بسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحَمّْدُ للهِ رَبِّ العَاْلَمِيْنَ .. عَلَيْهِ نَتَوَكَّلُ وَبِهِ نَسْتَعِيْن
وَصَلَّى اللهُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِيْن
-------------------
« نية القطع والقاطع »
الصيام من الواجبات العبادية أي الأعمال التي تتوقف صحة امتثالها على الإتيان بها بقصد القربة الى الله تعالى ، وأن الباعث والداعي الى فعلها والالتزام بها هو امتثال أمر الله تعالى ، فالصلاة والحج والوضوء مثلاً لا يكفي في تحقق امتثال أوامرها وبراءة الذمة من التكليف بها والخروج عن عهدتها أن يأتي بها المكلف في الخارج من دون أن يقصد بإتيانها امتثال أمر الله تعالى بها وقصد التقرب إليه بها ، وهو معنى اشتراط النية في الأوامر والواجبات العبادية ، فالنية هي عبارة عن الإتيان بالواجب العبادي وقصد فعله قربة الى الله وامتثالاً لأمره سبحانه .
وكذلك الحال في الصوم فإنه من الواجبات العبادية فلا يجزئ من المكلف ما لم يقع عن نية وقصد ، ولا يصح منه ما لم يكن الداعي والباعث للإتيان به هو امتثال أمر الله تعالى بالصوم والتقرب به إليه ، لذا لو نام الشخص مثلاً طيلة النهار من الفجر الى الغروب من دون أن يقصد الصوم قبل ذلك في الليل لم يجزئه ذلك ولم يحسب له صياماً مع أنه فعلاً صائم وممسك طيلة النهار إذ لم يتناول أي مفطر ، وذلك لأنه غير صائم شرعاً وإن كان صائماً لغة ، فإن الصيام الشرعي متقوم بأمرين :
الأول / الإمساك عن المفطرات . الثاني / النية وقصد التقرب الى المولى سبحانه بذلك الإمساك .
وهكذا من أمسك ولم يفعل شيئاً من المفطرات من الفجر الى الغروب لا بقصد الصوم بل لمجرد عدم الرغبة في فعل شيء من المفطرات كما إذا لم يكن يرغب في الطعام أو الشراب أو كان مضرباً عنهما أو كان ممنوعاً منهما أو لم يكن واجداً لهما ونحو ذلك فما دام عدم تناوله للأكل والشرب وباقي المفطرات لم يكن بقصد الصوم الشرعي والقربة الإلهية لم يعتبر ذلك صوماً شرعاً .
إذن الصوم كسائر العبادات لا يصح الا بالنية مع فارق بسيط وهو أن النية في العبادات غير الصوم تتحقق بقصدين وهما : قصد فعل العبادة وقصد التقرب بها ، فنية الصلاة أن يقصد المكلف فعل الصلاة وأن يقصد التقرب الى المولى بفعلها . أما الصوم فهو يختلف عن سائر العبادات الأخرى بكونه أمراً عدمياً لا وجودياً ، فهو ليس عبارة عن أفعال وحركات يؤديها المكلف في الخارج كما في الوضوء والصلاة والحج ، بل هو عبارة عن ترك المفطرات من دون فعل شيء وعليه فلا يتحقق فيه القصد الأول وهو قصد فعل العبادة لأنه ليس فعلاً أصلاً بل هو ترك وإمساك وامتناع ، نعم يتحقق فيه القصد الثاني فقط فلا بد أن يقصد الصائم التقرب بالصوم ، وعوضاً عن القصد الأول يتحقق الصوم بالعزم على ترك المفطرات ، وعليه فنية الصوم تتحقق بشيئين : العزم على ترك المفطرات وقصد القربة ، فحتى يكون المكلف صائماً لا بد أن يكون عازماً على ترك المفطرات وأن يكون ذلك بقصد التقرب الى المولى سبحانه ، فهذه هي نية الصوم .
ثم إن الواجبات العبادية كما يشترط فيها النية ابتداء كذلك يشترط فيها وفي صحتها النية استمراراً ، فكما يشترط في صحة الصلاة وجود النية عند الابتداء والشروع بها فلا يكبّر تكبيرة الإحرام الا مع النية وقصد فعل الصلاة قربة الى الله تعالى ، كذلك يشترط في صحة الصلاة أن تستمر هذه النية - وهي الإتيان بالصلاة قربة وطاعة الى الله تعالى - الى آخر الصلاة ، فلا بد أن تكون هذه النية حاضرة عند المصلي في كل جزء من أجزاء الصلاة حتى يصل الى آخر جزء وهو السلام ، ولا يكفي وجود النية عند أول جزء فقط وهي تكبيرة الإحرام أو في بعض الأجزاء دون بعض ، ولذا لو ابتدأ بالصلاة بقصد القربة ثم أكمل صلاته لا بهذا القصد بل بقصد آخر كالرياء مثلاً أو التظاهر بالانشغال بالصلاة وهكذا لم تجزئه تلك الصلاة وإن أتى بجميع أجزائها وأفعالها وذلك لعدم استمرار النية .
ومثال آخر الاغتسال فلو ابتدأ به مع قصد القربة وبداعي الإتيان بالاغتسال الواجب ثم في الأثناء تبدلت نيته وقصد إكمال الغُسل بقصد التبريد أو التنظيف ، فذلك لا يجزئه ولا تكفي النية في ابتداء الغسل لأن صحة الغسل مشروطة باستمرارية النية .
ونفس الكلام يقال في الصوم فهو كسائر الأعمال والواجبات العبادية المشروطة بالنية والقصد فكما أنه مشروط بذلك ابتداءً فكذلك هو مشروط به استمراراً ، ففي كل لحظة من لحظات النهار وكل آنٍ من آناته لا بد أن يكون مصحوباً بالنية والعزم على ترك المفطرات بقصد قربي ، لأن الواجب صوم كل النهار من الفجر الى الغروب ، وحيث أنه مشروط بالنية إذن لا بد من وجود النية في كل لحظة من النهار ، فأي إخلال بهذه النية ولو في لحظة من النهار فإنها تضر بالصوم لأنها تقطع استمرارية النية التي هي شرط في الصحة ، وهذا الإخلال بالنية يتحقق بأحد أمرين يعبّر عنهما بـ نية القطع ونية القاطع .
نية القطع
أما نية القطع فهي بمعنى قصد قطع الصوم وعدم إكماله وعدم الاستمرار بنيّته ، فينوي أن لا يمسك عن المفطرات من دون أن يقصد تناول المفطر بل نفس عدم نية الإمساك بحيث يعرض عن صيام ذلك اليوم .
وذكر الفقهاء أن نية القطع مبطلة للصوم ، فالصائم إذا نوى قطع صيامه وأعرض عن نية الصيام فذلك مفسد لصومه ، وذلك لما تقدم من عدم كفاية النية في الابتداء وأنه لا بد من استمرارية النية ، ونية القطع منافية لهذا الشرط وهو استمرارية النية فمن نوى قطع الصوم فسد صومه لانقطاع استمرار النية بذلك ، فتكون نية القطع رافعة لشرط صحة الصوم .
وفي حكم نية القطع التردد في القطع ، فمن تردد هل يقطع صومه أو يستمر فيه فهذا كمن نوى القطع وجزم به فيفسد صومه أيضاً ، لأنه كما أن نية القطع منافية لاستمرار النية فكذلك التردد ينافي استمرار النية ، لأن معنى استمرار النية أن يكون الصائم في كل لحظة من النهار عازماً على الصيام وجازماً بالإمساك مع قصد القربة ، ومن نوى القطع أو تردد فيه لا يصدق عليه أنه عازم على الصيام ، فهو في نفس تلك اللحظة التي نوى فيها القطع والإعراض عن الصوم هو غير عازم على الإمساك بل هو عازم على الإفطار وعدم الإمساك فلا يكون صائماً ، ولا يكفي عزمه على الإمساك في باقي النهار قبل تلك اللحظة أو بعدها لأن المطلوب العزم على الإمساك في كل النهار وجميع لحظاته ولا يكفي وجود النية في بعض الواجب دون بعض كما تقدم ، ونفس الكلام يقال في المتردد فهو في اللحظة التي تردد فيها هو غير عازم على الإمساك وحيث أن المطلوب العزم على الإمساك في جميع النهار فيكفي في فساده انتفاء العزم ولو في لحظة واحدة منه .
ومثل نية القطع والتردد الفعليين نية القطع والتردد الاستقباليين ، فمن نوى القطع والإعراض عن الصوم بعد ساعة أو ساعتين فسد صومه كمن نوى القطع الآن وكذلك المتردد ، والسر واحد وهو عدم استمرارية الصوم فالمهم أن الصائم في لحظة من النهار لا يكون عازماً على الإمساك فيفسد صومه سواء كانت هذه اللحظة حالية أو استقبالية .
إذن نية قطع الصوم والتردد في نية الصوم من مبطلات الصوم من حيث منافاة ذلك لشرط صحة الصوم وهو استمرار النية في جميع النهار ، لكن هنا ملاحظة مهمة وهي أن نية القطع والتردد في النية إنما تبطلان الصوم فيما إذا وقعا بعد آخر وقت النية دونما إذا وقعا قبل ذلك ، توضيح ذلك :
أن الصوم أنواع فهناك الواجب المعين كصوم رمضان وصوم النذر المعين ، وهناك الصوم الواجب غير المعين كصوم القضاء وصوم الكفارة وصوم النذر غير المعيّن ، وهناك الصوم المندوب ، وكل نوع من أنواع الصوم يشترط فيه النية لأن الصوم عبادة بجميع أنواعه ، وكل نوع من الصوم لابتداء النية فيه وقت محدود لا يصح تأخير ابتداء النية فيه بعد ذلك الوقت ، فابتداء النية في الصوم الواجب المعيّن كصوم شهر رمضان لا بد أن يكون قبل الفجر أو على الأقل مقارناً لطلوع الفجر بحيث لا يصح طلوع الفجر والمكلف لم يبتدأ بعدُ بنية صوم ذلك اليوم ، وهو المعبّر عنه بزمان تضيّق النية فيقال تتضيّق نية صور رمضان عند طلوع الفجر بمعنى أنه لا يصح تأخير ابتداءها عن طلوع الفجر ، وأن شرط صحة الصوم الواجب المعيّن كصوم رمضان أن لا يطلع الفجر الا والمكلف ناوٍ للصوم .
وأما الصوم الواجب غير المعيّن كصوم القضاء فآخر وقت لابتداء النية فيه هو الزوال فلا يصح صوم القضاء الا إذا نواه المكلف قبل الزوال أو مقارناً للزوال على الأقل بحيث لا تزول الشمس على المكلف الا وهو ناوٍ لصوم القضاء ، فكما يصح الابتداء بنية صوم القضاء من الليل يصح الابتداء بها في النهار قبل زوال الشمس ، لذا من أصبح في غير شهر رمضان غير ناوٍ للصوم ثم بدا له أن يصوم ذلك اليوم قضاء أمكنه ذلك ما دام ممسكاً والابتداء بالنية قبل الزوال .
وأما الصوم المندوب فآخر وقت الابتداء بالنية فيه هو قبيل الغروب ، فمن كان ممسكاً طيلة النهار لم يرتكب شيئاً من المفطرات لا بينة الصوم لأي سبب كان كما لو نام قبل الفجر ولم يستيقظ الا عصراً ، إذا بدا له أن يصوم ذلك اليوم استحباباً أمكنه ذلك فينوي صوم ذلك اليوم ندباً ويصح منه ولو لم يبقَ على الغروب الا دقائق قليلة ويحسب له صيام ذلك اليوم استحباباً بشرط أن لا تكون ذمته مشغولة بالقضاء لعدم صحة الصوم المندوب لمن اشتغلت ذمته بالقضاء بل بأي صوم واجب على رأي بعض الفقهاء كصوم النذر والكفارة .
وإذا ابتدأ بالنية في أي نوع من أنواع الصوم وجب عليه الاستمرار بها الى الغروب حتى يصح منه الصوم ، فإذا ابتدأ بنية صوم رمضان قبل الفجر وجب استمرارها الى الغروب حتى يصح صوم رمضان ، وإذا ابتدأ بنية القضاء قبل الزوال سواء من الليل أو في الصباح وجب استمرار النية الى الغروب حتى يصح صوم القضاء .
إذا عرفت ذلك نقول : من كان ناوياً للصوم في أي نوع من أنواعه ثم نوى القطع أو تردد فإن كان ذلك أي القطع أو التردد قبل آخر وقت ابتداء النية لم يبطل صومه مباشرة بل له الرجوع الى نية الصوم لأن وقت ابتداء النية ما زال مستمراً ، وإنما يبطل الصوم لو نوى القطع أو تردد بعد انقضاء آخر وقت ابتداء النية ، والسر في ذلك - أي في بطلان الصوم بنية القطع أو التردد بعد آخر وقت ابتداء النية دونما قبله - هو أن بطلان الصوم بنية القطع أو بالتردد إنما هو لأجل انقطاع استمرارية النية ، وانقطاع استمرارية النية بنية القطع أو بالتردد إنما يكون إذا وقعا بعد آخر وقت ابتداء النية دون ما قبلها ، فمن نوى صوم رمضان في أول الليل ثم في منتصف الليل نوى القطع والإعراض عن صوم غد أو تردد في ذلك فهذا لا يصدق عليه أنه أخل باستمرارية النية لأن الصوم لم يبدأ بعد فله أن يرجع الى نية الصوم ما دام الفجر لم يطلع بعد ، نعم إذا طلع الفجر ثم نوى القطع فحينئذٍ يكون قد أخل باستمرارية النية ، ولذا من نوى صوم القضاء ليلاً ثم في الصباح أعرض ونوى عدم الصوم ثم قبل تناول المفطر بدا له الرجوع الى الصوم فما دام الزوال لم يحصل بعد فله الرجوع وتجديد نية صوم القضاء في ذلك اليوم لأن نية القطع لا تضر قبل تضيّق وقت النية الذي هو بالزوال في صوم القضاء ، بخلاف ما إذا نوى القطع بعد الزوال فإنه يكون بعد تضيّق وقت النية وبعد آخر وقت مسموح لابتداء النية فيحصل القطع في استمرارية النية في الوقت المعتبر فيه استمرارية النية شرعاً فيبطل الصوم .
وعليه فمن نوى صوم رمضان في الليل وأمسك ثم نوى القطع وترك الصوم قبل الفجر لم يضره ذلك وكان بإمكانه تجديد نية الصوم قبل الفجر لأن وقت الابتداء بالنية ما زال مفتوحاً ومستمراً الى الفجر ، وإنما يبطل صوم رمضان بنية القطع أو التردد إذا حصلا أثناء النهار فإن وقت الابتداء بالنية يكون قد انتهى بطلوع الفجر فلا يمكنه تجديد نية الصوم والرجوع الى الصوم مرة أخرى حينئذٍ لأنه يكون قد نوى صوم رمضان بعد الفجر وهذا لا يصح لأن آخر وقت لابتداء نية صوم رمضان هو عند الفجر وليس بعده ، أو قل تجديد نية صوم رمضان حينئذٍ لا ينفع فيما صار باطلاً ولا يجعل الباطل صحيحاً .
وهكذا صوم القضاء فمن أصبح ناوياً صوم القضاء ثم نوى القطع لم يضره ذلك بمعنى أنه يمكنه أن ينوي الصوم مرة أخرى قبل الزوال لأن الابتداء بنية صوم القضاء يستمر الى الزوال بخلاف ما إذا نوى القطع بعد الزوال فيبطل صومه مباشرة ولا يمكنه الرجوع الى نية الصوم لأن معنى رجوعه أنه ابتدأ بنية صوم القضاء بعد الزوال وهذا لا يتم لأن وقت الابتداء بنية القضاء ينتهي عند الزوال .
ومن ذلك يظهر أن الصوم المندوب لا يضره نية القطع مطلقاً لأن ابتداء نيته يستمر الى قبل الغروب بقليل ففي أي وقت من النهار ينوي قطع الصوم المندوب فإنه يمكن الرجوع إليه مرة أخرى وتجديد النية طيلة النهار ما دام باقياً على إمساكه ، اللهم الا أن تكون نية القطع قبل الغروب بلحظة بحيث لا يبقى له وقت للرجوع وتجديد نية الصوم .
إذن نية القطع أو التردد تبطلان الصوم إذا وقعتا بعد تضيّق وقت النية أو قل بعد انتهاء وقت الابتداء بالنية ، أما قبل تضيّق وقت النية فالقطع والتردد وإن كانا يضران بنية الصوم لكن يمكن تجديدها والرجوع إليها مرة أخرى قبل انتهاء وقت الابتداء بالنية .
نية القاطع
وأما نية القاطع فهي عبارة عن نية فعل المفطر ، فالقاطع أي القاطع للصوم وهو أحد المفطرات فمن كان صائماً فنوى أن يفعل أحد المفطرات كما إذا نوى شرب الماء فهذه النية تسمى نية القاطع أي نوى الإتيان بما يقطع الصوم .
وهذه النية أيضاً مبطلة للصوم مثل نية القطع ، أولاً : لأن نية القاطع متضمنة لنية القطع فكل من نوى فعل المفطر فهو في نفس الوقت ناوٍ لقطع الصوم وحيث أن نية القطع مبطلة للصوم كما تقدم فكذا ما يتضمنها ويشتمل عليها وهي نية القاطع ، وثانياً : نفس السر والسبب السابق في مبطلية نية القطع للصوم يأتي هنا وينطبق على نية القاطع وهو أن شرط صحة الصوم استمرارية النية والعزم على الإمساك كل النهار وفي جميع لحظاته وكما أن نية القطع تضر باستمرارية النية فكذا نية القاطع فمن نوى شرب الماء في لحظة من النهار فإنه في تلك اللحظة لا يصدق عليه أنه ناوٍ للصوم وعازم على الإمساك وهذا واضح لأنه ناوٍ للإفطار ولفعل القاطع والمفطر فكيف يكون صائماً وعازماً على الإمساك ، فإذا لم يكن ناوياً للصوم وعازماً على الإمساك ولو في لحظة من النهار فهذا كافٍ لبطلان الصوم حتى لو كان ناوياً للصوم والإمساك في باقي النهار لأن المطلوب النية والإمساك عن المفطرات في كل النهار لا في بعضه ، أو قل شرط صحة الصوم استمرار النية ومن نوى القطع أو نوى القاطع نيته غير مستمرة فيبطل صومه لعدم توفره على شرط الصحة .
وبما أن السر في بطلان الصوم بنية القطع ونية القاطع واحد فنفس الكلام المتقدم في نية القطع يأتي هنا في نية القاطع وهو :
1. كما يبطل الصوم بنية القاطع فكذلك يبطل بالتردد فيها فإذا تردد هل يشرب الماء أو لا فهذا كم نوى شرب الماء لعدم صدق العزم على الصوم في كل منهما .
2. لا فرق بين نية القاطع الحالية أو الاستقبالية فمن نوى شرب الماء بعد ساعة فهو كمن نوى شرب الماء الآن فكلاهما يبطل صومهما ، كما إذا كان يسير في الشارع فأحس بالتعب والعطش فنوى أن يشرب الماء عند وصوله الى البيت فهذا يبطل صومه بمجرد هذه النية ولو لم يشرب الماء فعلاً عند وصوله الى البيت لنفس السبب والسر المتقدم وهو انقطاع نية الصوم وعدم استمراريتها .
3. أن مبطلية نية القاطع للصوم إنما تكون إذا حصلت بعد آخر وقت الابتداء بالنية ، أما إذا حصلت قبل ذلك لم تضر بمعنى أنه يمكن الرجوع الى نية الصوم وتجديدها مرة أخرى ، كما إذا نوى الإمساك في صوم رمضان قبل الفجر بعشر دقائق ثم بعد دقيقة أو دقيقتين نوى شرب الماء فإنه يمكنه الرجوع الى نية الصوم بل يجب عليه ذلك قبل الفجر .
ونضيف الى ما تقدم أن شرط مبطلية نية القاطع للصوم هو علم الصائم بكون ما نواه مفطراً فحينئذٍ يكون قد نوى القاطع ويبطل صومه ، أما إذا نوى القاطع والمفطر من دون علمه بأنه مفطر بأن كان جاهلاً بمفطريته فهنا لا يبطل صومه كما إذا نوى الاحتقان بالمائع مع جهله بأنه من المفطرات فهذا يبقى على صومه وصومه صحيح ، لأننا قلنا أن السر في بطلان الصوم بنية القاطع هو أن المكلف في اللحظة التي نوى فيها القاطع هو غير ناوٍ للصوم وغير عازم على الإمساك فيبطل صومه من جهة عدم النية ، وهذا إنما يكون في العالم بالمفطرية فيقال أن ناوٍ المفطر لا يمكن أن يكون ناوياً للصوم أيضاً في نفس الوقت ، وأما الجاهل بالمفطرية ففي نفس اللحظة التي نوى فيها فعل المفطر يصدق عليه أنه ناوٍ للصوم أيضاً ونية الصوم موجودة عنده لأنه جاهل بالمفطرية .
ثم إنه لا فرق في مبطلية نية القاطع للصوم بين أن يفعل القاطع فعلاً أو لا فعلى كلا التقديرين صومه باطل ، فمن نوى شرب الماء بطل صومه سواء شرب الماء فعلاً أو لم يشربه فعلى كلا التقديرين هو ناوٍ للقطع ، نعم يفرّق بينهما من ناحية أخرى وهي أن من نوى القاطع والمفطر في شهر رمضان والصوم المنذور المعيّن وصوم القضاء بعد الزوال فإن لم يفعل المفطر فعلاً فعليه القضاء فقط ، أما إذا أتى بالمفطر فعليه القضاء والكفارة ، فإذا نوى أن يشرب الماء عند وصوله الى البيت بطل صومه مباشرة فإذا لم يشربه فعليه القضاء فقط وأما إذا شربه فعلاً فعليه الكفارة أيضاً مضافاً الى القضاء ، ولذا ذكر الفقهاء في تعداد ما يوجب القضاء فقط دون الكفارة ما ( إذا أبطل صومه بالإخلال بالنية من دون استعمال المفطر ) لأنه مع استعمال النية تجب الكفارة أيضاً .
تنبيه /
قلنا المتردد في القطع أو القاطع كمن نوى القطع أو القاطع ، فإذا تردد هل يستمر في صومه أو يقطع بطل صومه كما إذا نوى القطع جازماً ، ومن تردد هل يتناول القاطع والمفطر أو لا بطل صومه كمن نوى القاطع جازماً ، لكن استثنى الفقهاء صورة للتردد لا يبطل معها الصوم بل يبقى صحيحاً وإن كان الصائم متردداً وهي ما إذا فعل شيئاً أو عرض له عارض فشك وتردد هل بطل الصوم أو لا ، بحيث يكون التردد مستنداً إلى الشك في صحة الصوم المسبب عن الجهل بالحكم الشرعي ، فلأنه جاهل بالحكم الشرعي ولا يدري هل هذا العارض الذي عرض له أوجب بطلان صومه أو لا صار عنده شك في صحة الصوم وطبيعي من يشك في صحة صومه يحصل عنده تردد أنه يستمر على نية الصوم أو لا ، فمثل هذا عليه أن يستمر بنية الصوم رجاء أن يكون الصوم صحيحاً لم يبطل الى أن يسأل ويعرف الحكم في المسألة ، فإذا سأل عن حالته بعد ساعة مثلاً فقيل له صومك صحيح والعارض الذي عرض لك غير مبطل لصومك فحينئذٍ صومه صحيح وإن كان هو في حالة شك وتردد من حين عروض العارض الى زمان السؤال ومعرفة حكمه الشرعي . كما لو استيقظ في نهار شهر رمضان محتلماً وكان جاهلاً بالحكم فلم يدرِ أن هذا من المفطرات فيبطل صومه بذلك أو لا ، وطبيعي حينئذٍ ستحصل له حالة من الشك والتردد أن صومه صحيح أو باطل ، فإذا نوى الاستمرار بالصوم والبقاء على نيته رجاء الصحة أي بأمل أن يكون صومه صحيحاً الى أن يتسنى له السؤال والتأكد من الحكم ، فإذا سأل بعد ساعة أو أكثر فقيل له أن الاحتلام في نهار الصوم ليس من المفطرات وأن صومك صحيح فحينئذٍ يكون صومه صحيحاً ولا يضره حالة التردد والشك في صحة الصوم التي وقع فيها من حين استيقاظه محتلماً الى حين سؤاله ومعرفته بالحكم الشرعي .
ومثال آخر : امرأة تذوّقت المرق وقبل أن تلقيه سبق وتعدّى الى الحلق من غير قصد ، فشكت هل بطل صومها أو لا ؟ فإذا استمرت في نية الصوم بأمل أن يكون ذلك غير مبطل لصومها الى حين السؤال والتأكد ، فقيل لها بعد ذلك أن صومها صحيح لأن المرق تعدّى من غير قصد ولا تعمد ، فحينئذٍ تبقى على صومها ولا يضرها حالة الشك والتردد التي حصلت لها لأنه تردد في الحكم الشرعي للمسألة وليس تردداً في النية لأنها استمرت في نيتها رجاء صحة الصوم ، الى غير ذلك من الأمثلة .
والسر في استثناء هذه الحالة من التردد أنها في الحقيقة ليست تردداً في نية الصوم بل تردد في الحكم الشرعي وفي أن ما عرض له أوجب بطلان صومه أو لا ، وأما نية الصوم فقد استمر عليها وهذا يكفي حتى لو كان استمراره عليها بنية الرجاء والاحتياط فالمهم أنه لم يتردد في النية ، والتردد المبطل للصوم هو التردد في النية لا التردد في الحكم الشرعي .
الخلاصة /
يشترط في صحة الصوم الاستمرار في النية كأي عبادة أخرى ولا يكفي النية في ابتداء الصوم ، ومعنى الاستمرار في نية الصوم أن الصائم لا بد أن يكون عازماً على ترك المفطرات قربة الى الله تعالى في كل لحظة من حين تضيّق وقت الابتداء بالنية - سواء كان هو الفجر أو الزوال - الى الغروب ، ففي صوم رمضان لا بد - بعد أن يبتدأ بالنية عند الفجر - أن تستمر النية في كل لحظة من النهار الى الغروب ، ففي أي لحظة من النهار تنقطع هذه النية بطل الصوم لأن معنى انقطاعها عدم استمرار النية الذي هو شرط في صحة الصوم ، وانقطاع استمرار النية يحصل بنحوين : النحو الأول / نية القطع أي نية الإعراض عن الصوم سواء كانت حالية أو استقبالية . النحو الثاني / نية القاطع أي نية تناول المفطر سواء تناوله فعلاً أو لا و سواء كانت النية حالية أو استقبالية ، ويلحق بنية القطع ونية القاطع التردد في القطع أو القاطع فهو ينافي استمرار النية كنية القطع ونية القاطع ، يستثنى من ذلك من تردد للشك في صحة صومه بسبب جهله بالحكم الشرعي فلا يبطل صومه بهذا التردد إذا استمر على نية الصوم رجاء الصحة الى حين التأكد والسؤال عن الحكم الشرعي .
هذا الذي ذكرناه كله هو بناء على الرأي المعروف بين الفقهاء من بطلان الصوم بنية القطع ونية القاطع والتردد فيهما سواء كانت نية القطع أو القاطع فعلية أو استقبالية ، ولبعض الفقهاء آراء أخرى .
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين