المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأستبدال والأستخلاف في القرآن


بلسم
20-01-2012, 01:15 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ (61) الواقعة
فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) المائدة
هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) محمد
إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) التوبة
إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) آل عمران

هذه الايات الخاصة بالأستبدال , والأستبدال حقيقة قرآنية وعقوبة يعاقب بها الذين يأخذون على عاتقهم تطبيق أوامر الله ونصرة دينه ثم يتقاعصون ويتكاسلون .
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و الترمذي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبراني في الأوسط و البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: تلا رسول الله هذه الآية: «و إن تتولوا يستبدل قوما غيركم - ثم لا يكونوا أمثالكم» فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا؟ فضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على منكب سلمان ثم قال: هذا و قومه، و الذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس.
و في المجمع، و روى أبو بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن تتولوا» يا معشر العرب «يستبدل قوما غيركم» يعني الموالي.

و فيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قد و الله أبدل خيرا منهم الموالي.

يقول صاحب الميزان :
قوله تعالى: «إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما و يستبدل قوما غيركم» إلى آخر الآية العذاب الذي أنذروا به مطلق غير مقيد فلا وجه لتخصيصه بعذاب الآخرة بل هو على إبهامه، و ربما أيد السياق كون المراد به عذاب الدنيا أو عذاب الدنيا و الآخرة جميعا.

و قوله: «يستبدل قوما غيركم» أي يستبدل بكم قوما غيركم لا يتثاقلون في امتثال أوامر الله و النفر في سبيل الله إذا قيل لهم: انفروا، و الدليل على هذا المعنى قرينة المقام.

و قوله: «و لا تضروه شيئا» إشارة إلى هوان أمرهم على الله سبحانه لو أراد أن يذهب بهم و يأتي بآخرين فإن الله لا ينتفع بهم بل نفعهم لأنفسهم فضررهم على أنفسهم، و قوله: «و الله على كل شيء قدير» تعليل لقوله: «يعذبكم عذابا أليما و يستبدل قوما غيركم».
أقول: و روي بطرق أخر عن أبي هريرة: مثله. و كذا عن ابن مردويه عن جابر: مثله.

الاستبدال وعلاقته بالاستخلاف

المفهوم اللغوي للاستبدال:
جاء في مفردات الراغب الأصفهاني: ((الاستبدال جعل الشيء مكان آخر وهو أعم من العوض، فإنّ العوض هو أنْ يصير لك الثاني بإعطاء الأول، والتبديل قد يُقال: للتغيير مطلقاً وإنْ لم يأتِ ببدله))().


وقد اتبعنا في هذا البحث المنهج الموضوعي الذي أرسى دعائمه وأشاد أركانه السيد الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره.
وقد حاولنا في مطاوي هذا البحث إثبات فرضيته القائلة: بأن رعاية شروط الاستخلاف الإلهي من قبل الأمة الإسلامية (قادة وجماهير) سوف يجعلها تقود عملية الاستخلاف الإلهي على يد القائد الموعود الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف.
وإن إهمال رعاية هذه الشروط، سوف يؤخر عملية الاستخلاف طبقاً إلى سنة الاستبدال التاريخية، وبمقتضى نص الآية الكريمة: ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ))()، إلى أن تعود الأمة الإسلامية إلى استلام مهمة الاستخلاف وقيادتها في الأرض مرة أخرى

ويمكن الكلام حول الأستبدال وفق ثلاث محاور .
المحور الاول
المفهوم الاصطلاحي للاستبدال:
يعني تلك السنة التاريخية في القرآن الكريم التي تجري على البشر (أفراداً وجماعات)، والتي يُعهد لها رعاية التكليف الإلهي بالخلافة في الأرض طبقا إلى الآية الكريمة: ((إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً))()، بوصفه أمانةٌ ربانية() حملها الإنسان بحسب استعداده التكويني.
فإذا فشل الإنسان في رعاية هذا التكليف - الأمانة - ولم يكن بمستوى المسؤولية المعهودة إليه، فانه سوف يستبدل بغيره لكي يأخذ دوره هو الآخر في رعاية التكليف، وهذا الأمر ينطبق على الفرد أو الجماعة (القوم أو الملأ) بحسب التعبير القرآني.
أما علاقة الاستبدال - بوصفه قانونا ربانيا - بالاستخلاف في الأرض، فهي علاقة عضويّة مترابطة وبحسب تنجيز مقومات وشرائط الاستخلاف، لكننا في البداية نود التعرّض بإيجاز إلى موضوع الاستخلاف في الأرض فقد جاء في القرآن الكريم، أن الله سبحانه وتعالى اختار الإنسان خليفة له في الأرض، بحسب ما جاء في الآية المباركة: ((إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)) الأمر الذي جعل الملائكة يتساءلون عن سر وطبيعة هذا المستخلف، قال تعالى: ((قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ))().
ثم قام الخالق جل شأنه بتعليم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة قائلا لهم: ((فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ))()، الأمر الذي لم تستطع الملائكة الإجابة بأسماء هذه الموجودات الشريفة المعروضة عليهم. فأمر الله سبحانه آدم بإنباءِ الملائكة بأسماء هؤلاء الذين علمهم إياه، والتعليم الإلهي تعليم لدنّي، كما جاء بقصة العبد الصالح الخضر عليه السلام مع موسى عليه السلام().
فقام آدم عليه السلام بإخبار وإنباء الملائكة بأسماء هذه الوجودات العاقلة التي أشار إليهم رب العزة بـ [هؤلاء] وهي صفة جمع للوجودات العاقلة كما هو معروف في اللغة.
ولا نريد التعرض لبقية الموضوع إلا بقدر تعلقه بأمر الاستخلاف، فالمستخَلف الذي يقبل الأمانة الربانية، عليه التصرف وفق الأوامر والتشريعات الإلهية لتحقيق المراد الإلهي من الاستخلاف، والا سوف يُستبدل بغيره وفق مقتضيات سنة الاستبدال.
ولا نقصد بالمستَخلف فردا أو جماعة أو أمة بل جميعهم بحسب نوع التكليف الإلهي.
ولا بد لنا أن نشير إلى أن المستَخلف - إذا كان فردا - هو نتاج تأريخي لحركة الأمة أو الشعب، فإذا كانت هذه الحركة مستجيبة للأوامر الإلهية ولو بالحد الأدنى وبوجود الاستعداد المناسب لقبول النبي أو المصلح كذلك، فأنها ستفرز نبيا أو وصيا ربانيا، أما إذا كانت حركتها الوجودية سلبية فإنها ستفرز طاغية أو فرعوناً أو جماعة مجرمة تقوم بإهلاك الحرث والنسل وإشاعة الخراب والفساد والظلم.
وكلما ساند (الملأ) الطاغية أو الفرعون وأيدوه وقبلوا بأعماله فإنّه سيصل إلى إدعاء الربوبية أما صراحة أو ضمنا.
وبالمقابل فالفرعون أو الطاغية سوف يرسم لملأه وشعبه مفردات حياته, قال تعالى في موقف فرعون من موسى: ((وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ))(). ويقوم هذا المنحرف بتشجيع ملأه على ممارسة الانحراف والإيغال فيه وتصوير ذلك بأنه الطريقة المثلى في الحياة، فيزداد الجميع إنحرافاً عن الصراط المستقيم، إلى أن يصل الجميع إلى الدرجة التي لا ينفع معهم الإصلاح، فينزل عليهم العذاب وتحل بدارهم قارعة تفنيهم وتستأصلهم من على وجه الأرض!
أما النبي أو الوصي أو القائد الرباني فيقوم بتعليم الناس العلم والحكمة ويطهرهم ويزكيهم ((وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ))() ويرفع درجتهم إلى مستويات أفضل ويوصلهم إلى الغاية المطلوبة ربانيا لهم.
نستخلص مما تقدم نتيجة مهمة وهي أن عدم رعاية المستخلَفْ سواء كان فرداً أم جماعة لمقتضيات ولوازم التكليف الاستخلافي وفق المراد الإلهي، يؤدي إلى استبداله وفق سنة الاستبدال التاريخية، وهنا لا بد من التعرف على بعض خصائص هذه السنة الإلهية.
أنها قانون دقيق ترتبط فيها الأسباب والمسببات بالنتائج، وفق سقف زمني معين يتناسب طرديا مع عدم رعاية شروط الاستخلاف الإلهي.
إن هذه السنة مطردة, أي أنها لا تقبل التخلف عن لوازمها ولا تقبل التحويل أو التبدل بتبدل المكان والزمان().
لا مكان للصدفة أو العشوائية فيها فهي دقيقة محكمة.
إنّها متحركة سيّالة وحيّة وليست جامدة، وبعبارة أوضح, أنها مرتبطة بحركة الإنسان (الفرد، والجماعة، الأمة) وإرادته واختياره() , فقد جعل الله سبحانه هذه السنة التاريخية مرتبطة بالواقع الإنساني غير منفصلة عنه، وبعبارة أخرى يمكن القول: بأن الإنسان أو الإنسانية، هو الذي يصنع قدره بنفسه وباختياره من خلال القدرة الإبداعية التي يتوفر عليها في دوره المتميز الذي منحه الله سبحانه للأنسان بوصفه خليفة في الأرض إذ أن الموجودات الأخرى لا تستطيع تكوينا حمل هذه الأمانة الربانية.
وطبقا إلى دور الإنسان الاستخلافي، فهو يتحمل مسؤولية تنجيز هذه الخلافة المقدسة في الساحة الاجتماعية من خلال نشاطه وحركته الوجودية.
فحركة الإنسان التاريخية تعكس فعليته الحركية في عالم الوجود ضمن القوانين الإلهية، وقد أشار القرآن الكريم للإنسان بضرورة الاستفادة من تجارب الإنسان السابقة، قال تعالى: ((قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ))().
إن الاستفادة من الدروس التاريخية لحركة الأفراد والأمم تمثل خزيناً معرفيا يتزود منه الإنسان المستَخلف في تجربته الاستخلافية، وهذا الخزين المعرفي يعطيه الإمكانية اللازمة لفهم حركة وطبيعة السنن التي تتحكم بالوجود لكي يسير على ضوئها ولا يخرج عن حدودها أو يتحداها، حتى يصل إلى تحقيق غايته من الاستخلاف.
وهنا لا بد من الإشارة إلى موضوع تحدي الإنسان/ الإنسانية الممثلة بالأمة أو القوم أو (القرن) بحسب التعبير القرآني للسنن الإلهية، فهي تقبل التحدي لفترة زمنية محددة()، وهي بهذا المنظار لا تمثل قانوناً صارماً لا يقبل التحدّي لأنها ببساطة ترتبط بحركة الإنسان أو الأمة ضمن مرحلة تاريخية معينة.
وبناءً على ما تقدم يمكننا استجلاء قانون التحدي للسنن التاريخية ضمن المعادلة الآتية وهي: (كلما زاد التحدي قوةً وتطرفاً ضد القانون التكويني المرتبط بالقانون التشريعي الإلهي الذي يتحكم بالوجود الإنساني، كلما كان الرّد سريعاً وماحقاً من قبل السنن الإلهية ضد التحدي، فينهيه ويزيله من الوجود).
لنضرب على ذلك بعض الأمثلة والشواهد للتدليل على صحة القاعدة أعلاه:
سرعة تدمير قوم لوط كونهم تحدّوا بشدة القوانين التكوينيّة عامدين.. قال تعالى: ((كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلاَ تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ، قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمُخْرَجِينَ، قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنْ الْقَالِينَ، رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ، فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ، ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ، وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ))().
تحدي قوم نوح البطيء نسبيا للسنن التكوينية والتشريعية حيث لبث فيهم نوحاً ألف سنة إلا خمسين عام، وهذه مدة طويلة نسبيا قياسا إلى ما سبق من سرعة عقاب. قوم لوط، وإنْ كان اليوم عند الله سبحانه كألف سنة مما نعد().
وأعتقد أن تحديهم كان تحديا متوسط التطرف ضد السنن الإلهية بحيث جاءهما الطوفان بعد ألف سنة تقريبا من العصيان والتحدي.
ويمكن لنا أن نأخذ شاهدا معاصرا لنا من التجربة الماركسية اللينيّنية، فقد تحدت الماركسية القوانين الطبيعية والإنسانية بقوة وبشكل متطرف، وقد شهدنا بـأم أعيننا سقوط هذه التجربة الإنسانية الوضعيّة الظالمة دفعة واحدة عام 1991م وبعد سبعين عاما من قيامها في الاتحاد السوفيتي السابق. وبناءً على ما تقدم يمكننا أن نفهم سرّ بقاء اللبرالية الرأسمالية لمدة زادت على قرنين من الزمان كونها كانت أقل تحدّياً من الماركسية للقوانين والسنن المتحكمة في المجتمعات الإنسانية.
لكن هذا لا يستدعي إلى الذهن إستمرارها لفترة طويلة، لكونها حركة ظالمة وسلبية لا تتوافق مع شروط الاستخلاف الإلهي.
وسوف لن يمر وقت طويل إلا ونرى سقوطها المدويّ على يد عباد الله المؤمنين بقيادة القائد الرباني الموعود الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف. ويمكن لنا أن نرجع أسباب انهيارها وسقوطها إلى سببين رئيسيين هما:
1- سبب داخلي، يمكن في ضعف وهشاشة البناء الأخلاقي والعقائدي والفلسفي لهذه الحضارة الوضعيّة.
2- سبب خارجي: وهو المتمثل بأصحاب الحضارة الإلهية والمتمسكين بحبل الله والسالكين للصراط المستقيم المأمورين إلهياً بإتباعه في الحياة الدنيا، هؤلاء هم الذين ينهون ويسقطون هذه الحضارة الظالمة().
إن إقامة حدود الله تعالى وسلوك طريق المحجّة البيضاء يتناغم تماماً مع السنن التاريخية، ويؤدي إلى تحقيق الغاية من الاستخلاف في الأرض.

المحور الثاني
المراحل التاريخية الحركية لسنـّة الاستبدال ولوازمها
يمكن لنا أن نبين المراحل التاريخية المتسمة بالطابع الحركي في سنة الاستبدال الاستخلافية، بحسب ما جاء في القرآن الكريم وهذه المراحل نستطيع بيانها بحسب الآتي:

المرحلة الأولى:
جعل الله سبحانه الإنسان خليفة في الأرض()، وقبول الإنسان لهذه الأمانة - الخلافة() بحسب استعداده وتكوينه المتميز عن باقي الوجودات الأخرى، وهذه الخلافة - الأمانة - لها ثلاثة أركان:
الركن الأول: هي نفس هذه الأمانة التي يجب حفظها والوفاء بها، والمراد بها التكليف الإلهي باتباع الأوامر والتشريعات الإلهية.
الركن الثاني: صاحب الأمانة وهو الله سبحانه، الخالق والمشرّع، ولذا أضافها إلى نفسه في قوله: ((إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ))().
الركن الثالث: الأمين المؤتمن، وهو الإنسان كونه المخلوق الوحيد الذي تتوافر فيه شروط المسؤولية كالعقل والحريّة والقدرة على التصرّف قبضاًَ وحرصاً ووفاءً، ولذا وضعها سبحانه عند الإنسان دون سواه().
ومن خصائص هذا التكليف الاستخلافي الأساس هو إتاحته للجميع بلا استثناء وهو يمثل في هذا الوجه أحد مظاهر عدل الله سبحانه في الوجود.
وكذلك فقد سخّر الله سبحانه الموجودات كلها للإنسان المستخلف() وأعطاه الله سبحانه جميع الإمكانات والقابليات المطلوبة لعملية الاستخلاف ونجاحها وطلب منه أنْ يقوم بالقسط والرحمة وأنْ يعكس صفات الله في الوجود وأنزل التشريعات الملائمة والمنجزة للاستخلاف وأوصاه باتباعها().

المرحلة الثانية:
حصول الانحراف عن الشريعة الإلهية - المتوافقة مع الفطرة والموصلة إلى إنجاح عملية الاستخلاف - وذلك باتباع الشهوات, وهوى النفس الأمّارة بالسوء، وبذلك اصطبغ الاستخلاف بالطابع السلبي()، فكثرت المآسي وجرت أنهار الدماء والدموع وساد الظلم والطغيان المسيرة التاريخية للإنسان.

المرحلة الثالثة:
إرسال الأنبياء مبشرين ومنذرين وهادين ومبينين للسبل الصحيحة إلى الله تعالى وقد أقام هؤلاء الرسل والأنبياء والأوصياء الحجة على الناس بعد البلاغ المبين، وحاولوا إقامة النموذج الإلهي الاستخلافي, وقد نجح البعض منهم كما في دولة النبي سليمان عليه السلام, فيما فشل البعض الآخر بسبب انحراف أممهم الشديد، هذه الأمم والأقوام الباغية لم تكتف بتكذيب الرسل والأنبياء والقادة الربانيين بل حاربوهم واضطهدوهم وقتلوهم في كثير من الأحيان()، فاستدعى ذلك نزول العذاب والدمار في هؤلاء البغاة واستأصالهم من على ظهر الأرض().

المرحلة الرابعة:
جرت على تلك الأقوام سُنّة الاستبدال لأنها لم تقوم برعاية التكليف الإلهي الاستخلافي في الأرض، على الرغم من توفير جميع الأسباب اللازمة لنجاحه, وأعطيت الأمانة الاستخلافية لغير تلك الأقوام وبحسب المراحل التاريخية التي بينها القرآن الكريم والسُنَّة المطهرة للمعصومين عليهم السلام، طبقاً إلى سنّة التداول الاستبدالية.
قال تعالى: ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ))().
وهكذا تستمر سنة الاستبدال بالجريان ما لم يقوم الإنسان (الفرد أو الجماعة) برعاية الأمانة الاستخلافية بحسب الأوامر الإلهية.
أمّا إذا قام الإنسان المستخلف برعاية هذه الأمانة الاستخلافية وتصرف طبق الأوامر والتشريعات الإلهية وركب المحجّة البيضاء وسلك الصراط المستقيم، فأن الله تعالى سيورثه الأرض وما عليها بل() والكون كله، وينزل عليه بركات من السماوات والأرض() بحسب درجة رقيّه وتصاعده في سلم الكمال الوجودي, وبذلك يتحقق الغرض من عملية الخلافة في الأرض وإذا كان يمكن لنا أن نرسم مخططا للمراحل المذكورة أعلاه فيكون كالآتي:


مستلزمات الاستبدال وأنواعه:
لكي تتحقق سنةُّ الاستبدال الإلهية في الأمم أو الأفراد، لا بد من توفر مستلزمات لشرط الاستبدال في ركنيه: الأمة المستبَدلة والأمة المستبِدل بها ومن هذه المستلزمات:
أ- النسبة للأمة المستبَدلة: وهي الأمة التي لم تستطع رعاية التكليف الإلهي بالاستخلاف بسبب عوامل عديدة منها:
وجود الانحراف عن الشريعة ومقاصدها السامية.
استخدام العلم وسيلة للبغي وفرض الهيمنة والاستكبار على الآخرين().
وجود الظلم والجور في الأمة وظهور الفساد().
عصيان الأنبياء والصلحاء من البشر وتكذيبهم واضطهادهم وإيقاع غالبية أفراد الأمة للطاغية أو الفرعون().
كفران النّعم واستبدالها بالأدنى منها().

ب ـ الأمة المستبدِلة:
وهي الأمة التي لم تأخذ فرصتها في رعاية التكليف الإلهي بالاستخلاف في الأرض، وقد تكون هذه الأمة أفضل أو أسوء أو مثل الأمة السابقة، وهذا الأمر ينطبق على الأفراد أيضا.
أما أنواع الاستبدال فهو:
الاستبدال المثلي: أي يستبدل الله تعالى امة أو قوما بأمة مثلها في نشأة أخرى، لتأخذ دورها في رعاية وإنجاز العهد الاستخلافي، قال تعالى: ((نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً))().
وقال تعالى: ((عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ))().
الاستبدال الايجابي (الأفضل): وهو يعني استبدال امة (قوم، فرد، جماعة)، بأخرى أفضل منها من ناحية الإيمان لكي ترعى التكليف.
قال تعالى: ((فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ))().
الاستبدال الغيري: أي يستبدل الله تعالى (امة، جماعة، فردا) بغيرهم وهنا لم تحدد الآيات القرآنية مستوى أو درجة التفاضل للأمة المستبدلة، قال تعالى: ((وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ))().
اما الاستبدال السلبي فهو: استبدال يدخل في نطاق الاستبدال الغيري وسرّه يكمن في توفير الفرصة للمستبدل به لئلا يكون لأحد على الله من حجة, ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيَّ عن بينة وما الله بظلام للعبيد.
أما ما يتعلق بلوازم الاستبدال فهي:
أ ـ وجود (النظرية) عند المستبدل به والتي على ضوئها يقوم برعاية وتطبيق الاستخلاف.
ب ـ وجود القيادة المؤمنة (بالنظرية) وتوفر الإرادة الكافية عندها.
جـ ـ وجود الشعب (الملأ، القوم) المؤيدين للقيادة والقابلين بالنظرية. وهذه الشروط تنطبق على الاتجاه المادي الوضعي والاتجاه الإلهي على حد سواء.

المحور الثالث
بنو إسرائيل أنموذجاً للاستبدال
عانى بنو إسرائيل الكثير من الأذى والاضطهاد والقتل والتنكيل كون معظمهم قد اتبّعوا موسى عليه السلام في بداية دعوته، وقد أشار لهذا الأمر القرآن الكريم بقوله تعالى: ((قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ))().
وقد تحققت نبوءة موسى عليه السلام عندما أهلك الله سبحانه الطاغية فرعون وملأه وأورث الله تعالى بني إسرائيل أرضهم وديارهم وأموالهم وأستخلفهم في الأرض، ليرى الله تعالى كيف تكون رعاية اليهود للأمانة الاستخلافية.
وبنو إسرائيل بوصفهم امة متميزة لها خصائص ومزايا أهلتها النهوض بأعتبار الأستخلاف، قال تعالى: ((يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ))()، وبعبارة أخرى فالقرآن الكريم يوضح التفضيل بوصفه النعمة التي أنعمها الله تعالى على بني اسرائيل، وباعتبار أن الله سبحانه وتعالى لا يفضل قوم على قوم إلا بوجود أسباب قوية لهذا التفضيل وإلا كان هذا التفضيل عبثاً وحاشا لله تعالى من ذلك.
وقد أعطاهم البارئ سبحانه من الطيبات والرزق والمنزلة العلمية وسخّر لهم الموجودات ووفر لهم كل مستلزمات إنجاز التكليف الاستخلافي، قال تعالى: ((وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ))(). لكنهم انحرفوا عن المسار الإلهي في إنجاز ورعاية الاستخلاف، فذكرهم الله سبحانه عن طريق الأنبياء والأوصياء والصلحاء بوجوب رعاية الأمانة والعهد، قال تعالى: ((يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ))().

وعلى الرغم من البيان الإلهي الواضح لهم والتأكيد الربّاني بضرورة الإيفاء بالعهد وإنجاز التكليف الذي تهاونوا في رعايته، بل وقاموا بما يعاكس التشريع الإلهي وكفروا بأنعم الله وآياته()، وقتلوا الأنبياء بعد أن كذبوهم()، وخانوا الميثاق الإلهي()، وآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه()، وقست قلوبهم على بعضهم وعلى الآخرين فهي كالحجارة أو أشد قسوة()، وسعوا لنشر الفساد في الأرض()، وعادوا الله وملائكته()، وعملوا المنكرات()، وحرفوا الكتاب المقدس()، وكذبوا على الله()، واستخدموا العلم بغيا بينهم()، فضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله تعالى()، فاستبدلهم الله بالنصارى بقيادة المسيح بن مريم بوصفهم الحركة التصحيحية لليهوديّة التي حرّفها الأحبار وحكّام اليهود، أي جرت عليهم سنة الاستبدال التاريخية، جريا على قواعدها، قال تعالى: ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ))().
وقد جاء عيسى عليه السلام نبيا ومصلحا لما أفسدته أيادي اليهود وما عمله أحبارهم من تحريف للشريعة الإلهية، وهكذا وُلِدَتْ الديانة المسيحية بين الأمة اليهوديّة أولاً وبقيّة الأمم ثانياً لتنهض بأعباء الاستخلاف الربّاني.
لكن اليهود حاربوه وألبوا عليه الحاكم الروماني ضده وشهدوا عليه زوراً، وتآمروا على قتله، فرفعه الله تعالى إليه.
وكان المسيح عليه السلام يمثل حلقة وسطى بين ديانتين سماويتين هما اليهودية والإسلام وقد جرت سنة الاستبدال على النصارى كذلك لفشلهم في رعاية التكليف وإشراكهم بالله تعالى فاستبدلهم الله سبحانه بالمسلمين.
وقد بَيّن الخالق الرحيم بعباده للأمة الإسلامية بشكل واضح وضعها كأمة وسط في قيمها وسلوكها وصفاتها، قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً))().
فالأمة الوسطى في سلوكها العبادي والمعاملاتي تتحرك بين حدي الإفراط والتفريط ولا تتعداهما، لتستطيع أن تكون أمة شاهدة على جميع الناس برعايتها وتنجيزها للتكليف الإلهي، ولتشرف على تطبيقه بين الأمم ويكون الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم شاهدا ومراقبا وموجها وهاديا لهذه الأمة الوسط.
لكن لهذا التكليف شروطه ومستلزماته التي ينبغي توفرها في الأمة قال تعالى: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ))().
فبهذه المواصفات التي حددها البارئ سبحانه، يمكن للأمة أن تكون خير أمة، أمة وسطى تستطيع رعاية الأمانة الاستخلافية وتنجيزها في الأرض وإقامة حدود الله وتطبيق شريعته السمحاء()، ويظهر الدين الإسلامي على الدين كله ولو كره الكافرون().
وهنا يثور سؤال أمامنا وهو: هل نجحت الأمة الإسلامية في رعاية التكليف ووراثة الأرض وخلافتها؟
والجواب: بالطبع كلا، فقد فشلت الأمة المسلمة في رعاية التكليف الاستخلافي لأنه لو كان عكس ذلك، لظهر الدين الإسلامي على جميع الأديان والنظم الوضعية السابقة واللاحقة, وهذا ما لم يتحقق في الساحة التاريخية منذ وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والى يومنا هذا!.
ولو تحقق لساد العدل والقسط بين الناس ولشاعت الرحمة والحب بين الأمم والشعوب ولوصلت الإنسانية إلى مرحلة الرشد والحكمة ولأنزل الله تعالى بركاته من السماوات والأرض على الأرض، لكن هذا كله لم يحصل لأسباب كثيرة أهمها:
ابتعاد معظم أبناء الأمة الإسلامية عن الشريعة السمحاء.
إتباع معظم المسلمين هوى النفس الأمارة بالسوء وإيثار الحياة الدنيا على الآخرة.
وقد تمثل هذا الأمر بصورة قوية وواضحة عند أولياء الظلم والطغيان (والناس على دين ملوكهم) كما يقول المثل المشهور، وقد توسل هؤلاء الطغاة لتحقيق مطامعهم عن طريق أتباع أسلوبين متميزين:
الأسلوب الأول: استخدام القوة الغاشمة ضد مخالفيهم، وعدم مراعاة حدود الله تعالى في الأموال والأنفس وبقية الحرمات.
الأسلوب الثاني: ولكي يبرروا تلك الأعمال المخالفة للشريعة السمحاء ومقاصدها النبيلة فقد لجأوا إلى التأويل والتلاعب بالأحكام الشرعية وتوظيفها لخدمة عروشهم وسلطانهم، فاستخدموا لتحقيق هذا الغرض علماء السوء والمرتزقة من "رجال الدين" ووعاظ السلاطين، فقام هؤلاء الجناة بوظيفتهم بشكل جيد، فأوجدوا أحكاماً وعقائد وآراء ما أنزل الله بها من سلطان خدمة لسادتهم وكبرائهم ولإقناع الجماهير المظلومة بأعمال وتصرفات هؤلاء الطغاة، بل وأوجدوا وابتدعوا سنة الدعوة بالنصر والتمكين لهؤلاء الطغاة.
ولهذا فقد انحرفت الأمة الإسلامية بأغلب أفرادها عن الصراط المستقيم، فجرتْ عليها سنة الاستبدال بالأمة الغربية فاستعمرت بلادهم ونهبت ثرواتهم وقسمت بلادهم ومزقتهم شر تمزيق.
وهذا درس تاريخي - لكنه قاسٍ جداً - للأمة الإسلامية لكي تعود إلى رشدها وتتمسك بدينها حتى تعود إليها الأمانة الاستخلافية مرة أخرى.
قال تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً))().
وهذا وعد الهي والله لا يخلف الميعاد لعباده بوراثة الأرض وخلافتها(). ثمة نقطة مهمة ينبغي الإلماع إليها في هذا الصدد، وهي أن سنة الاستبدال التي تحصل للأفراد والأمم إنما ترتبط بشرائط ومستلزمات إذا توفرت عند أية أمة (حتى لو جرت عليها سنة الاستبدال سابقا)، فسوف تتحقق فيها هذه السنّة التاريخية، وهذا الأمر يبيّن العدل الإلهي بإتاحة الفرصة للجميع وبحسب القواعد والشروط التي بينها الله سبحانه في كتابه الكريم, وكذا ما جاء عن الرسول الأعظم وأهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم.

الخاتمة:
في ختام هذا البحث عن سنة الاستبدال، لا بد لنا من معرفة أهم النقاط المستنتجة من خلال مطاوي البحث وهي باختصار:
إن سنة الاستبدال التأريخية هي إحدى السنن الإلهية التي تجري على الأمم والأفراد، وتعد المصاديق على طول الساحة التاريخية الإنسانية.
ان رعاية مستلزمات وقواعد هذه السنة وبحسب الأوامر والنواهي الإلهية الواردة في الشريعة الغراء يكفل للأمة حصولها على مرضاة الله في تنجيزها للتكليف الاستخلافي وتحقيق الغاية من قوله تعالى: ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً))(). وبالعكس فإنه إهمال تلك الشروط الإلهية كفيل بحصول النتائج السلبية.
إن الأساس الذي قامت عليه سنة الاستبدال هو رعاية التكليف الإلهي من قبل جميع الشعوب والأمم والأفراد بأخذ دورهم الاستخلافي، وإن الوعي بهذه النقطة المهمة والعمل بموجب لوازمها الموضوعية كفيل بتسريع زمن ظهور قائم آل محمد ليملأ الأرض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا، ولينجز التكليف الإلهي بحسب المراد الإلهي ويكون بحق المصداق الحقيقي والنهائي للإنسان الخليفة.
والحمد لله رب العالمين