اسباب تشريع الصوم في اليهودية والمسيحية. مصطفى الهادي
تلوح كلمة الصوم في التوراة مرات كثيرة وفي كل مرة يكون الصوم فيها شخصيا من دون وحي ومن دون تعيين عدد معين من الأيام او أي حكم آخر يتعلق بهذه الشعيرة المقدسة التي مارستها كل الأمم . حيث نرى أن اول نص ورد بالصوم في التوراة يتعلق بنبي الله داود الذي اعجب جدا ب (بششبع) زوجة صديقه ووزيره (أوريا الحثي) فأرسله للحرب وامر بوضعه في مقدمة الجيش ليموت وعندما مات نزا داود على زوجة صديقه المغدور وانجب منها طفلا ولكن الله غضب على عمل داود فقرر قتل الطفل الذي سيولد من (بششبع) وعرف نبي الله داود بنوايا الله وقرر أن يخدع الله عن طريق الصوم له وهكذا اعتكف داود وصام (صوما) كما يقول النص : سفر صموئيل الثاني 12: 16 (الرب أيضا قد نقل عنك خطيتك. لا تموت فالابن المولود لك يموت فسأل داود الله من أجل الصبي، وصام داود صوما). ولكننا نرى نبي الله دادود ينقلب على صومه ويفطر عندما سمع ان الطفل مات وأن الله نفذ وعده فقال داود ساخرا : (والآن قد مات، فلماذا أصوم؟). فقام واكل خبزا ثم ذهب إلى (بششبع) واضطجع معها .
وهنا نرى أمرا غريبا جدا ومشينا وهو أن الله قتل الصبي الأول لأنه كان ثمرة زنا دواد بـ (بششبع) ولكننا نرى الله هنا يسمح للطفل الثاني الذي انجبه داود أن يعيش وسمح أن يكون نبيا واطلق عليه إسم (سليمان). سفر صموئيل الثاني 12: 24 (وعزى داود بثشبع، ودخل إليها واضطجع معها فولدت ابنا، فدعا اسمه سليمان، والرب أحبه). حيث نرى أن الله احب سليمان مع انه مثل الطفل الأول ولد من زنا ولا نقول هذا جزافا حيث أننا نرى التوراة نفسها تصف عمل نبي الله داود بأنه مشين : (لماذا احتقرت كلام الرب لتعمل الشر في عينيه؟ قد قتلت أوريا الحثي بالسيف، وأخذت امرأته لك امرأة،هكذا قال الرب: هأنذا أقيم عليك الشر من بيتك، وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن لقريبك، فيضطجع مع نسائك في عين هذه الشمس). وهكذا يقرر الله بأن يقوم اقرباء داود بأغتصاب نسائه في عين الشمس اي امام الناس بسبب ان داود زنا بإمرأة صديقه (اوريا) سرا.
وفي كل هذه الاحوال فإن داود لم يجد شيئا يدفع به غضب الله غير أن يصوم له . وهكذا لم نجد في اليهودية سببا للصيام غير هذا.
وهناك صوم آخر يقوم به اليهود إذا قرروا قتل إنسان وسلب ماله وهم شرّعوا هذا الصيام بأمر امرأة . (إيزابل) التي رأت زوجها (آخاب) حزينا لأنه لم يحصل على ميراثه حقل العنب (كرمة) فقررت قتل أخيه لكي يرث آخاب مزرعة العنب : (فقالت له إيزابل: قم كل خبزا وليطب قلبك. أنا أعطيك كرم نابوت اليزرعيلي). ثم كتبت إيزابل كتابا بإسم زوجها وختمته بختمه من دون علمه امرت كل شيوخ اليهود ان يصوموا ثم كمنوا في رأس شعب الجبل وعندما يقدم (بليعال) يقتلوه : (ثم كتبت رسائل باسم أخآب، إلى جميع الشيوخ وختمتها بخاتمه، وكتبت في الرسائل تقول لهم :نادوا بصوم ــ ففعل ــ رجال مدينته، الشيوخ والأشراف الساكنون في مدينته، كما أرسلت إليهم إيزابل، فأخرجوه خارج المدينة ورجموه بحجارة فمات وأرسلوا إلى إيزابل يقولون: قد رجم نابوت ومات. ولما سمعت إيزابل قالت لأخآب: قم رث كرم نابوت اليزرعيلي الذي أبى أن يعطيك إياه).
فالصيام هنا إنما كان بسبب غدر آخاب بأخيه وغدر ومكر إيزابل لقتل انسان وسلبه ماله. ولا نرى لذلك سببا آخر.
والملاحظ أن اليهود يصومون اصواما لا يقبلها الله حتى أنهم يتسائلون لماذا نصوم كما نقرأ في سفر إشعياء 58: 3 (يقولون: لماذا صمنا ولم تنظر، ذللنا أنفسنا ولم تلاحظ؟ ها إنكم في يوم صومكم تسخرون. ها إنكم للخصومة والنزاع تصومون، ولتضربوا بلكمة الشر. لستم تصومون كما اليوم لتسميع صوتكم في العلاء. أمثل هذا يكون صوم أختاره؟هل تسمي هذا صوما ويوما مقبولا للرب؟). وقد اخبرهم الله بأن صيامهم لم يكن له لأنه لم يأمر به كما نقرأ في سفر زكريا 7: 5 (قل للكهنة : لما صمتم في الشهر الخامس والشهر السابع، وذلك هذه السبعين سنة، فهل صمتم صوما لي أنا؟). فيتبين من هذا النص أن اليهود صاموا سبعين سنة لم يقبله الله منهم لأنه ليس له وإنما هي اصوام من بدعهم.
وهكذا نرى في التوراة أصوام أخرى كلها من بدع الانسان ، واما في الإنجيل فإن الصوم ورد أيضا في هذا الكتاب ولكن بصورة تعكس لنا أن السيد المسيح لم يكن يصوم ولا تلاميذه وهذا ما نراه يلوح في إنجيل متى 9: 14 (حينئذ أتى إليه تلاميذ يوحنا قائلين: لماذا نصوم نحن والفريسيون كثيرا، وأما تلاميذك فلا يصومون؟ تلاميذك يأكلون ويشربون؟). فقد رأى هؤلاء التلاميذ انهم يصومون على الشريعة اليهودية ولكن تلاميذ المسيح (الحواريون) لم يكونوا يصومون ولم يأمرهم المسيح بذلك.(1)
وكذلك رأينا صوما آخر في الإنجيل امر به المسيح عليه السلام وهو الصوم من أجل اخراج الشياطين فقط كما نرى في إنجيل متى 17: 21 (ولما جاءوا تقدم إليه رجل قائلا: يا سيد، ارحم ابني فإنه يصرع ويتألم شديدا، فأجاب يسوع وقال: قدموه إلي ههنا! فانتهره يسوع، فخرج منه الشيطان. فشفي الغلام من تلك الساعة. فقال لهم يسوع وأما هذا الجنس ــ من الشياطين ــ فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم).
وأما بولص الذي تعتبره المسيحية مصدر آخر للتشريع فهو يرى أن الصوم فقط لدفع الشياطين كما نقرأ في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 7: 5 (لكي تتفرغوا للصوم والصلاة، لكي لا يجربكم الشيطان لسبب عدم نزاهتكم. ولكن أقول هذا على سبيل الإذن لا على سبيل الأمر). وبولص هنا لا يخفي نواياه بل يعلنها فيقول بأن هذا الأمر بالصوم إنما هو أمرٌ منه وليس من الله (أقول هذا على سبيل الإذن).
ولكن الصوم الكبير الذي تعلنه المسيحية ولا تعمل به هو أن الشيطان سحب يسوع للبرية فتبعه يسوع لكي يجربه الشيطان هناك ــ ولانعلم لماذا يجربه ــ فصام اربعين يوما ثم جاع وأكل (ثم أصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس. فبعد ما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة ولم يأكل شيئا في تلك الأيام جاع أخيرا).(2) اي ان السيد المسيح صام اربعين يوما ثم فشل في الاختبار والغريب أن السيد المسيح صام أربعين يوما لا يأكل ولا يشرب شيئا ولكننا نرى اتباعه يأكلون ويشربون في صيامهم ولكنهم فقط يصومون عن اللحوم وغيرها من الاشياء الدسمة اما الماء والتدخين وغيرها من ماكولات ومشروبات فهم يشربونها.
في هذه الجولة السريعة عرفنا بأن جميع اصوام اليهود والنصارى اصوام اعتباطية لا اساس تشريعي لها وإنما كانت نتيجة لنزوات الانسان وبدعه ثم دوّنوها على أنها تشريع . (3)
المصادر:
1- وهذا له دلالتان ، إما ان تكون اصوام اليهود كلها باطلة ولذلك لا يصومها السيد المسيح مع التلاميذ ، او ان تشريع الصيام في المسيحية لم ينزل بعد. وكلا الامرين فيهما مغالطات لا يُمكن حجبها ، احدها أن السيد المسيح قال بأنه جاء ليُكمل الناموس ولا ينقض منه حرف واحد ، فإذا كان كذلك فلماذا لم يصم عيسى عليه السلام والصوم موجود في التوراة وبكثرة ؟ فلربما رأى أن التوراة الحالية التي بين يديه لم تكن هي التوراة نفسها التي قال عنها (بأنه لم يأت لينقضها بل ليُتمها). وأن الاصوام التي فيها كلها باطلة ولذلك لم يعترف بالاصوام التي وردت فيها.
2- إنجيل متى 4: 2.
3- أين هذا من تشريع الصوم في الاسلام آيات تُمثل قطعة جميلة متناغمة وضع الله فيها الصوم وكل ما يتعلق به من تشريعات ثم ختمها كلها بقوله تعالى : (يُريدُ اللهُ بكم اليُسر ولا يُريدُبكم العُسر).
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ * أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 187].