المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الصبر


حسين ال دخيل
23-06-2013, 03:04 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد الطيبين الطاهرين

الصبــــــــر
وهو: احتمال المكاره من غير جزع، أو بتعريف آخر هو: قسر النفس على مقتضيات الشرع والعقل أوامراً ونواهياً، وهو دليل رجاحة العقل، وسعة الافق، وسمو اخلق، وعظمة البطولة والجَلَد، كما هو معراج طاعة اللّه تعالى ورضوانه، وسبب الظفر والنجاح، والدرع الواقي من شماتة الأعداء والحسّاد.
وناهيك في شرف الصبر، وجلالة الصابرين، أن اللّه عز وجل، أشاد بهما، وباركهما في نَيف وسبعين موطناً من كتابه الكريم:
بشّر الصابرين بالرضا والحب، فقال تعالى: «واللّه يحب الصابرين»
ووعدهم بالتأييد: «واصبر إن اللّه يحب الصابرين»
وأغدق عليهم ألوان العناية واللطف: «ولنَبَلونكم بشيء من الخوف والجوع، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشّر الصابرين،
الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا للّه وإنا اليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، واولئك هم المهتدون»
وهكذا تواترت أخبار أهل البيت عليهم السلام في تمجيد الصبر والصابرين.
قال الصادق عليه السلام: «الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، وكذلك إذا ذهب الصبر ذهب الايمان»
وقال الباقر عليه السلام «الجنة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة، وجهنم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النار»
وقال عليه السلام: «لما حضرت أبي الوفاة ضمني الى صدره وقال: يا بُني، إصبر على الحق وإن كان مرّاً، توف أجرك بغير حساب»
وقال الصادق عليه السلام: «من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له أجر ألف شهيد»
ورب قائل يقول: كيف يعطى الصابر أجر ألف شهيد، والشهداء هم أبطال الصبر على الجهاد والفداء؟.
فالمراد: أن الصابر يستحق أجر أولئك الشهداء، وإن كانت مكافأتهم وثوابهم على اللّه تعالى أضعافاً مضاعفة عنه.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «من لم يُنجه الصبر، أهلكه الجزع»
أقسام الصبر
ينقسم الصبر باعتبار ظروفه ومقتضياته أقساماً أهمها:
(1) الصبر على المكاره والنوائب، وهو أعظم أقسامه، وأجلّ مصاديقه الدالة على سمو النفس، وتفتح الوعي، ورباطة الجأش، ومضاء العزيمة.
فالانسان عرضة للمآسي والارزاء، تنتابه قسراً واعتباطاً، وهو لا يملك إزائها حولاً ولا قوة، وخير ما يفعله المُمتَحَن هو التذرع بالصبر، فانه بلسم القلوب الجريحة، وعزاء النفوس المعذبة.
ولولاه لانهار الانسان، وغدا صريع الأحزان والآلام، من أجلّ ذلك حرضت الآيات والأخبار على التحلي بالصبر والاعتصام به:
قال تعالى: «وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا للّه وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون»
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القَدرُ، وأنت مأزور»
ومما يجدر ذكره أنّ الصبر الجميل المحمود هو الصبر على النوائب التي لا يستطيع الانسان دفعها والتخلص منها، كفقد عزيز، أو اغتصاب مال، أو اضطهاد عدو.
أما الاستسلام للنوائب، والصبر عليها مع القدرة على درئها وملافاتها فذلك حمق يستنكره الاسلام، كالصبر على المرض وهو قادر على علاجه، وعلى الفقر وهو يستطيع اكتساب الرزق، وعلى هضم الحقوق وهو قادر على استردادها وصيانتها.
ومن الواضح أن ما يجرد المرء من فضيلة الصبر، ويخرجه عن التجلد، هو الجزع المفرط المؤدّي الى شق الجيوب، ولطم الخدود، والاسراف في الشكوى والتذمر.
أما الآلام النفسية، والتنفيس عنها بالبكاء، أو الشكاية من متاعب المرض وعنائه فإنّها من ضرورات العواطف الحية، والمشاعر النبيلة، كما قال صلى اللّه عليه وآله عنده وفاة ابنه ابراهيم:
(تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب).
وقد حكت لنا الآثار طرفاً رائعاً ممتعاً من قصص الصابرين على النوائب، مما يبعث على الاعجاب والاكبار، وحسن التأسي بأولئك الأفذاذ.
حكي أنّ كسرى سخط على بزرجمهر: فحبسه في بيت مظلم، وأمر أن يصفد بالحديد، فبقي أياماً على تلك الحال، فأرسل اليه من يسأله عن حاله، فاذا هو منشرح الصدر، مطمئن النفس، فقالوا له: أنت في هذه الحالة من الضيق ونراك ناعم البال. فقال: اصطنعت ستة أخلاط وعجنتها واستعملتها، فهي التي ابقتني على ما ترون. قالوا: صف لنا هذه لعلنا ننتفع بها عند البلوى، فقال: نعم.
أما الخلط الأول: فالثقة باللّه عز وجل.
وأما الثاني: فكل مقدرّ كائن.
وأما الثالث: فالصبر خير ما استعمله الممتَحن.
وأما الرابع: فاذا لم أصبر فماذا أصنع، ولا أعين على نفسي بالجزع.
وأما الخامس: فقد يكون أشدّ مما أنا فيه.
وأما السادس، فمن ساعة الى ساعة فرج.
فبلغ ماقاله كسرى فأطلقه وأعزّه»
وعن الرضا عن أبيه عن أبيه عليهم السلام قال: «إن سليمان بن داود قال ذات يوم لأصحابه: انّ اللّه تبارك وتعالى قد وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي: سخّر لي الريح، والانس، والجن، والطير، والوحش، وعلمني منطق الطير، وآتاني من كل شيء، ومع جميع ما أوتيت
من الملك ماتمّ لي سرور يوم الى الليل، وقد أحببت أن أدخل قصري في غد، فأصعد أعلاه، وأنظر الى ممالكي، فلا تأذنوا لأحد عليّ لئلا يرد عليّ ما ينغض عليّ يومي. قالوا: فلما كان من الغد أخذ عصاه بيده، وصعد الى أعلى موضع قصره، ووقف متكئاً على عصاه ينظر الى ممالكه مسروراً بما أوتي، فرحاً بما أعطي، اذ نظر الى شاب حسن الوجه واللباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره، فلمّا بصر به سليمان عليه السلام، قال له: من أدخلك الي هذا القصر، وقد أردت أن أخلو فيه اليوم، فبإذن من دخلت؟
فقال الشاب: أدخلني هذا القصر ربه، وباذنه دخلت.
فقال: ربّه أحق به مني، فمن أنت؟
قال: أنا ملك الموت، قال: وفيما جئت؟
قال: جئت لأقبض روحك.
قال: إمض لما أمرت به، فهذا يوم سروري، وأبى اللّه أن يكون لي سرور دون لقائه. فقبض ملك الموت روحه وهو متكئ على عصاه...»
الصبر على طاعة اللّه والتصبر عن عصيانه:
من الواضح أن النفوس مجبولة على الجموح والشرود من النظم الالزامية والضوابط المحددة لحريتها وانطلاقها في مسارح الأهواء والشهوات، وإن كانت باعثة على إصلاحها وإسعادها.
فهي لا تنصاع لتلك النظم، والضوابط، إلا بالاغراء، والتشويق، أو الانذار والترهيب. وحيث كانت ممارسة طاعة اللّه عز وجل، ومجافاة عصيانه، شاقين على النفس كان الصبر على الطاعة، والتصبر عن المعصية من أعظم الواجبات، وأجل القربات.
وجاءت الآيات الكريمة وأحاديث أهل البيت عليهم السلام مشوّقة الى الأولى ومحذّرة من الثانية بأساليبها الحكيمة البليغة:
قال الصادق عليه السلام: «اصبروا على طاعة اللّه، وتصبروا عن معصيته، فإنما الدنيا ساعة، فما مضى فلست تجد له سروراً ولاحزناً، وما لم يأت فلست تعرفه، فاصبر على تلك الساعة، فكأنّك قد اغتبطت»
وقال عليه السلام: «إذا كان يوم القيامة، يقوم عنق من الناس، فيأتون باب الجنة فيضربونه، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل
الصبر. فيقال لهم: على ما صبرتم؟ فيقولون: كنّا نصبر على طاعة اللّه، ونصبر عن معاصي اللّه، فيقول اللّه تعالى: صدقوا أدخلوهم الجنة، وهو قوله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب).
وقال عليه السلام: «الصبر صبران: فالصبر عند المصيبة، حَسَن جميل، وأفضل من ذلك الصبر عما حرّم اللّه عز وجل ليكون لك حاجزاً»
الصبر على النِّعَم:
وهو: ضبط النفس عن مسولات البطر والطغيان، وذلك من سمات عظمة النفس، ورجاحة العقل، وبُعد النظر.
فليس الصبر على مآسي الحياة وأرزائها بأولى من الصبر على مسراتها وأشواقها، ومفاتنها، كالجاه العريض، والثراء الضخم، والسلطة النافذة، ونحو ذلك. حيث أن إغفال الصبر في الضراء يفضي الى الجزع المدمّر، كما يؤدي إهماله في السراء الى البطر والطغيان: «إنّ الانسان ليطغى، آن راه استغنى» (العلق: 6 - 7) وكلاهما ذميم مقيت.
والمراد بالصبر على النعم هو: رعاية حقوقها، واستغلالها في مجالات
العطف والاحسان المادية، أو المعنوية: كرعاية البؤساء، وإغاثة المضطهدين، والاهتمام بحوائج المؤمنين، والتوقي من مزالق البطر والتجبر.
وللصبر أنواع عديدة أخرى:
فالصبر في الحرب: شجاعة، وضدّه الجبن.
والصبر عن الانتقام: حلم، وضدّه الغضب.
والصبر عن زخارف الحياة: زهد، وضده الحرص.
والصبر على كتمان الأسرار: كتمان، وضدّه الاذاعة والنشر.
والصبر على شهوتي البطن والفرج: عفة، وضدّه الشره.
فاتضح بهذا أن الصبر نظام الفضائل، وقطبها الثابت، وأساسها المكين.
محاسن الصبر:
نستنتج من العرض السالف أن الصبرَ عماد الفضائل، وقطب المكارم، ورأس المفاخر.
فهو عصمة الواجد الحزين، يخفف وَجده، ويلطف عناءه، ويمدّه بالسكينة والاطمئنان.
وهو ظمان من الجزع المدمّر، والهلع الفاضح، ولولاه لانهار المصاب، وغدا فريسة العلل والأمراض، وعرضة لشماتة الأعداء والحسّاد.
وهو بعد هذا وذاك الأمل المرجّى فيما أعدّ اللّه للصابرين، من عظيم المكافآت، وجزيل الأجر والثواب.
كيف تكسب الصبر:
واليك بعض النصائح الباعثة على كسب الصبر والتحلي به:
1 - التأمل في مآثر الصبر، وما يفيء على الصابرين من جميل الخصائص، وجليل العوائد والمنافع في الحياة الدنيا، وجزيل المثوبة والأجر في الآخرة.
2 - التفكر في مساوئ الجزع، وسوء آثاره في حياة الانسان، وأنه لا يشفي غليلاً، ولا يرد قضاءً، ولا يبدّل واقعاً، ولاينتج الا بالشقاء والعناء. يقول (دليل كارنيجي) «لقد قرأت خلال الأعوام الثمانية الماضية كل كتاب، وكل مجلة، وكل مقالة عالجت موضوع القلق، فهل تريد أن تعرف أحكم نصيحة، وأجداها خرجت بها من قراءتي الطويلة؟ إنها: «إرض بما ليس منه بدّ».
3 - تفهم واقع الحياة، وأنها مطبوعة على المتاعب والهموم:
طبعت على كدر وأنت تريدها*** صفواً من الأقدار والأكدار
فليست الحياة دار هناء وارتياح، وإنما هي: دار اختبار وامتحان للمؤمن، فكما يرهق طلاب العلم بالامتحانات إستجلاء لرصيدهم العلمي، كذلك يمتحن المؤمن إختباراً لأبعاد إيمانه ومبلغ يقينه.
قال تعالى: « أحَسِبَ الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم، فليعلمن اللّه الذين صدقوا، وليعلمنّ.
4 - الاعتبار والتأسي بما عاناه العظماء، والأولياء، من صنوف المآسي والأرزاء، وتجلّدهم فيها وصبرهم عليها، في ذات اللّه، وذلك من محفزات الجلد والصمود.
5 - التسلية والترفيه بما يخفف آلام النفس، وينهنه عن الوجد: كتغير المناخ، وإرتياد المناظر الجميلة،