انّ كلّ واحد من الموجودات التي تُشاهد في العالم له أصل و علّة يستند في نشأته إلیها، كما انّ التغيّرات و التبدّلات التي تحصل فيها لها عللها هي الاخري.
فلو ضربنا زجاجةً بحجر لانكسرت، و لو أجرينا ماءً في جدول لجري الماء إلی حيث ما أمكن له، و لبلّ النقاط التي يلامسها، حتّي انّ الماء يجري في خُلل الجبال و شقوقها ما وجد إلی ذلك سبيلاً.
و هذا هو أصلٌ عام في النشوء و في التغيّرات المشهودة في موجودات العالم.
تأثير المجالسة فيالإنسان:
كما انّ أخلاق و ملكات و عقائد و روحيّات بني الإنسان ليست مستثناةً من هذا الاصل العام، فقد ثبت بالتجربة انّ معاشرة الابرار تؤثر علی الإنسان، و انّ المعاشرة مع الاشرار تؤثر علیه هي الاخري، و ما أكثر ما حصل أن يصاحب شخصٌ ذو فطرة طيبة و أعمال صالحة أصدقاءَ السوء فتلاشي صفاؤه الباطني، و أظلم قلبه و اختنقت روحه.
و علی العكس من ذلك، فما أكثر ما حصل انّ شخصاً ذا سيرة سيّئة غيرّ اسلوبه و نهجه إثر معاشرته لشخص طيّب، فصلُحت نيّته تدريجاً، وتبعتها أفعالُه فصارت صالحةً حسنة حميدة.
لذا ورد التأكيد كثيراً في التعإلیم الإسلاميّة علی مصاحبة الابرار والمنع من الاُنس بالاشرار و التوادّ معهم، حتي انّ جلسةً واحدة قد تؤثّر علی الانسان و لو أمضاها بالسكوت او المذاكرة، لان تأثير الارواح لا يحتاج إلی مذاكرة، و انّما الارواح المؤتلفة تميل إلی بعضها و تبتادل التأثير مع بعضها.
و من أجل أن يستطيع الإنسان تغيير أخلاقه و صفاته إلی اخلاق وصفات الإنسان الكامل، فانّ علیه أن يعرّف قلبه و روحه علی أصل و علّة الاخلاق و الصفات الحسنة، لتؤثّر تلك المحامد في الإنسان بواسطة الاتّصال. و علیه أن يصل مركز قلبه بمنبع العلم و المعرفة و الحياة، ليحصل منه علی العلم و المعرفة و الحياة قدر سعته و استعداده و قابليّته.
و كما انّ هناك في شبكة المياه في المدن مخ***ً عظيماً للماء متّصل بعدد كبير من البيوت، بحيث يصل إلیها الماء حسب ظروفها و قابليّاتها، فكذلك الامر في علّة و منبع الحياة و المعرفة الذي يجب ان يروي و يُشبع القلوب بواسطة التسليم و الانقياد و الاتباع و الخضوع، بقدر سعة تلك القلوب و ظرفيّتها.
و لهذا الموضوع أمران ضروريّان:
الاول: وجود ذلك الاصل و العلّة، أي مبدأ إفاضة العلم و الحياة.
و الثاني: التسليم و التلقّي و الخضوع؛ ليمكن لتلك العلّة ان تؤدّي وظيفتها، لانّ التسليم له حكم الشروط لتلقّي العلم و المعارف، و معتبر من المقدّمات المُعِدّة.
قلب الإمام مركز إفاضة العلوم:
مبدأ إفاضة العلم هو قلب الامام الذي يفيض ـ بواسطة السيطرة علی ملكوت الموجودات ـ علی كلّ موجود بقدر قابليّته و استعداده: وَ جَعَلْنَـ'هُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [256].
و الهداية بأمر الله هي هداية أفراد البشر عن طريق ملكوتهم ونفوسهم.
و لذا يجب ان يكون فيالعالم و علی الدوام إمامٌ حيّ، و قد استفدنا من الاية: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَـ'مِهِمْ[257].
انّ الإمام موجود في كلّ زمان، يُدعي بواسطته أفراد البشر واحداً فواحداً؛ و هذا أمر مسلّم و صحيح تستند علیه جميع أديان العالم و مذاهبه، و يعتمد علیه الدين الاسلامي الذي يعتبر تعيين الإمام للمجتمع من قبل الله، و يعرّفه بأنّه صاحب القلب و المحيط بالملكوت و المعصوم عن الخطايا و المعاصي. كما انّ الشيعة قد استفادوا هذا الامر علی أساس تعإلیم الاسلام، فقد جعلوا سيرتهم علی واقع و حقيقة التعإلیم الاسلاميّة، امّا أهل السنّة الذين لا يُراعون هذا الامر، فانّ أيديهم قاصرة عن إدراك منبع الحياة و العلم، و كما أُشير سابقاً فانّهم لا يستفيدون من الإسلام بالمعني الحقيقيّ.
و علی هذا الاصل القائل بالحاجة إلی الإمام الحيّ بعد رسول الله صلّي الله علیه و ءاله، و هو الوجود المقدّس لاميرالمؤمنين علیه السلام، فانّ ذلك من أجل أن يصل جميع أفراد البشر بواسطة ذلك القلب الحيّ الواعي في عالم الجمع إلی الإفادة من حياتهم و علومهم، و إلاّ فانّه اذا كفي مجرّد العمل بنداء (كفانا كتاب الله)، لزحف كلّ امريء فانزوي في زاوية النفس و خرائبها المظلمة، و لما أمكنه أن يتخطّي نفسه و هواه إلی ءاخر عمره، وذلك لان الإمام هو الملقي للمعارف القرءانيّة إلی قلب الانسان، و بدونه فانّ الإنسان الاعمي المهووس بالشهوات المنغمر في اللذّات سيفسّر ويؤوّل الايات القرءانيّة لخدمة أغراضه و نواياه، و مهما عمل فانّ عمله لن يتعدّي دائرة ميوله و رغباته النفسانيّة. و مثل هذا القرءان بدون الروح الحيّة العميقة الإدراك للإمام لاَ يَزيدُهم مِنَ اللَهِ إلاَّ بُعْدًا.