المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حقيقة الحب الالهي


مهدي الحر
29-07-2012, 04:01 AM
الحبّ لغة: هو الوداد والمحبّة1 والميل الشديد، ويُقابله البغض والتنفّر. والتحبّب هو إظهار الودّ والحبّ.
وقيل: إنّ الحبّ بضمّ الحاء هو المحبّة وبكسرها هو الحبيب2.
الحبّ اصطلاحاً: هو الميل القلبي والباطني نحو المحبوب، فلا يكون الشيء محبوباً إلاّ إذا مالت النفس إليه. وهذا الميل ذو درجات ومراتب، فإذا قوي هذا الميل واشتدّ سُمّي عشقاً3.
وهذا الميل الباطني يتولّد منه الشوق إلى المحبوب عند غيابه فيلحّ القلب في طلبه حتّى يرتوي برؤياه، ولذا لا يكفّ العارف عن شوقه وولهه للمحبوب حتّى يمتلئ قلبه بشهود محبوبه، ويُصعق وجداً على أعتاب مطلوبه.
ولا ريب أنّ ذلك الوداد والميل الباطني والعشق والشوق وغير ذلك ممّا يتفرّع عن أصل الحبّ لا ينعقد ـ بل لا يتصوّر انعقاده ـ إلاّ بعد حصول المعرفة بالمحبوب، فلا يمكن أن يكون حبّ الشيء وليد الجهل به.
قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: (ما اتّخذ الله وليّاً جاهلاً)4. فالحبّ هو الوليد الحقيقي والموروث الأوّل للمعرفة، وبقدر تلك المعرفة يكون الحبّ5.
وحيث إنّ الإنسان بطبعه مندفع نحو تحصيل كمالاته، فهو محبّ لها بالضرورة. فالإنسان لفقده الذاتي يطالب الكمال المطلق الصادق على الغنيّ بذاته جلّ وعلا، ولذا تكون قلوب أحبّائه خلواً من الأغيار، إلاّ بفضل أصحابها بل بفضل صاحبها الأوحد جلّ وعلا.
يقول سيّد الشهداء الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام: (أنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك، حتّى لم يحبّوا سواك، ولم يلجؤوا إلى غيرك)6.
وإزالة الأغيار هذه لا تكون بمعجزة غيبية وإنّما بالالتفات والتنبيه، بعد أن يكون العبد قد عرف القصد ووحّد المقصود، ومضى ليلقي بكلّيته في محضر المعبود.
يروى (أنّ الكليم موسى عليه السلام قد ناجى ربّه بالوادي المقدّس، فقال: يا ربّ إنّي أخلصت لك المحبّة منّي، وغسلت قلبي عمّن سواك ـ وكان شديد الحبّ لأهله ـ فقال الله تبارك وتعالى: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ)7 أي انزع حبّ أهلك من قلبك إن كانت محبّتك لي خالصة، وقلبك من الميل إلى من سواي مغسولاً)8.
وحيث إنّ الحبّ هو ودّ وميل، فإنّ المحبوب سوف يتنوّع بحسب القوّة المدركة له. والقوى المدركة إمّا أن تكون حواسَّ ظاهرةً أو حواسّ باطنة أو قوّة عاقلة، وبتبع ذلك سوف تختلف اللذّة قوّة وضعفاً بحسب القوّة المدرِكة للمحبوب عندما تدركه وتناله.
فاللذّات التي نحصل عليها بواسطة الحواسّ الخمس الظاهرية ـ الباصرة والسامعة والشامّة واللامسة والذائقة ـ في المناظر الجميلة والأصوات الحسنة والروائح الطيّبة والملابس الناعمة والمأكولات والمشروبات الطيّبة، كلّ هذه الملذّات ـ رغم أهميّتها وضرورتها في حياة الإنسان ـ أدنى مرتبة من اللذّات الباطنية، من قبيل لذّة الرئاسة والانتصار والغلبة وقهر الأعداء ونيل الكرامة ولذّة الجنس، وغير ذلك.
وهذه اللذّات الباطنية رغم أشرفيّتها وتقدّمها على اللذّات الظاهرية إلاّ أنّها أدنى مرتبة وشرفاً من اللذّات العقلية التي من قبيل معرفة الله تعالى والسير في أسمائه وصفاته والوقوف على أسرار الخلق ومعاينة جمال الحضرة الربوبية وغير ذلك من لذّاتِ (ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)9.
ولا ريب في حصول اللذّات الظاهرية لكلّ إنسان ـ ما لم يكن فاقداً لتلك الحواسّ ـ وأمّا اللذّات الباطنية فإنّ دائرة الذين يحصلون عليها أضيق من دائرة الحصول على اللذّات الحسّية. فالأطفال الذين لم تكتمل قواهم الباطنية, والمرضى الذين ماتت معظم قواهم, وضعاف الهمّة وميّتو القلب لا ينالون هذه اللذّات.
وأمّا اللذّات العقلية فدائرة الحصول عليها أضيق بكثير، بل هي محدودة جدّاً رغم انفتاحها على الجميع.
ومن الواضح أنّ هنالك كثيراً ممّن يُؤثر اللذّات الظاهرية على الباطنية فضلاً عن العقلية؛ لقصور فيه, فيرضى بإشباع بطنه في قبال ذُلّ يناله، ويطلب السلامة في قبال ضياع الكرامة.
وربما يفعل بعضهم ذلك لأنّه لا يعرف تلك المعاني الكريمة إمّا للأسباب المتقدّمة أو للاضطرار.
من هنا يتّضح لدينا أسباب اقتصار دائرة المتوفّرين والحاصلين على المعارف الإلهية على عدد محدود جدّاً؛ إمّا لجهل بحقيقة هذه المعارف السامية ـ كما هو حال الأعمّ الأغلب ـ أو لشدّة الارتباط والاشتغال بالأمور المادّية بحيث لا تُعطي مُتّسعاً للالتفات والارتباط بعالم المعنى.
ولا شكّ أنّ الحاصل على اللذّات الباطنية سوف تضعف في نفسه درجة ومرتبة اللذّات الظاهرية عندما يُقايسهما معاً، وهكذا في الحاصل على اللذّات العقلية فإنّه سوف تضعف عنده اللذّات الباطنية فضلاً عن الظاهرية عندما يقايسهما باللذّة العقلية.
وعليه فلا غضاضة على من خلّف تلك اللذّات القاصرة وراء ظهره وانغمس في بحار المعارف الإلهية يتلمّس ببصيرته الثاقبة أنوار الملكوت لتفيض على قلبه فتطربه النشوة وتُسكره اللذّة فيصير محواً بعد صحو ثمّ صحواً بعد محو.
من هنا يتّضح لكلّ منّا ما نحن فيه، وفي أيّ دائرة ندور، وفي أيّ بحر نعوم. فشتّان بين مَن يعوم في ظلمات مقهورة مأسورة وبين من يعوم في أنوار وسبحات قُدس قاهرة مطلقة معمورة؛ قال الله تعالى: (بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)10 وقال سبحانه: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً)11.
وهكذا يجد الإنسان نفسه مُنساقاً نحو ما يُحبّ؛ تلمّساً للّذّة التي يوفّرها محبوبه، وفي ذلك كماله بحسب فهمه وإدراكه.
فإذا ما وجد الإنسان كماله في اللذّات الحسّية دون ما سواها، فإنّه يتعسّر عليه فهم وإدراك ما تحمله الأُمور الأُخرى من كمالات وتقدّمها على ما هو حاصل عليه.
فالصبيان يجدون الكمال في ممارسة ألعاب الكرة. فإذا ما حدّثتهم عن لذّة أعظم وكمال أفضل يمنحه الزواج أو طلب العلم فإنّهم لا يعيرونك آذاناً صاغية، وهكذا فيمن توقّف على الملذّات والكمالات الباطنية فإنّه يصعب ـ بل يعسُر ـ عليه فهم اللذّة القصوى التي تمنحها المعارف الإلهية.
يقول صاحب (المحجّة البيضاء): (فأمّا معنى كون معرفة الله وصفاته وملكوت سماواته وأسرار ملكه أعظم لذّة من الرئاسة فهذا يختصّ بمعرفته من نال رتبة المعرفة وذاقها, ولا يمكن إثبات ذلك عند من لا قلب له؛ لأنّ القلب معدن هذه القوّة, كما أنّه لا يثبت رجحان لذّة الوقاع على لذّة اللعب بالصولجان عند الصبيان...)12.
وكيف يتسنّى لمن لم يذق طعم الشيء معرفته والوقوف على كماله. وليس ببعيد عنّا ما يُكيله بعض من اقتصر على ظواهر الأُمور من تهم وتشنيع على الواقفين على كمالات المعنى والأُمور المعنوية، وما ذلك إلاّ لضيق دائرة الإدراك أو لعدم وقوفهم على حقيقة الكمالات الأُخرى. فمن ذاق عرف، ومن لم يذق لم يعرف، والناس أعداء ما جهلوا.
فتلخّص لدينا أنّه لا ريب في أشرفية اللذّة العقلية وتقدّمها على سائر اللذّات الأُخرى، الظاهرة منها والباطنة، فإنّ بصيرة القوّة العاقلة هي الأشدّ والأمضى في النفوذ إلى حقائق الأشياء.
بعبارة أخرى: إنّ المعقولات عند إدراكها تمنح النفس لذّة وبهجة لهي أعظم وأسمى بكثير ممّا تمنحه المحسوسات لها، ولذا كانت الصلاة هي أعظم المحبوبات عند النبيّ من الدنيا، حيث يقول صلى الله عليه وآله: (حُبّب إليّ من دنياكم: الطيب والنساء، وقرّة عيني في الصلاة )13، وما ذلك إلاّ لأجل اللذّة العقلية التي تمنحها الصلاة، والتي هي أرفع مرتبة من لذّة الطيب ـ العطر ـ ولذّة النساء الحسّيتين.
ولا يخفى أنّ تحبيب الطيب والنساء للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله في هذا المورد إنّما لأجل الصلاة نفسها، ويمكن استفادة هذا المعنى من مجموعة روايات مرويّات عنه صلى الله عليه وآله تتحدّث عن فضل صلاة المتطيّب وفضل صلاة المتزوّج على غيرهما، من قبيل قوله صلى الله عليه وآله: (لركعتان يصلّيهما متزوّج أفضل من رجل أعزب يقوم ليله ويصوم نهاره)14، وقوله صلى الله عليه وآله: (ركعتان يصلّيهما متعطّر أفضل من سبعين ركعة يصلّيها غير المتعطّر)15. فمن تطيّب وتزوّج ولم يُصلّ لم يكن له في الطيب والتزويج فضل ولا ثواب16. هذا فضلاً عن كون هذين الأمرين على فضلهما بمعيّة الصلاة إلاّ أنّهما قد حُبّبا لنفس الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ولم تمل إليهما نفسه القدسية وذاته صلى الله عليه وآله لأنّ نفسه وذاته مفطورة على حبّ العوالم العلوية المجرّدة عن المادّة ولذّاتها، فهو صلى الله عليه وآله مجذوب لعلياء ربّه بجبلّته، وممسوس بذلك العالم. فمع ذلك التحبيب والترغيب له صلى الله عليه وآله فيهما، لم يصر أيّ واحد منهما قرّة عين له وإنّما كانت قرّة عينه في الصلاة.
هذا ما يمكن ذكره في تصوير معاني الحبّ لغة واصطلاحاً. أمّا حقيقة الحبّ فمن الصعوبة بمكان تصويرها وتلمّسها فضلاً عن الإحاطة بها، رغم أنّنا نعيش تفاصيل كثيرة منها، سواء على مستوى العلاقات الاجتماعية أو على مستوى العلاقات بالموجودات السماوية ـ إن جاز التعبير ـ كالعلقة الناشئة بيننا وبين الله سبحانه وتعالى وأنبيائه ورسله وأوصيائه وأوليائه وملائكته، وسائر الموجودات العلوية مرتبة وشرفاً.
والسرّ الكامن وراء عدم إمكان تصوير حقيقة الحبّ أو استجلائها، هو أنّنا لم نعش تلك الحقيقة كاملة. فأمّا من ارتقى ذلك المقام السامي فهو من دخل دائرة العصمة أو اقترب منها.
بعبارة أخرى: إنّ حقيقة الحبّ وسرّه وكُنهه مرتبطة بما يتميّز به الإنسان في علاقته مع الله تعالى. فحبّ الله تعالى ـ كما سنعرف فيما بعد ـ هو الأصل والأساس والمنطلق لجميع الموجودات والمفردات الأُخرى التي يمكن أن تكون متعلّقاً للحبّ.
إنّ جميع العلائق التي تربطنا بالموجودات الإمكانية سوف تكون علائق ناقصة وقاصرة، بل مبنيّة ـ في الأعمّ الأغلب ـ على أساس تبادل المنافع والمصالح، إن لم تكن متفرّعة عن حبّ الله تعالى؛ لأنّها ستكون فاقدة لذلك الأصل الأصيل، أمّا إذا كانت تلك العلائق منبثقة ومنبعثة ومتولّدة من ذلك الحبّ الموغل في الأصالة, فإنّها سوف تأخذ طابعاً آخر ومعنى آخر يقترب بنا من أصل الحبّ وحقيقته، بل حتّى أُولئك الذين يعيشون علائقهم الثانوية مع موجودات عالم الإمكان متفرّعةً عن علاقتهم الأوّلية بالله تعالى, فإنّهم لا يعيشون ـ في الأعمّ الأغلب ـ روح وحقيقة الحبّ بما هي عليه، وذلك لسبب خارج عن قدراتهم ومكنتهم، ومرتبط بأصل آخر تفرّع عنه الحبّ وهو أصل المعرفة.
وحيث إنّ معرفة الله تبارك وتعالى موصدة على مستوى الذات لجميع موجودات عالم الإمكان ومحدودة على مستوى الأسماء والصفات للأعمّ الأغلب منّا فإنّ الحبّ المتولّد تلقائياً عن تلك المعرفة سوف يكون قاصراً ومحدوداً أيضاً، والنتيجة ـ كما يرى المناطقة ـ تتبع أخسّ المقدّمات17.
فالحبّ واضح كلّ الوضوح في لفظه ومعناه18، وخاف كلّ الخفاء في كُنهه وحقيقته الحقّة ومغزاه، كما هو الحال في أصل الوجود الواضح مفهوماً المبهم مضموناً، حتّى قيل في ذلك:
مفهومه من أعرف الأشياءِ وكُنهه في غـاية الخفاءِ19
ـــــــــــ
(1) لسان العرب لابن منظور الإفريقي المصري، نشر دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأُولى، 1405هـ: ج 1، ص 289.
(2) مـجمع البحرين للشيخ فخر الدين الطريحي، تحقيق السيّد أحمد الحسيني، نشر مكتبة نشر الثقافة الإسلامية، الطبعة الثانية، 1408هـ: ج1، ص 442.
(3) المصدر السابق
(4) شرح أصول الكافي، مصدر سابق، باب الحبّ في الله والبغض في الله: ج 8، ص 348، ح1.
(5) سوف يتعرّض السيّد الأُستاذ إلى ذلك في بحث لاحق من هذا الكتاب.
(6) من دعاء عرفة للإمام الحسين عليه السلام. انظر: مفاتيح الجنان للشيخ المحدّث عباس القمّي رحمه الله ، نشر دار الثقلين الطبعة الثالثة، 1420هـ، بيروت: ص 341.
(7) طه: 12.
(8) كمال الدين وتـمام النعمة للشيخ الصدوق أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، صحّحه وعلّق عليه علي أكبر الغفاري، نشر مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم، 1405هـ : ص460.
(9) تهذيب الأحكام لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي، تحقيق السيّد حسن الموسوي الخرسان، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة­ الرابعة ج6، ص22، ح7.
(10) القيامة: 14.
(11) الإسراء: 84.
(12) الـمحجّة البيضاء في تهذيب الأحياء للمولى محمّد محسن بن المرتضى المعروف بالفيض الكاشاني، صحّحه وعلّق عليه علي أكبر الغفاري، نشر مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم، الطبعة الرابعة، 1417هـ : ج 8، ص 31
(13) الخصال للشيخ الصدوق أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، صحّحه وعلّق عليه علي أكبر الغفاري، نشر مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم، 1405هـ : ص260.
(14) من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق، تحقيق علي أكبر الغفاري, نشر مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية 1404هـ , قم: ج 3 ، ص 384، ح 4347.
(15) ثواب الأعمال للشيخ الصدوق، منشورات الرضي، الطبعة الثانية، قم: ص 40.
(16) الخصال, مصدر سابق: ص 166.
(17) أي: أضعف المقدّمات.
(18) أي: لغة واصطلاحاً.
(19) انظر شرح المنظومة، قسم الحكمة (غرر الفوائد وشرحها) للملاّ هادي السبزواري، علّق عليه آية الله الشيخ حسن زاده الآملي،

مظاهر حكمة الله تعالى المختارة والمُبيّنة في القرآن الكريم وحدة المسلك بين تزكية النفس وتطهيرها معنويّاً للوصول بها إلى أعلى مدارج الكمال وبين معرفة الله تعالى. ويمكن توضيح ذلك من خلال مقدّمات ثلاث:
المقدّمة الأولى: إنّ الإنسان قد خُلق مفطوراً على حبّ الكمال. ومعنى كونه مفطوراً على حبّ الكمال وطلب تحصيله هو أنّ الإنسان في أصل خلقته قد خُلق على كيفية مخصوصة هي حبّ الكمال المطلق وطلبه, وهذا من قبيل الكيفية المخصوصة التي وُجد عليها الماء؛ فإنّ الماء قد فُطر ـ أي: خُلق ـ على خصوصية السيلان, فالسيلان موجود في أصل تركيبة الماء وخلقته الأولى.
وهكذا الحال في المقام, فإنّ حبّ الكمال الذي فُطر عليه الإنسان يمثّل في واقعه درجة شديدة من وجوده، ولذا لا تكون الرغبة في الكمال قابلة للتعليل1، فهي أمرٌ ذاتيّ وحقيقيّ في أصل خلقة وتركيبة الإنسان، ومن الواضح أنّ الذاتي لا يُعلّل، فلا معنى للسؤال بعد ذلك عن سبب حبّ الإنسان للكمال2.
ثم أنّ هذا الكمال الذي فُطر الإنسان على حبّه وطلبه هو خصوص الكمال المطلق, وأنّ الكمال المطلق بالنسبة للإنسان هو نفس معرفة الله تعالى. فالكمال المطلق هو معرفته سبحانه, ومعرفته سبحانه هي الكمال المطلق بالنسبة للإنسان, والسّر في الإطلاق هو كونه معرفة لا حدّ لها ولا يمكن الإحاطة بها.
المقدّمة الثانية: إنّ هذا الحبّ بنكتة فطريّته لن يكون قابلاً للتبديل والتحويل والتغيير والتغيّر، وهذه الحقيقة ثابتة عقلاً ونقلاً. أمّا عقلاً فإنّ التبديل أو التحويل أو التغيير يعني فقدان الأصل؛ لأنّ حبّ الكمال ليس أمراً عارضاً على وجود الإنسان، وإنّما هو كيفيّة مأخوذة في أصل تركيبته ونشأته، فيكون افتراض عدمه افتراضاً لعدم الإنسان. وأمّا نقلاً فلقول الله تعالى: (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ)3. وما دام الإنسان مفطوراً على حبّ الكمال وطلب الحصول عليه، فإنّ هذا الحبّ وهذا الطلب لن يتبدّلا أو ينطفئا أبداً، إذاً لا تبديل لخلق الله تعالى. وهكذا جرت سنّة الله في الإنسان كباقي سُننه في الكون خالدة باقية أبداً، (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً)4. فحبّ الكمال وطلب تحصيله هما سنّة الله سبحانه في خلقه، وهما من أصول الفطرة الأولى التي فطر عليها الإنسان، ولا ينتقض ذلك بما نشاهده من انحرافات جسيمة عن مستلزمات هذه الفطرة السليمة والصبغة الحسنة5، فذلك لا يُعدّ إبطالاً لها وإنّما هو استعمال خاطئ لها في غير ما أريد لها.
يقول السيّد الطباطبائي: (وأمّا الانحراف المشهود عن أحكام الفطرة فليس إبطالاً لحكمها بل استعمالاً لها في غير ما ينبغي من نحو الاستعمال، نظير ما ربّما يتّفق أنّ الرامي لا يصيب الهدف في رميته، فإنّ آلة الرمي وسائر شرائطه موضوعة بالطبع للإصابة إلاّ أنّ الاستعمال يوقعها في الغلط)6. فالفطرة باقية على أصلها وفصلها في حبّ الكمال والسعي لبلوغه، ولكن الإشكالية تكمن في تحديد المصداق. فالخطأ في تعيين المصداق المطلوب حقّاً يؤدّي إلى الانحراف، فيتصوّر البعض أنّ كماله المطلوب هو المال أو الجاه أو السلطان أو الملذّات أو...، فيغترف من ذلك الماء الأجاج ظنّاً منه بأنّه عذب فرات سائغ شرابه، فلا يزيده الشرب إلاّ عطشاً وقرباً من هلاكه. عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: (مَثل الدُّنيا كماء البحر كلّما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتّى يقتله)7.
المقدّمة الثالثة: إنّ الكمال غير المتناهي, مصداقه الأوحد هو الله سبحانه وتعالى. فالتأمّل في مجموع هذه المقدّمات ينتج عنه أنّ الإنسان إذا عرف الله تعالى فإنّه سوف يُحبّه بالضرورة، وذلك لأنّ حبّه لله تعالى انعكاس وترجمة فعلية لحبّ كماله الشخصي والذاتي، وهو طالب له ما دام فاقداً له حتّى إن كان مطلوبه يحصل عليه ضمن حدود ضيّقة في محلٍّ ما، فكيف إذا علم أنّ مطلوبه موجود بشكل مطلق غير محدود؟ فلا شكّ أنّه سوف يكون أشدّ طلباً له ورغبةً به.
من خلال ذلك يتّضح لنا أنّ مرحلة ومسيرة طلب الكمالات لن تنتهي عند حدّ معيّن ما دام الطالب محدوداً ـ وهو الإنسان في حدود بحثنا ـ والمطلوب مطلقاً. وحيث إنّ المعرفة بالشيء ـ في إحدى معانيها ـ هي الإحاطة به، فكيف يُحيط المحدود باللا محدود؟
لا شكّ أنّ أيّ إحاطة تعني محدودية المعلوم، ولعلّ هذا الطلب الحثيث المستمرّ واللا يقفي8 يفسّر لنا ـ من زاوية ما ـ الأنس واللذّة في تحصيل المطلوب غير المتناهي.
إنّ التناهي لا يعني محدودية المقام، وهذا سرعان ما يُفضي بصاحبه إلى دائرة مغلقة وعديمة الانسجام مع أصل الفطرة الطالبة للكمال المطلق.
ولكي يتّضح ما قدّمناه في تصوير المقدّمتين نضرب مثالاً حسّياً يعيشه الجميع، وهو أنّ أيّ واحد منّا إذا شخّص أنّ بقاء حياته واستمرارها متوقّفان على أكله وشربه وتنفّسه فإنّ حاجته إلى ذلك سوف تُفضي به إلى حُبّ الطعام والشراب والهواء؛ لأنّ جميع هذه الأشياء تحفظ له مطلوبه، وهو بقاء حياته. وكذا الحال فيما نحن فيه، فإنّ الإنسان بعد أن كان مفطوراً على حبّ ذاته وتحصيل كمالاته الذاتية فإنّه إذا شخّص أنّ الكمالات المفقودة لديه ـ وهي كثيرةٌ لا تُحصى ـ متوافرة وبدرجات غير متناهية في موجود مطلق غير متناه ـ وهو الله تعالى ـ فإنّه سوف يكون محبّاً لله تعالى، وكلّما زادت معرفته وإيمانه بغايته ومطلوبه صار أكثر طلباً له وأشدّ حبّاً (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ)9.
فإذا انجلت الغبرة وعرف الإنسان هدفه وغايته ومحبوبه ومقصوده وآمن به فإنّه سوف ينطلق إليه بكلّيّته مُسخِّراً لذلك جميع طاقاته وإمكانيّاته وبذلك سوف ينفتح بقلبه وعقله وبصيرته على أسماء الله الحسنى وصفاته، فيزدان قلبه ويلهج لسانه بغير المتناهي في أسمائه وصفاته، ظاهرها وباطنها ( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً ما تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْماءُ الحُسْنَى )10. فما دمت منفتحاً ـ وهكذا كلٌّ بحسبه ـ على المعارف الإلهية الاسمائية والصفاتية، فسوف يكون همّك وشاغلك الأوّل ومذكورك الأوحد هو الوجود المطلق غير المتناهي الذي له المثل الأعلى في كلّ شيء؛ كلّ كمال وجمال، وكلّ حُسن وجلال، هو الله تباركت أسماؤه وصفاته.
وبذلك نخلُص إلى أنّ المعرفة بالشيء تُفضي إلى محبوبيّته ما دام يمثِّل كمالاً للعارف به والطالب له، وبقدر هذه المعرفة تكون المحبّة.
الإخلاص ثمرة الحبّ
في ضوء ما تقدّم ننتهي إلى نتيجة في غاية الأهمّية وهي أنّ الحبّ الذي تُورثه المعرفة سوف يُورث لنا أمراً آخر لابدّ منه وهو الإخلاص للمحبوب. فنحن نرى بالوجدان أنّنا نُخلص لمن نحبّه, وتزداد درجة إخلاصنا بازدياد درجة حبّنا له. وهذا الترتّب الطولي بين المعرفة والحبّ والإخلاص هو ترتّب ذاتيّ، وسنّة إلهيّة، ومسلك قرآنيّ منسجم تمام الانسجام مع فطرة الإنسان.
من خلال هذه المعارف الأوّلية الجليلة تتّضح لنا جُملة أمور ذات صلة بالسلوك الذي يجدر بالإنسان أن يكون عليه ـ وكما قيل: إنّ الأعراض تكشف عن جواهرها، والمعلولات تكشف عن عللها ـ نذكر شاهداً واحداً منها لعلّ فيه تذكرة للمؤمنين، وهو أنّ الأمراض المعنوية التي أحسبها أعراضاً لا أمراضاً ـ كما سيتّضح ـ تحكي لنا بنفسها ما نحن عليه من إخلاص, ثمّ من حبّ, ثمّ من معرفة بالله تعالى، كما هو الحال في الرياء والتكبّر وغيرهما. فالرياء طلب المحبوبية في قلوب الناس، حيث يُرائي المرائي الآخرين طلباً للمنزلة عندهم، فيكون الآخرون هم المقصودين بالعمل11، وهذا هو الشرك الخفيّ لا الجليّ12 ، أو الأصغر لا الأكبر، كما جاء ذلك في جملة من الروايات، حتّى أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قد رُئي باكياً فسُئل عن سرّ بكائه، فقال: (إنّي تخوّفت على أمّتي الشرك، أما إنّهم لا يعبدون صنماً ولا شمساً ولا قمراً ولكنّهم يُراءون في أعمالهم)13. وعنه صلى الله عليه وآله أيضاً: (إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر). قالوا: ما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء14.
ففي الصلاة ـ مثلاً التي يجب أن يكون المتوجَّه إليه هو الله وحده ـ إذا قُصد بها وجه آخر طلباً للمنزلة والمحبوبية عنده فإنّ مثل هذه الصلاة تكشف عن عدم إخلاص صاحبها لله تعالى, وعدم إخلاصه هذا يكشف عن عدم حبّ لله تعالى، أو أنّه يكشف عن حبّ لا قيمة له، وعدم الحبّ كاشف بدوره عن عدم المعرفة بالله تعالى. وهذا الترتّب منطقيّ جدّاً، فالذي يقصد غير وجه الله تعالى في صلاته لا شكّ أنّه سيجد في ذلك الغير ما لم يجده في الله تعالى؛ ما يعني الجهل المُطبق وعدم المعرفة بالله تعالى. وأكثر من ذلك أنّه يكشف عن سفاهة؛ لأنّ الفاعل هنا يرى للغير من كمال ما لا يراه لله تعالى. بعبارة أخرى: يرى للموهوب له ما لا يراه للواهب نفسه! مع أنّ الواهب الحقيقي واجد لكلّ جمال وكمال وبأعلى المراتب، ولذا عبّرنا عن الأمراض المعنوية كالرياء والتكبّر ونحوهما بالأعراض الكاشفة بنفسها عن أمراض. فالرياء كاشف عن عدم الإخلاص ثمّ عدم الحبّ ثمّ عدم المعرفة بالله تعالى، وعدم المعرفة بالله هو المرض الحقيقي, وما الرياء والتكبّر ونحوهما من الموبقات إلاّ أعراض تحكي عن عللها.
وهكذا يمكن التدرّج في جميع المقامات التي نحن عليها، صحيحها وسقيمها، سلبها وإيجابها، لنعرف بذلك أيّ شأن ومكانة وموقع تتبوّؤه معرفة الله تعالى.
بقي أن نعرف كيف لهذا الحبّ المتولِّد من المعرفة الإلهية أن يكون مُورثاً للإخلاص، فذلك لأنّ محبّة الله تعالى تطهِّر القلب من جميع التعلّقات الأخرى أيّاً كانت تلك التعلّقات ـ ما لم تكن متعلّقة به وعائدة إليه ـ فيتوجّه القلب بكلّيته نحو قبلته وكعبته ومحبوبه، وهذا هو كمال الحبّ وتمامه حيث لا يُبقي الحبّ في قلب المحبّ شيئاً أو متعلّقاً لغير المحبوب ما (جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)15. فلا معنى للحبّ مع وجود الغيرية، ولا معنى للغيرية مع وجود الحبّ. يقول العلاّمة الطباطبائي: (وأمّا محبّة الله سبحانه فإنّها تُطهِّر القلب من التعلّق بغيره تعالى من زخارف الدنيا وزينتها من ولد أو زوج أو مال أو جاه، حتّى النفس وما لها من حظوظ وآمال، ويقتصر القلب في التعلّق به تعالى وبما يُنسب إليه من دين أو نبيٍّ أو وليٍّ وسائر ما يرجع إليه تعالى بوجه، فإنّ حبّ الشيء حبٌّ لآثاره)16.
فإذا وقع ذلك الحبّ الإلهي في قلب الإنسان فهو الجَنّة التي ينعم بها العبد في الدُّنيا قبل الآخرة، وهو الجُنّة التي تقيه من الوقوع في المعاصي والمهالك، لأنّ الحبّ الإلهي كفيلٌ بتوحيد إرادة المحبّ مع إرادة محبوبه فتكون إرادته مرآة تحكي إرادة المحبوب. وفي ذلك يقول الطباطبائي: (وإنّ المحبّة الإلهية تبعثهم على أن لا يريدوا إلاّ ما يريده الله وينصرفوا عن المعاصي)17.
فإذا سكن الله تعالى قلب المؤمن أو أقصر المؤمن قلبه على الحقّ تعالى وحده ولم يسمح للأغيار من الولوج فيه، استغنى العبد عمّا سوى الله تعالى وأغناه الله تعالى بمعيّته، وحقَّ لذلك القلب أن يكون حرماً وبيتاً خالصاً لله تعالى؛ (القلب حرم الله فلا تُسكن في حرم الله غير الله سبحانه)18.
وعندئذ يكون النظر إلى الملكوت من خلال نافذة القلب، بل سيكون ذلك القلب الطاهر ملكوت صاحبه ما دام الله تعالى فيه ومستحوذاً عليه، ولابدّ أن يكون قد اتّضح لدينا أسباب عدم حصول هذا النظر القُدسي للأعمّ الأغلب منّا؛ فذلك لما للشياطين من سبح طويل وفضاء فسيح في قلوبنا؛ (لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلـى الملكوت)19، فصارت تلك القلوب كمحافل السوء اكتظّت عندها الأغيار، (أوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُـجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ)20، مع أنّ هذه القلوب الإنسانية تفرّدت بأصل خلقتها وفطرتها عمّن سواها من قلوب سائر المخلوقات الأخرى بصيرورتها عرشاً أوحدياً للرحمن جلّ وعلا؛ في الحديث القدسيّ: (قلب المؤمن عرش الرحمن)21 و (لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن)22.
وإذا كان قلب المؤمن عرش الرحمن فلنا أن نفهم وجهاً آخر لقوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)23 فلا توجد فُسحة أو مجال آخر ولو بقيد أنملة للأغيار، وذلك هو القلب السليم الذي أريد منّا الإتيان به كما حكى عنه القرآن الكريم (إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)24، وقد سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن ذلك فقال: (السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحدٌ سواه)25. وقد سُئل الرسول الأكرم صل عليه وآله: ما القلب السليم؟ فقال صلى الله عليه وآله: (دين بلا شكّ وهوى، وعملٌ بلا سمعة ورياء)26. فتلك هي آفات القلوب ومُدسّسات البصيرة في التراب27.
وعن الإمام الصادق عليه السلام وهو يصف لنا القلب السليم بأوجز وصف: (هو القلب الذي سلم من حبّ الدُّنيا)28، ولذلك فإنّ (شرّ العمى عمى القلوب)29، بل (إنّما الأعمى أعمى القلب)30,وذلك تصديقاً لقوله تعالى: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)31. فالقلب نافذة مُشرعة إمّا تطلّ بصاحبها على الملكوت والساحة المقدّسة الأسمائية والصفاتية إن تفرّد القلب بحبّ الله تعالى وصفا له وتوحّد به، فيُبصر ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وإمّا تطلّ بصاحبها على تلك الصحاري المجدبة والظلمات الموحشة إن تصفّحت عينا القلب وتنصّتت أذناه إلى الأغيار فتُكسَر بذلك مصابيح القلب وتُوقَر أذناه. روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قوله: (ما من قلب إلاّ وله عينان وأذنان، فإذا أراد الله بعبد خيراً فتح عينيه اللّتين للقلب ليشاهد بهما الملكوت)32. فإذا ما خُلّي القلب من الأغيار واختلى بمحبوبه الأوحد، سُقي شراباً طهوراً (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً)33 من كأس الحبّ والتطهير التامّ عمّا سوى المحبوب34، ويا له من شراب عذب سائغ ومن سُقي لا ظمأ بعده أبداً، ومن ساق أزال كلّ الوسائط عن محبّيه (وسقاهم ربّهم) فلا واسطة ولا مسافات تحجبهم عنه، وعندئذ يتميّز من كان يعبد ربّه حبّاً وشكراً عمّن كان يعبده طمعاً في جنّته أو خوفاً من ناره35، فلا يكون بينه وبين محبوبه حاجب ولا ساتر، وهذا هو معنى القرب والفوز العظيم؛ يقول الطباطبائي: (وهؤلاء هم المقرّبون الفائزون بقربه تعالى، إذ لا يحول بينهم وبين ربّهم ممّا يقع عليه الحسّ أو يتعلّق به الوهم أو تهواه النفس أو يلبسه الشيطان، فإنّ كلّ ما يتراءى لهم ليس إلاّ آية كاشفة عن الحقّ تعالى، لا حاجباً ساتراً، فيفيض عليهم ربّهم علم اليقين، ويكشف لهم عمّا عنده من الحقائق المستورة عن هذه الأعين المادّية العميقة، بعدما يرفع الستر فيما بينه وبينهم...) 36.
وبذلك نكون قد عرفنا أنّ المعرفة الإلهية هي الأصل الأصيل المورث للحبّ، وأنّ الحبّ بدوره يُورث الإخلاص في قلب المحبّ لمحبوبه. فعدم الإخلاص عدم للحبّ، وعدم الحبّ عدم للمعرفة الإلهية، (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)37.
ــــــــــــــ
(1) انظر: كلمة حول فلسفة الأخلاق للأستاذ محمّد ­تقي­ اليزدي، مؤسّسة در راه حقّ، قم: ص28.
(2) ينقسم الحمل في علم المنطق إلى قسمين؛ الأوّل: حمل المفهوم على نفسه، مثل قولنا: الإنسان إنسان، والثاني: حمل المفهوم على مصداقه، مثل: زيد إنسان. الأوّل يُسمّى بالحمل الأوّلي، والثاني بالحمل الشايع الصناعي، وربّما سُمّي الشايع بذلك لكثرة استعماله، أي لشيوعه نتيجة حصول الفائدة الواضحة منه، بخلاف الحمل الأوّل.
وعليه فإذا حملنا البياض على نفسه وقلنا: البياض أبيض، فالحمل هنا حملٌ أوّليّ لأنّنا حملنا البياض على نفسه لا على شيء آخر، فالأبيضيّة هنا ليست شيئاً آخر غير البياض وإنّما هي حقيقة البياض وذاته، كما هو الحال بين زيد ونفسه، فنفس زيد هي زيد نفسه، وإذا كان الأمر كذلك فعندئذ لا يصحّ أن نقول لماذا صار البياض أبيض، لأنّ البياض لم يكن قبل الأبيضيّة شيئاً آخر لنسأل عنه، فلا توجد علّة لأبيضيّة البياض غير أبيضيّته نفسها، ومن هنا قالوا باستحالة التفكيك بين الشيء ونفسه؛ لعدم وجود اثنينيّة في المقام ولذا لا يُعلّل، أي لا يُسأل عن علّة أبيضيّة البياض، وهكذا لا يصحّ أن نقول: لماذا صار الماء ماءً، والأرض أرضاً... الخ.
وهذا غير قولنا: لماذا خُلق الماء، وخُلقت الأرض؟ كما هو واضح.
(3) الروم: 30.
(4) فاطر: 43.
(5) إشارة إلى قوله تعالى: (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً)، البقرة: 138.
(6) الميزان في تفسير القرآن، للسيّد العلاّمة محمّد حسين الطباطبائي، نشر مؤسّسة إسماعيليان، قم: ج5 ص338.
(7) الكافي، مصدر سابق: ج2 ص137 باب ذمّ الدنيا، ح 24.
(8) كلمة مركّبة من الوقوف ونفيه، وتعني عدم التوقّف عند حدٍّ معيّن.
(9) البقرة: 165.
(10) الإسراء: 110.
(11) وهذا القصد ينافي الإخلاص الذي هو شرط في النيّة لنفي الأغيار، فالإخلاص هو (خلوّ القلب والنفس عند العمل من كلّ مقصد سوى المقصد الإلهي وتحصيل رضا الله سبحانه) انظر: فقه الأخلاق للسيّد محمّد الصدر رحمه الله ، الناشر أنوار الهدى، الطبعة الأولى، قم: ص47.
(12) لأنّ الرياء ليس من الشرك في العبادة وإنّما هو من الشرك في الطاعة. انظر: فقه الأخلاق، مصدر سابق: ص41.
(13) ميزان الحكمة، مصدر سابق: ج2 ص1019 ح6798.
(14) المصدر السابق: ج2، ص1019، ح6799.
(15) الأحزاب: 4.
(16) الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، قم: ج11 ص175ـ 176.
(17) المصدر السابق: ج11 ص178.
(18) بحار الأنوار مصدر سابق: ج67 ص25 ح27.
(19) إحياء علوم الدِّين لأبي حامد الغزالي، نشر دار المعرفة، بيروت: ج 1، ص 232؛ بحار الأنوار، مصدر سابق: ج70 ص59.
(20) النور: 40.
(21) بحار الأنوار, مصدر سابق: ج55 ص39.
(22) المصدر السابق: ج55 ص39.
(23) الأعراف: 54.
(24) الشعراء: 89.
(25) أصول الكافي, مصدر سابق: ج2 ص16.
(26) ميزان الحكمة، مصدر سابق: ج3 ص2602 رقم الحديث: 16929.
(27) إشارة إلى قوله تعالى: {أمْ يَدُسُّهُ في التُّراب}. النحل: 59.
(28) ميزان الحكمة, مصدر سابق: ج3، ص2603، ح16931.
(29) أمالي الصدوق، لأبي جعفر محمّد بن علي المعروف بالشيخ الصدوق، نشر مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الخامسة، بيروت: ص395.
(30) من لا يحضره الفقيه, مصدر سابق: ج1 ص379 ح1109.
(31) الحجّ: 46.
(32) تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضمّ للسيّد حيدر الآملي، تقديم وتحقيق وتعليق السيّد محسن الموسوي التبريزي، نشر المعهد الثقافي نور على نور، الطبعة الأولى، قم:= = ج1ص272.
(33) الإنسان: 21.
(34) عن الإمام الصادقعليه السلام أنّه قال في ذيل آية (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً): (يُطهّرهم عن كلّ شيء سوى الله). انظر: تفسير الصافي للفيض الكاشاني منشورات الأعلمي، 1982م، بيروت: ج5 ص165.
(35) عن الإمام الصادقعليه السلام أنّه قال: (العباد ثلاثة: قومٌ عبدوا الله عزّ وجلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقومٌ عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء، وقومٌ عبدوا الله حبّاً فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة). انظر: أصول الكافي، مصدر سابق: ج2، ص84، كتاب الإيمان والكفر، باب العبادة.
(36) الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق: ج11 ص176ـ 177.