يتميز الدين الإسلامي بالأخلاق التي تجعل من الإنسان كائناً مُجتمعياً يفعل الخيرات ويحض على ترك المُنكرات، وذلك دون المساس بالقيم الكُلية الثابتة في القرآن والتي تجعل من فعل الخيرات والحض على ترك المُنكرات بطُرق التذكير والتبيين والإيضاح لا بُطرق الأمر والقهر والجبر ..يقول الله تعالى.."فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر"..وقوله تعالى.."لا إكراه في الدين"..وأنى لرسول الله السيطرة على الناس أو إكراههم على أمر يرفضونه؟.. فقد خلق الله قلوب الناس بين يدي رحمته فيهدي من يشاء ويَعز من يشاء ويُضل من يشاء، فلو كانت السيطرة على الناس لغير الله لكان للُرسل تلك المنزلة الرفيعة تكريماً وصوناً لهم من دهماء الناس، بل وجدنا الخطاب القرآني يُوضح مهمة الإنسان في الدعوة وأنها لغرض التبيين فحسب.. كما في قوله تعالى.."وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزّل إليهم ولعلهم يتفكرون"...وفي ختام الآية بالتفكر عِظة بأن التبيان مع التفكر سيخلق في الأذهان أفهاماً مختلفة يجب الحرص على تنوعها.
بل ولا يهتم الإسلام بالأفعال التعبدية أكثر من اهتمامه بالأفعال المُجتمعية، فالدين الإسلامي هو دين اجتماعي في المقام الأول، وطُرق معالجته للمشكلات تبدأ من المجتمع وطريقة إنتاجه بعيداً عن التحزب والتشتت، وعندما نقول أن الدين هو اجتماعي في المقام الأول فلابد وأن نستذكر دور النصيحة، هذه النصيحة التي أراها هي الإسقاط العملي لفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، لا المقصود هذا المنطق الوصائي الذي يجعل الإنسان منا قاضياً وحاكماً على غيره أو مُقيد لحرياته، فالمرء منا يستحيل أن تصدر منه أفعالاً إيجابية على الدوام، ومعنى وجود هذا المنطق الوصائي يعني أن هناك طرفاً سيقضي على غيره ولا يقبل هذا الأمر على نفسه.. مما يفتح مجالاً للفتنة يخصب يوماً بعد يوم بزلقات اللسان وحظوظ النفس وحب الانتقام.
معنى أن الدين هو دين اجتماعي يعني أهمية وجود خُلق التواضع أو مرادفاته من الإيثار والكَرَم والزُهد وغيرها..قال تعالى.."ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة"..وقال أيضاً.."ومن يوق شُحّ نفسه"..فلكي يتناغم الإنسان مع نفسه وتصدر منه أفعالاً إيجابية لابد من المزج بين أخلاق.."التواضع والإيثار والكَرَم والزُهد"..كبداية للتوفيق بين الأخلاق والرأي..وبهذه السيمفونية البديعة يخرج لنا مثالاً للإنسان الملتزم هو جامعٌ لخصال الحُكماء والمُصلحين، هذا الإنسان هو عماد المجتمع الناهض..ومع ذلك نُسلّم بأن سلبيات ذلك الإنسان-الضرورية-لن تُشكل عائقاً لتواصل المجتمع إذا ما تم توظيفها لصالح ديناميكية المجتمع، بمعنى أن هذه السلبيات في حقيقتها تُعطي الحق بالخلاف للآخر، وأن الشاهد ليس في صلاح الإنسان وحكمته، بل في قابلية أفكاره وسلوكياته لترسيخ العدل -وما يتفرع منه من مفاهيم- لا تستثني فصيلاً ما أو إنسانا أياً كان هو أو مقدار معلوماته.
التناصح يعني نصيحة من يفهمون النصيحة أولاً، ويبدأ هذا العمل من العلماء أنفسهم..إذ الناس في عمومهم تابعون لهم، وبفساد العلماء يفسد العامة، ومعنى أن النصيحة واجبة للعلماء وعليهم.. معنى هذا أنهم ليسوا وحدهم في مضمار العلم والفهم،فلربما اتبع فريقاً منهم هواه أو حِزبه أو مذهبه، أو وقفوا على أمرٍ لم يُحيطوا به علما، حتى أنه رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه -حين استبرأ لنفسه من الحق المُطلق- حيث قال.."إن يكن صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان"..فهكذا هم الصحابة والرسول بين ظهرانيهم، فما بالنا وقد اكتوت منا الأرض تعصباً وفُرقةً وضلالاً عن منهج الحق؟!...حينها وَجَب علينا الاعتراف بالتقصير أو بالقصور فما أحوجنا الآن لمجتمع متناغم يعمل في الأصل على تجنب اعتقاد الحق المُطلق كبداية للتفاهم.
إن أوضاعنا تلك بحاجة لإعادة تقييم ذاتية تغرس فينا خُلق السلام والمحبة من جديد..قال تعالى.."وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله"..هذا ما للأعداء وهم أعلى مراتب الخصومة.. فلننزل قليلاً إلى الفئة الأقل حيث يقول الله تعالى.."وإذا حُييتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردوها"..وكأن الله تعالى أراد أن يغرس فينا خُلق السلام لحماية المجتمع من التشتت والانحراف، ولما لا وقد حض رسول الله على إفشاء السلام لبلوغ وشيوع الحُبّ في المجتمع..قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.."أفلا أدلكم على شئٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟..أفشوا السلام بينكم"..فأهمية السلام تبدأ من شيوع الحب والتعاون، ولو أنني أن أعتقد بأن شيوع الحب ربما يأتي لأسباب أو لبواعث عاطفية سرعان ما تنتهي بزوال دوافعها..لذلك تكتمل لدي الفكرة بأن عملية إيجاد مجتمع قوي وناضج تبدأ من ترسيخ القيم الكُلية التي لا غِنى عنها لكل مجتمع ألا وهي.."العدل والمساواة والحرية"..وطُرق إسقاطهم ليست حِكراً على من يعمل بالسياسة،فالدُعاة والعلماء لهم دور كبير لا يقل عن دور السياسيين بل ربما يفوقهم منزلة.