لقد كان لمروان بن الحكم دور رئيس في مسيرة الأحداث الدامية دون شك. وقبل التطرق الى دور هذا الرجل في الفتنة، يجدر بي أن أستعرض أقوال بعض المؤلفين فيه ومواقفهم منه، وإصرار هؤلاء على إظهار مروان على غير صورته الحقيقية وتبرأته هو الآخر مما وقع من أحداث.
يقول القاضي ابن العربي فيه:
مروان رجل عدل من كبار الاُمة عند الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين.
أما الصحابة فإنّ سهل بن سعد الساعدي روى عنه، وأما التابعون فأصحابه في السن، وإن كان جاوزهم باسم الصحبة في أحد القولين، وأما فقهاء الأمصار فكلهم على تعظيمه، واعتبار خلافه، والتلفت الى فتواه والانقياد الى روايته، وأما السفهاء من المؤرخين والأدباء فيقولون على أقدارهم(2).
لو كان الأمر متوقفاً على المؤرخين والاُدباء - حتى غير السفهاء- لهان الأمر، لكن صورة مروان بن الحكم التي ينقلها إلينا ثقاة العلماء والمحدثون، أكثر جهامة مما يقوله المؤرخون والاُدباء.
فقد أخرج كبار المحدثين روايات تكشف عن البدع التي أحدثها مروان
____________
1- تاريخ الطبري 2: 459 ذكر وقعة بدر الكبرى، الكامل في التاريخ 2: 74 ذكر المستهزئين ومن كان اشد الأذى للنبي(ص)، تاريخ الاسلام للذهبي: المغازي: ص 64 - 65.
2- العواصم من القواصم: 101.
1 في الاسلام، فضلا عن جرائم قتل لبعض كبار الصحابة، وهي كلها مسجلة في كتب الحديث، والتي تكشف أيضاً عن سوء رأي بعض كبار الصحابة في مروان واتهامهم إياه.
ففي الصحيحين -واللفظ للبخاري- عن أبي سعيد الخدري قال:
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخرج يوم الفطر والأضحى الى المصلى، فأول شيء يبدأ به: الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم. فإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه، أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف، فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبرٌ بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة; فقلت له: غيّرتم والله! فقال: يا أبا سعيد، قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم; فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة!!(1).
وفي لفظ الإمام أحمد، قال: فقام رجل فقال: يا مروان خالفت السنّة! أخرجت المنبر يوم عيد ولم يك يُخرج به في يوم عيد، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة ولم يكن يُبدأ بها! قال: فقال أبو سعيد الخدري: من هذا؟ قالوا: فلان ابن فلان.
قال: فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "من رأى منكم منكراً فإن استطاع أن يغيّره بيده فليفعل". وقال مرة: "فليغيّره بيده فإن لم يستطع بيده فبلسانه فإن لم يستطع بلسانه فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"(2).
____________
1- صحيح البخاري 2: 22 باب الخروج الى المصلى بغير منبر، صحيح مسلم 2: 605 كتاب صلاة العيدين.
2- مسند أحمد 3: 10.
هذه الرواية وأمثالها مما أخرجه كبار المحدثين -ويكفي اتفاق الشيخين عليها- تشير إلى اُمور منها:
إن مروان بن الحكم قد تعمد تغيير السنّة النبوية الشريفة في صلاة العيدين ومخالفة النبي (صلى الله عليه وآله) ومن جاء بعده بالصلاة قبل الخطبة، فجعل الخطبة قبل الصلاة، ولم يكن ذلك عن سهو أو خطأ منه -كما يدل لفظ الرواية- حيث إنه أصرّ على فعله بعد تنبيه أبي سعيد الخدري له، وقوله: قد ذهب ما تعلم، يدل على إصراره على تغيير السنّة النبوية، وكأن هذه السنّة قد صارت عفا عليه الزمن وينبغي تغييره.
كما وأن تبرير مروان عمله ذلك بأن الناس لم يكونوا يجلسون لسماع الخطبة بعد الصلاة، فإن هذا لهو أكبر دليل على أن أهل المدينة -وفيهم بقية الصحابة وخيار التابعين- لم يكونوا يعتقدون بصلاح مروان وعدالته ونصحه للاُمة حتى يستمعوا إليه.
كما وأن شهادة أبي سعيد الخدري للرجل الذي عارض مروان في إخراج المنبر بأنه قد أدى الذي عليه بالنهي عن المنكر، واستشهاده بقول النبي (صلى الله عليه وآله) لأكبر دليل على اعتقاد هذا الصحابي بأن مروان بن الحكم ممن يأتون المنكر الذي أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بتغييره.
ولم يكن أبو سعيد الخدري الصحابي الوحيد الذي يعتقد بعدم صلاح مروان بن الحكم، بل كان ذلك رأي جلّ الصحابة، ويدل على ذلك ما أخرجه الامام أحمد أيضاً، عن داود بن أبي صالح قال:
أقبل مروان يوماً فوجد رجلا واضعاً وجهه على القبر; فقال: أتدري ما تصنع؟ فأقبل عليه، فإذا هو أبو أيوب; فقال: نعم، جئت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم آتِ </span>الحجر! سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله"(1).
فها هو الصحابي الكبير أبو أيوب الأنصاري يعرّض بمروان بن الحكم ويتّهمه بأنه ليس من أهل الدين.