاستهزاء يعد من أساليب الحرب النفسية التي يشنها الخصوم لإيقاع الهزيمة في الطرف المقابل، وهذا النهج متبع منذ قديم الأيام، وما من نبي ولا وصي ولا مصلح إلا وقد قوبل بهذا الأسلوب...(إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون) (9)...

الحقيقة الثانية: أن ما يوجب الوهن والضعف في المذهب ليست الشعائر التي تعبر عن روحه وقيمه وأصوله الحقة... والذي يفضي إلى التوهين في الدين أو المذهب هو التخلي عن الشعائر والتمسك بالطرق والأساليب التي لم يؤيدها المذهب، ولم يقم عليها دليل... وهذه الحقيقة قد يغفل عنها البعض فيقع في تأثير من له مصلحة في الطعن بالدين والمذهب...

الحقيقة الثالثة: أن الناس في تعظيم الشعائر يختلفون، فبعضهم يتأثر ببعض الشعائر أكثر من غيرها، وبعضهم لا يتأثر إلا بواحدة منها... ولعل البعض منهم مشغول في طول العام بأعماله ووظائفه اليومية ولا يجد الفرصة الكافية للمشاركة في تعظيم الشعائر إلا في يوم عاشوراء، أو في مناسبات خاصة، فيتفانى في شعيرة واحدة يجدها هي ذروة عاشوراء، وهي الطريقة الوحيدة التي تروي غليل الحزن في قلبه، وتجعله راضيًا بما قدم، أو شاعرًا بأنه واسى إمامه في محنته، أو عبر عن صدق شعوره وإيمانه والتزامه بنهجه.
وهناك الكثير من المؤمنين الذين يصرحون بأن مواساة الإمام الحسين (ع) بالدماء هي الطريقة الوحيدة التي يجدون فيها التعبير المناسب عن واجبهم تجاه إمامهم، وكثيرون آخرون يجدون ذلك في ضرب السلاسل على الظهور، وجماعة غيرهم يجدون ذلك في البكاء وإظهار الجزع، وغيرهم يجدون التعبير الأنسب في ذلك في المشي مسافات طويلة في الزيارة يهجرون فيها الأهل والأولاد والأوطان وصولاً للإمام الحسين (ع) ليعبروا عن حبهم وصادق ولائهم ونصرتهم، وهكذا.

فالشعائر في نفسها مختلفة من حيث شدة التعبير والإشعار عن عمق الحزن والمصيبة، والناس مختلفون في مستوى التأثر والانفعال بها، ومن هنا فإنه لا يمكن توحيد الناس في شعيرة واحدة أو أكثر، كما لا يمكن منع بعض الشعائر من جهة أنها توجب التوهين أو الإضرار ونحو ذلك؛ لأن ما يعده البعض موجبًا للوهن في المذهب يجده آخرون موجبًا لقوة المذهب وتعزيز موقعه في القلوب، وما يراه البعض أنه أسلوب لا يتناسب مع الزمان يجده آخرون أنه الأسلوب الأفضل في مواجهة تحديات الزمان ومشاريعه التضليلية والإفسادية، وهذا الاختلاف في الرؤية وفي الفهم والاعتقاد لا يمكن توحيده تحت رأي واحد، أو جمعه في قناعة واحدة، وهذا يفرض عدة نتائج:

النتيجة الأولى: أن تبقى الشعائر كما هي حرة في نهجها، ومتنوعة في أساليبها وطرقها كما أرادها الأئمة (ع)، وحث عليها الشرع، ولعل هذه من الأسرار الإلهية التي تبقي عاشوراء خالدة.

النتيجة الثانية: أن هذا التنوع أحد أهم الوسائل التي تجذب الملايين من الناس لكي يساهموا في تعظيم عاشوراء وشعائرها كل بحسب قدرته وفهمه وعلاقته وقناعته.

النتيجة الثالثة: أن منع بعض الشعائر بدوره يساهم في حرم