عرض مشاركة واحدة

الصورة الرمزية kumait
kumait
عضو برونزي
رقم العضوية : 65773
الإنتساب : May 2011
المشاركات : 452
بمعدل : 0.10 يوميا

kumait غير متصل

 عرض البوم صور kumait

  مشاركة رقم : 2  
كاتب الموضوع : kumait المنتدى : منتدى القرآن الكريم
افتراضي ثانيا: ضمانات الحوار
قديم بتاريخ : 06-11-2012 الساعة : 12:05 PM



ثانيا: ضمانات الحوار

في المحور الأول من " لغة الحوار في القرآن الكريم " أوضحنا أهمية تأصيل الحوار كوسيلة للتواصل و خاصة و أن الأمة الإسلامية تعيش أزمة حوار حقيقية على كل المستويات، و أنه لا بد من تأصيل الحوار انطلاقاً من القاعدة المشتركة بين المسلمين المتمثلة في القرآن الكريم ولغة القرآن الكريم.

وقد تناولنا الإجابة عن سؤال " هل القرآن الكريم دعوة إلى الحوار"، وأبرزنا حوارية القرآن من مناقشة الحضور الهائل لمادة " القول " بتصاريفها واشتقاقاتها، وخلصنا إلى النتيجة أن تكرار مادة القول مؤشر على حوارية القرآن وأنه لا وجود في القرآن للصوت الواحد المتعالي الذي يعتمد التلقين ويقصي الآخر، بل الآخر ورأي الآخر مستحضر إلى درجة كبيرة، مع أن القرآن هو نص إلهي متعال مطلق لا ينكر عليه أن لا يكون حوارياً متعدد الأصوات.

و بيننا أن القرآن الكريم يستعرض الرأي الآخر رغم فساده و يستحضره بقوة، و يستحضره دون أن يبتره و يعطيه الفرصة ليتم نصاً كاملاً و فكرة واضحة بكل أبعادها. و كذلك يسبغ القرآن على الرأي الآخر جمال لغته وبيانه ويعطيه الفرصة الكاملة للحضور التاريخي والحضور الجمالي. وأخيراً فقد تكفّل الله سبحانه وتعالى بحفظ القرآن ورعايته وتخليده وفي هذا تخليد للرأي الآخر وإعطائه فرصة الإمتداد في التاريخ . وفي كل هذا درس من القرآن الكريم في الإنفتاح على الآخر وقبول حقه في الوجود، وتبقى الصوابية بعد ذلك مجال تدافع فكري يقوم على البرهان والنزاهة في طلب الحق.

و في المحور الثاني سنتابع بيان حوارية القرآن الكريم من خلال ما نسميه " ضمانة الحوارية".إذ يتأسس الحوار مادياً على استحضار الرأي الآخر ولكن تأسيس الحوار لا يكفي، إذ لا بد من وضع ضمانات لكي لا يتوقف الحوار. وأهم ضمانة تتمثل فيما يمكن أن نسميه ( عدم شخصنة القضية ) . أي عدم إلباس الذات في الموضوع وعدم استبدال القضية بذات الشخص وتحويل الصراع إلى صراع ذاتي أو شخصي .

الاسم الموصول " الذي" وما يمكن أن يسمى مشتقاته (الذين، اللذان ، اللائي ، الألى ، اللاتي ، اللوات ) إلى غير ذلك إلى 22 اسما موصولاً بالعربية والتي تؤدي المعنى نفسه، يمكن اعتبارها أعظم ضمانه لنجاح الحوار، أي أعظم ضمانة لعدم سقوط الحوار في الشخص . الاسم الموصول عند النحاة اسم مبهم وناقص ولهذا يحتاج إلى جملة من بعده تسمى صلة الموصول لأنه ناقص لإبهامه. فإذا قلت ( جاء أحمد ) اكتمل المعنى ولكن إذا قلت ( جاء الذي ) لا تكتمل الجملة، فاحتاج إلى جملة صلة تنوب عن أحمد فأقول ( جاء الذي أكرمني ). فالاسم الموصول يجرد الموقف من الشخص، فأقول "جاء الذي كفر". كلمة الذي تأتي بعدها (كفر) وهي حدث وموقف يفصله عن الشخص في حين أن استعمال " الكافر"مثلا تمزجهما معاً: (الكافر ) هو الذات وهو الفعل (المحدث والحدث)، (الموقف والإنسان) ، (الإنتاج والمنتج) ،و أسوأ منه أن تذكره باسم الشخصي،فلان، حيث لا تجريد و لا مزج بل إفراد، أي شخصنة، لكن (الذي) تفك الارتباط وتجعل الموقف مجردا و الشخص غير موجود، و الأمر متعاليا عن الزمان والمكان ولأنه غير مشخصن.

يرد الإسم الموصول في القرآن الكريم 1464 مرة بغض النظر عما يسد مسده ويؤدي دوره كالصفة المشبهة باسم الفاعل( الكافرون- المنافقون- المشركون)، المقروءة بال التعريف، أو ال العمدية.. والقضية ليس مجرد حضور بل هي نسيج كامل. فيمكنني مثلا أن أحصي في سجادة عدد الزخارف والألوان لكني لا أستطيع أن أحصي خيوط السدى واللحمة. فالاسم الموصول هو سدى ولحمة القرآن، لقد جاء القرآن الكريم ونصب عينه أنه الرسالة الخالدة . وأول شروط الرسالة الخالدة أن تكون صالحة لكل زمان ومكان . أما وأن القرآن قد نزل في مكان معين وزمان معين، فلا بد من معرفة العلاقة بين المطلق والنسبي وعلاقة القرآن بالزمان والمكان.[ii]

وهنا نريد أن نبين كيف يساعد استعمال الإسم الموصول ومشتقاته على التعالي على الزمان والمكان والتجرد عن الأشخاص وخصوصيات ظروف تنزل القرآن الكريم. الاسم الموصول اسم مبهم يفك الذات عن الحدث ويجعل الحدث شيئاً متجرداً عنها ، ويفيد التعالي عن الأشخاص والأشياء ، والتعالي عن الخطاب القبلي والخطاب العرقي والخطاب المشخصن والخطاب الإسقاطي ، في مقابل التركيز على الصفات والمواقف والأحداث والمناهج والاختيارات. وبهذا يضمن القرآن الكريم لموقفه وتحليله ورأيه العالمية والتعالي عن خصوصيات الزمان و المكان .

وأول مؤشر على ذلك أن القرآن الكريم غني بكل شيء ولكنه فقير جداً بفقر هو عين الغنى هو الفقر ( بالأسماء الموسوعية ) الأسماء الدالة على الزمان والمكان والأشخاص، أي أسماء القبائل والمدن والأماكن والأشخاص . بل هناك شيء عجيب جداً في قصص النبيين وحركة التاريخ ، والتاريخ لا يكون إلا بأسماء موسوعية ، فالأنبياء يذكرون بأسمائهم ولكن النبي محمد صلى الله عليه و آله وسلم يذكر أربع مرات فقط باسمه لأنه يمثل البداية لمرحلة النظر إلى التاريخ كحدث مضى ينبغي أن يقرأ، وتأسيس النسق المجرد الذي سيصنع من خلاله التاريخ ، وفيما عدا ذلك يدعى ( يا أيها النبي). وكذلك ما ذكرت امرأة باسمها في القرآن الكريم إلا مريم، حتى خولة التي كانت كائنا حياً يمشي على الأرض ( قد سمع الله قول التي تجادلك قي زوجها وتشتكي إلى الله )، لم يذكرها القرآن باسمها. فالقرآن الكريم هو فقير بالأسماء الموسوعية حتى من له وظيفة يسمى بوظيفته ففرعون ليس اسم شخص، بل اسم لوظيفة في النظام الحضاري القبطي وهو وظيفة الملك. و )الذي حاج إبراهيم في ربه (قيل أنه ملك وقيل النمرود وقيل غير ذلك . حتى والد إبراهيم ذكر في لقطة حية فيها إشارة إلى الاسم، لدرجة أننا نجد القرآن الكريم يترك منهج التجريد استثناء ويذكر بعض الأسماء للأماكن والأشخاص من باب أن لا يجرد تجريداً يُتهم فيه أنه غير تاريخي بالمرة فلا يأتي من ينكر أن القرآن له ارتباط بالتاريخ.

وأحياناً تكاد لا تجد ملمحاً واقعياً في حدث مادي ، وأنا لا أملّ من تكرار الآيات التي نزلت في أعقاب هزيمة أحد والتي كانت حدثا مادياً بأشخاص وأماكن وأسماء وشـهداء وضحايا وجرحى وواقعة، ولكن القرآن يبدأ بقوانين كلية )قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين(إلى أن يقول )أو لمّا أصابتكم مصيبةٌ قد أصبتم مِثليها قُلتم أنّى هذا، قل هو من عند أنفسكم()الذين قال لهم الناس(...، الذين ... الذين... قوانين عامة وسنن لا يكاد يجد الإنسان إشارة صريحة إلى الحدث إلا عندما يقرأ في كتب التفسير التي هي حاشية على النص القرآني بمساعدة علوم نقلية هي أسباب النزول والمكي والمدني ثم الناسخ والمنسوخ . معنى هذا أنالقرآن ينطلق من الواقعة ثم يتجرد عنها، فإذا وجدت أثر الواقعية فمن باب أن يكون للقرآن نفحة من الواقعية لأنه نزل في زمن ونزل في مكان معين، أي لولا أخبار المكي والمدني لكان من يدعي أن القرآن نزل في أي مكان آخر من الأرض سواء بسواء.

ولقد فهم المسلمون هذه الروح فوضعوا قواعد للتفسير تنسجم مع هذا ( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ) لبيان أنها قوانين عامة لا تنحصر ولا تموت و لا تجمد عند الحادثة.وهذا يدلنا أن القرآن الكريم يعطي الضمانة الأساسية ليبقى الحوار صالحاً. فأنت إذا كنت تحاور الشخص لا تخندقه في ذاته وتتخندق في ذاتك وتفرض عليه معركة ذاتية. فالآيات تتحدث عن الذين آمنوا ، والذين كفروا ، والذين نافقوا هي مجموعات مرنة منفتحة قابلة للإدخال والإخراج بما فيها من مواصفات مجردة.

وقد عكس القرآن الكريم مرحلةً طويلة من الصراع مع المشركين هم مشركو قريش دامت 21 سنة، ومع ذلك فلولا " لإيلاف قريش" لما عرفنا أن القرآن يتحدث عن قريش. ولهذا يمكن لكل مسلم أن يأتي إلى واقعة في زمانه ثم يأتي بآيات من القرآن فكأنها وصف لواقع أو معركة أو صراع ، تصلح أن تعزيه في حدث وتثبته في حدث وتفقهه في حدث ، وتعلمه في حدث معين لا علاقة له أبدا بالسبب الذي نزلت من أجله الآيات . وقد استمر صراع القرآن مع قبيلة قريش 21 سنة ولا أثر لهذه القبيلة لولا بصمة واقعية في إشارة واحدة.

نجد عبارات مثل ( الذين كفروا ) (الذين أشركوا)، فليس هناك إشارة إلى شخص موجود. ولكي نفهم هذا نقرأ في السيرة نفس الأحداث التي نزلت فيها آيات فنجد لغة مختلفة تماماً. فالسيرة النبوية كتابة بشرية كتبها كتاب السيرة ابتداء من ابن شهاب الزهري إلى ما بعده رواية عن الصحابة. فهزيمة أُحد في السيرة وسياقها في القرآن مختلف تماماً بشكل يدعو للعجب. ففي السيرة نقرأ فلان وفلان ذهب إلى مكان كذا وفلان عيّنه النبي في مكان وأمره بأمر، وأخطأ فلان بخطأ كذا وقتل فلان واستشهد آخر وجرح . فالسيرة هي حكاية في الزمان والمكان والأشخاص، يقابلها في القرآن تجرد كامل ولغة مطلقة يمكن أن تنطبق على وقائع لا تنحصر .

ولكي نفهم البعد الوظيفي لهذا الاختيار القرآني المتعالي يمكن أن نقارنه مثلا بالإنجيل والتوراة بغض النظر عن مصداقيتهما، فنجد فيهما حكايات في التاريخ يبدو عليها سيما الصياغة البشرية إلى حد بعيد . وتخيلوا معي لو أن القرآن الكريم كان يصاغ بشكل مشخصن ، فسيذكر أشخاصا بما كان من شأنهم من الصدود والعناد والتصدي للدعوة ثم يسلم هؤلاء فيصبح النص القرآني غير قادر على الاستمرار حتى في زمانه ومكانه.

فالاسم الموصول " الذي" يعطي قدرة على التجريد وفصل الشخص عن الحدث وإعطاء الشخص فرصة لكي ينتقل من هذا الموقف إليك ، فالناس مجموعات مرنة متحركة مفتوحة قابلة للدخول والخروج. فقريش كلها كانت في صف الكفر ثم دخلت كلها في صف الإيمان . ولو أن شخصاً أنكر على متعلق متوسل بالقبور قائلاً أنت مشرك تعبد هذا القبر من دون الله فإنه يفرض على هذا الشخص أن يتخندق ويلتحم بهذا القبر ويحمي ظهره به وينطلق إلى من اتهمه بالشرك قائلا : بل أنت المشرك وأنت و أنت... ولو أن الخطاب كان بقوله " هذا شرك " قد يقوم فإنه خجلاً وينسحب إلى الخلف ويقف إلى جانبك ويقول معك مستفسرا خجلا "هذا شرك" ، فهذا الخطاب يعطيه فرصة أن ينتقل من الفعل ويتركه لأنه غير مشخصن. والمضمون واحد ولكن الصياغة تختلف كما بين السماء والأرض ، وهذا هو منهج القرآن الذي يستعمل الاسم الموصول " الذي" لكي يجرد الموقف من الشخص ، والحدث من الفاعل. فأول ما يدل على فشل الحوار عندما تشير بأصبعك إلى المحاور وتلصق به الموقف وتبدأ بالاتهام فلا يجد مندوحة عن الدفاع عن نفسه . والقرآن يعطيك ضمانة كي لا يفشل حوارك بالتنجح فيه كما نجح حوار القرآن.

وبهذا يجنّبنا القرآن الكريم باستعماله الاسم الموصول أن نشخصن القضية ونقوّض فرصة التفاهم فنفشل في تحقيق هدف الحوار . ويعلمنا الانفتاح من الجهة الأخرى على الشخص ذاتاً قابلةً للانضمام بعد أن نفصلها عن الموقف . وهكذا لا نجد في القرآن الكريم الإشارة إلى الأشخاص إلا استثناءً ، وعندما يكون الموقف منهم قد حسم استثناء :" تبت يدا أبي لهب وتب" فهذه واقعه استثنائية لا يمكن التأصيل بها . وذلك بدليل أن القرآن ذكر قريش فلم يشتمها ولكن دعاها: )فليعبدوا ربّ هذا البيت (بدعوة مفتوحة لحركة مفتوحة في سياق مفتوح ، وما وصفهم بالكفر. وفرق كبير بين " فليعبدوا " وقوله " أنتم لا تعبدون" ، حتى أنهم لما وُصفوا: "الذين كفروا" ، "قل يا أيها الكافرون" كان ذلك في مفاصلة بين رأيين وليس موقف خندقة بين ذاتين ، فالخطاب للكافرين كان خطاباً لموقف، وليس خطاباً لأفراد بعينهم . وعندما دخلوا إلى الإسلام بعد الفتح صارت مجموعة ( الكافرون) فارغة من قريش تملأ بمشركين آخرين من الصين أو الهند أو غيرها ضمن حركة التاريخ والتدافع بين الحق و الباطل .

وهكذا يعطينا القرآن ضمانة حقيقية لكي لا يفشل الحوار بخندقة الآخر ، وننتهي إلى هزيمة القضية من أساسها. فالنص القرآني نص يدعو إلى الحوار ويؤسس لهذا الحوار من نفسه – و كما أصلنا من قبل - ما ادعى القرآن دعوى إلا كان له عليها من نفسه دليل يغنيه عن غيره . فالقرآن لم يكتف بالبرهان الإيجابي على ضرورة الفصل بين الموقف والشخص بل يأتي دائما بالبرهان السلبي – كما يقول عماد الدين خليل – فالقرآن كما يؤسس لمنهج الحجة والاستدلال ومنهج الاستدلال الحسي والعقلي ، يؤسس بالمقابل لإدانة مناهج المعرفة الباطلة من سحر وظن وهوى وتنجيم وغيرها مما سميناه بالبرهان السلبي .

وهنا أيضاً لا يكتفي القرآن بإبراز هذا الموقف المجرد ولكنه يدين الشخصنة . وأقوى مظاهر الشخصنة في الموقف الكافر الذي يخلده القرآن هو موقف الآبائية . أي حصر الحق بالآباء كأشخاص: )وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون(، )قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين، إن هذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين(، )قالوا إنا وجدنا آبائنا على أمّة و إنا على آثارهم مهتدون ، قل أو لو جئتكم بأهدى ممـا وجدتم عليه آباءكم، قالوا إنا بما أرســلتم به كافرون(. أحلامنا، آباءنا ،آلهتنا... شخصنة كاملة يقابلها القرآن الكريم ويدينها ويفضحها، وهذا هو منهج البرهان بالسلب بالإضافة إلى منهج البرهان بالإيجاب الذي يقدم عملية ضمنية تمتد في نسق اللغة ورحمها قبل أن تتنزل من اللغة إلى ما تعبر عنه من الموضوعات والمفاهيم.

لقد كان سيدنا علي بن أبي طالب عليه السلام يمثل قمة الإستجابة لهذا الموقف اللا-مشخصن .

وهنا ننتبه إلى أن عدم الشخصنة ليست هي منهجا في التمييز العقلي فحسب بل هي أيضاً منهج في الوفاء الأخلاقي . فعندما قال له أحد جنوده وهو في حالة تعبئة وتدافع خطيرين مع المعسكر الآخر ، والموقف الأخلاقي يدفعه لأن لا يستعمل أسلحته إذا كانت باطلة وإن كان يرى نفسه بالمنطق المادي مهزوماّ ، يسأله عن الآخرين : أكفارٌ هم ؟ قال لا من الكفر فروا . قال أمنافقون هم ؟ قال: لا فإن الله قد وصف المنافقين بأنهم لا يذكرون الله إلا قليلا، وهؤلاء يذكرون الله كثيرا . فالرجل اهتز لأن الأساس الاعتقادي الذي قام عليه وجعله من شيعة علي، هو أن يكون علي هو الحق والآخر هو الباطل، يتخيل العملية إقصاء وتقطيعا ، فليس في الدنيا إلا أبيض وأسود ، وحق وباطل ، هذا إسلام فالآخر كفر ، وهذا موقف عليّ فالآخر في الجحيم . وإلا لماذا يقاتل وبماذا يُشحن . يقول له عليّ "إخوة لنا بغوا علينا". فالعملية هي تحليل طيف من الألوان في جانب الحق نفسه، ثم لا يستبعد علي أن يقاتلهم لأسباب شرعية وقانونية وعقلية وهو يراهم من داخل صف الإيمان. فليس من الضروري أن نقاتل من نخرجه ونقصيه إلى الجهة الأخرى. وهذا الموقف من سيدنا علي هو خلق متأسس على موقف فكري عقلي ، فالفكر والأخلاق يرتبطان بشكل حميم ، ولا أرى لذي فكر سقيم خلقا سليماً . و هذا الموقف العميق من الخوارج ليلة قتالهم هو الموقف الذي عبر عنه عندما قال له أحد أصحابه بمنطق التجسيد والشخصنة: كيف ترى فلانا وفلانا من الصحابة؟. قال هم من الصحابة الأفاضل الكرام الذين مات رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم وهو عنهم راض . قال فما بالهم في صف معاوية ؟ فقال له: "يا هذا إعرف الحق بالحق ولا تعرف الحق بالرجال" .

وفي معركة صفين، لعن أحد جنوده أهل الشام، فنهره علي عليه السلام قائلا:"لا تلعن اهل الشام فإنهم الأبدال، فإنهم الأبدال، فإنهم الأبدال!"

ثالثا: الحوار والفزع من الآخر

عندما نتحدث عن الحوار وأخلاق الحوار ونحاول أن نستلهم دروس القرآن الكريم في إرساء قواعد هذا السلوك الحضاري، كثيراً ما ترتسم على الوجوه علامات القلق والوجوم وكثيراً ما ترى من الإشارات والعبارات ما يدل على ما يمكن أن نسميه الفزع من الآخر. فكيف يمكن المضي في تأصيل وممارسة سلوك الحوار في مثل هذا الجو المتشنج؟

وكيف وصلنا إلى هذه الحالة من الفزع من الآخر ؟ هذا ما أحاول أن ألقي عليه بعض الأضواء.

أولا : الفزع من الآخر ورفضه هو حالة مرضية ولكن الأمثلة التي تضرب في هذاالمجال يبدوا أنها تخلط بين مستويين من الحوار والتواصل. فإذا ذكرنا الصهيونية والإمبريالية فيجب أن لا نخلط هذا بالمستوى الفكري عندما نذكر الآخر. المسلم كإنسان ذو رسالة حضارية يتشبع بها بدرجات متفاوتة واعية أو غير واعية ضعيفة أو قوية تكسبه آلية للدفاع عن نفسه وهويته بشكل طبيعي، فرفض الآخر لما نتكلم عن الصهيونية والاستعمار هو رفض مشروع سياسي وهذا طبيعي وظاهرة صحية. ولكن تختلف تمظهرات هذا الرفض وقد تكون غير سليمة أو عاجزة أو تزيد الطين بلة ، أو تكون مجرد ردود أفعال... ولكن أصل الرفض ظاهرة صحية تتعلق بمناعة الجسم وآليته التلقائية للدفاع. أما رفض الآخر من حيث هو فكرة فهو رفض مرضيّ. أما كيف وصلنا إليه فهذا موضوع آخر يحتاج إلى دراسة وتحليل، ويحتاج إلى قراءة في تاريخ الاجتماع الإسلامي وتاريخ العقل المسلم وتاريخ الممارسة الإسلامية في الفكر والفعل الحضاري ولكن بشكل عام وصلنا إلى الرفض المطلق للآخر عندما وصلنا إلى الضعف المطلق.[iii]

فبقدر شعورك بالضعف بقدر رفضك للآخر ، وبقدر إحساسك أن أساس بيتك غير متماسك وأن أوراقك ستطير فإنك ستغلق النوافذ من أجل أن لا يأتي الريح ويجتاح أساس بيتك و أوراقك، ولكنك عندما تغلق لتستقر تنسى أنك تغلق ضد الهواء وضد الأكسيجين فتموت وتختنق وتكون آمنا وثابتاً ودافئاً ومختنقاً. والذي حصل أن المسلمين بدأوا يخافون من الآخر ويرفضونه بقدر إحساسهم بالضعف، كالأم التي تخاف على ابنها بشكل مرضيّ ، فيكون عندها حالة عاطفية بعد خروج ابنها من الرحم فتنسى وتخلق له رحماً عاطفياً وسلوكياً وتنسجه من حوله، ويكبر الولد أحياناً ويتزوج وما زالت الأم تتعامل معه وكأنه داخل رحمها.

فالخوف المرَضِي على الولد هو الذي يؤدى إلى أن تحاول أن تحميه من الريح والأمراض بعزله ، ولو أنها مكنته من عملية التحصين الداخلي وقذفت به في الحياة لكي يفعل ويغامر ويتغير وينتج لكان مصدر فخر لها. ولهذا الخوف من الآخر قرين الإحساس بالضعف وفي تاريخ الإسلام انفتح المسلمون على الثقافات الأخرى والحضارات الأخرى والعلوم الأخرى بدون عقدة خوف واستوعبوها وهضموها ، وفككوا بناها ولم يخضعوا لمنطقها، وتعاملوا معها كما يتعامل البناء الماهر الذي يأتي وليس عنده مواد أولية كافية فيهدم بناء قديم ويحافظ على المواد الأولية في البناء ثم يعيد ترتيبها في منظومة عبقرية جديدة منافية وهذا هو الذي فعله الإسلام: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" . جاء النبي صلى الله عليه و آله وسلم إلى المنظومة الجاهلية فهدم قواعد ترتيبها دون أن يبيدها، فقواعد القوة العسكرية التي وجدها النبي صلى الله عليه وسلم في مجتمع الجاهلية حول وجهتها إلى الجهاد من الاقتتال على الكلأ والماء والسلب والنهب إلى غير ذلك. وكذلك وجد النبي في القوم مهارة في التجارة تركها ولكن وضع لها ضوابط، فلا احتكار ولا ربا ولا حمى ولا غش ولا ضرر ولا ضرار. فالإسلام لم يتعامل مع الجاهلية بمنطق النفي والإقصاء بل تعامل بمنطق جدلي فيه أخذ وعطاء وإعادة ترتيب، فالإسلام أخذ كل قوى الجاهلية وأعاد توظيفها بمنطق البناء الهادف.

والقرآن الكريم يقدم هذا الدرس، فالقرآن الكريم يفخر في ستة مواضع بأنه قرآن عربي.رغم أنه لم يستعمل من العربية كل مفرداتها حوالي 98 ألف كلمة،فلم يستنفد القرآن الكريم العربية حتى يذهب إلى سواها. فالقرآن عربي والمفروض انه لا يحتاج إلى لغة أخرى وعمليا مازال عنده وفرة من الكلمات، فلماذا يعتمد القرآن مائتي كلمة من تسع لغات؟. هذا درس في الانفتاح على الآخر، وإن إثبات هويتك كعربي لا تتم إلا بالانفتاح على الآخر وعناصر بناء الآخر وإعادة تشكيلها. فتمام الهوية يتم بالانفتاح على هوية الآخر، ولا تعيش هوية بذاتها أبداً بل تموت بالعزلة والتقوقع. وقد سألت المفكر روجيه جارودي أن يلخّص لي بكلمات قليلة كيف انتقل المسلمون من العظمة إلى الانحطاط (وهو عنوان لأحد كتبه)، فأجابني:" عندما أحس المسلمون أنهم مستغنون عن الآخر".

ينغلق الإنسان ويبدأ يتساقط و يتحات ويتفتت ويموت لأنه لم يعد يؤمن بأن شروط تماسكه تتمثل بأن يتقوى ويتحصن بالآخر. لقد اعتمد القرآن الكريم مائتي كلمة من تسع لغات أهمها: العبرية والآرامية والفارسية والإغريقية واللاتينية والسريانية والحبشية ، وقد جمعها السيوطي في كتابه المهذب فيما وقع في القرآن الكريم من المعرب وجمعها الجواليقي، وهناك علم قائم اسمه "المعرب من القرآن" . والقرآن الكريم لم ينفتح على كلمات ثانوية بل انفتح على كلمات أساسية هي مفاتيح معاني في بابها. فمن الآرامية أخذ القرآن الكريم أهم العبارات الدينية الأساسية فـ(صلاة) أصلها (صلوة) وزكاة أصلها (زكوة) وجهنم أصلها (غهنم) من الإغريقية وأخذ الصراط وأصلها (سراطا) من اللاتينية.

وكان بعض علماء اللغة أقرب إلى الإضحاك عندما رفضوا هذا وقالوا أنه لا ينسجم أن يكون القرآن عربياً وفيه هذه الكلمات ، لأنهم يفهمون الهوية أنها توجه ضد الآخر واستغناء عن الآخر ، فبدأت عملية التأويل المبتذلة كما فعل ابن فارس في معجمه العبقري الفريد"مقاييس اللغة" بما وصل به إلى الإضحاك والابتذال لإثبات استغناء القرآن عن الآخر بتوجه منغلق متعجرف، مثل رفضه رد"صراط" إلى staraاللاتينية، وتأويله ذلك بأن الشارع الكبير(صراط) مشتق من "سرطته الطريق!"

وقد اكتشف العلماء مثل السيوطي والجواليقي هذه الأصول ، فانفتاح القرآن على هذه المعاني الجوهرية المتعلقة بالصلاة والزكاة وغيرها والانفتاح عليها في لغات الآخرين هو درس لنا أننا لا نعيش إلا بالانفتاح على الآخر وليس هناك عقدة من الآخر . وأتصور أنه لو استبيح النص القرآني لا قدر الله لتلاعب الناس كما استبيح النص المسيحي والنص اليهودي[iv]. لكانت هذه المئتي كلمة قد استؤصلت في عصر الانحطاط استئصالا . والحمد لله أن هذا الاستئصال كان تأويلياً فقط فبقي الأمر على عهدتهم ولم يدخل إلى صلب النص القرآني. فالانفتاح على الآخر ليس مشكلة والخوف من الآخر هو ظاهرة مرضية. وإن كان رفض الآخر ليس دائماً مرضياً، إذا كان رفضاً للممارسات العدوانية والتصورات المتحيزة وللإلغاء والإقصاء.

[i]ينبغي التمييز في هذا الصدد بين مصطلحي (الكلام) و (القول).فالكلام في القرآن واحد، بما هو كلام الله، أما القول فمتعدد، بما أن القرآن يتضمن أقوالا عديدة: الله-الأنبياء-الناس-الجن-الشياطين-أهل الكتاب-المشركون-شخصيات القصص القرآني-إبليس- المنافقون-الأعراب-مؤمن آل فرعون...الخ

[ii]وهنا أشير إشارة صغيرة، ففي تاريخ علوم القرآن طرحت قضية ترتيب القرآن الكريم، حيث نزل بترتيب وكتب بترتيب آخر. وفي هذه القضية أبعاد وحكم وأسرار. فالقرآن الكريم في صيغته الأصلية في تنزله الأول إلى السماء الدنيا كان على الترتيب الذي عندنا الآن . ولكنه وقف في السماء الدنيا كما يجمع أغلب علماء تاريخ القرآن إلى أن بدأ ينزل التنزل التالي على الأرض ضمن منطق تاريخي متميز استثنائي محصور هو منطق حركة التاريخ في مكة والمدينة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبما أن منهج القرآن هو منهج تعليم بالأحداث والتربية بالأحداث والارتباط بالأحداث، فقد ارتبط بالعلوم النقـلية الثلاث: أسباب النزول والمكي والمدني والناسخ والمنسوخ ، فكان لا بد من أخذ وفهم نصوص القرآن بمنطق يخضع لحركة التاريخ في الزمان والمكان .

ولما انتهت علاقة تنزل القرآن بحركة التاريخ عند وفاة الرسول صلى الله عليه و آله وسلم، عاد النص مطلقاً كما كان فوق الزمان والمكان . وهكذا نستطيع أن نفهم النسبي والمطلق في تقسيم القرآن الكريم و نسبية حركة الزمان والمكان فلا تنزل آية التيمم مثلاً إلا والمسلمون في اليوم الذي حصل فيه ما يتطلب ذلك، ولكنها تعود إلى نسقها في سورة النساء في سياق التعليم في الترتيب الذي يصلح لكل زمان ومكان.

[iii]ينظر كتابي، "معضلة العنف: رؤية إسلامية" فصل: "الوعي المفارق" لمعرفة هذه الأسباب
[iv]حتى صارت الحركات النسانية المتمركزة حول الأنثى تفترض في بريطانيا أن يغيروا (son of God)إلى (child of God)لأجل أن لا يكون هناك تميز بين الذكر والأنثى.


من مواضيع : kumait 0 تأملات في فتوى جهاد النكاح
0 وجه واحد!
0 هل الهاتف المحمول كان موجودا عام 1938؟
0 الاعلام العربي و أشكالية الضمير..
0 الأرض تستعد لمواجهة «عاصفة شمسية مدمرة»
رد مع اقتباس