عرض مشاركة واحدة

الصورة الرمزية *سماء العشق*
*سماء العشق*
عضو نشط
رقم العضوية : 19658
الإنتساب : Jun 2008
المشاركات : 179
بمعدل : 0.03 يوميا

*سماء العشق* غير متصل

 عرض البوم صور *سماء العشق*

  مشاركة رقم : 3  
كاتب الموضوع : *سماء العشق* المنتدى : منتدى العقائد والتواجد الشيعي
افتراضي
قديم بتاريخ : 08-04-2010 الساعة : 10:04 PM



تطور علاقة المتاولة بعبد الله باشا:
خلف سليمان باشا على ولاية عكا عبد الله باشا بن علي باشا عام 1234هـ/1819م، وهو أحد مماليك الجزار أيضاً(90) وربيب سليمان باشا وزوج ابنته. وقد ترحم الناس على الجزار ونسوا جوره
بسبب ما لاقوه من جور وعسف عبد الله باشا(91)، الذي كان غُرّاً سافلاً يحيط به أرباب الهزء والهزل(92).
ورغم العنف الذي سلكه عبد الله باشا بسكان ولايته، لكن علاقته بالمتاولة العامليين يبدو أنها كانت في أحسن صورها. ففي سنة 1237هـ/1821م، كتب عبد الله باشا إلى الشيخ فارس الناصيف وبقية مشايخ
المتاولة، برغبته في إعادة حكم بلاد جبل عامل لهم، أي بلاد الشومر وبلاد الشقيف، كما كتب لهم في رغبته برفع المتسلمين منها وأنه ينوي أن يشكل فيها رابطة مهمتها توريد الأموال الأميرية كما كان الحال زمن
المتسلمين الذين كانوا يعينون من جانب الباشا. ووضح لهم أنه سوف يترك لهم خمسين ألف قرش كل عام، ومائة غرارة شعير، شريطة أن يكون عندهم ألفي خيال ومقاتل يكونون تحت إمرته وقتما احتاج لهم(93)
كما يؤكد حيدر الشهابي.
رفض مشايخ المتاولة هذا العرض بادىء الأمر لخشيتهم من الغدر. وبعد عدة مشاورات، أرسل هؤلاء في استشارة الأمير بشير الشهابي، الذي أشار عليهم بأن الوالي عبد الله باشا في حاجة ماسة لمجهوداتهم
نظراً لتوتر علاقته بوالي دمشق درويش باشا، وبيّن لهم أن ذلك في مصلحتهم لاستعادة حكم بلادهم كما كانت في السابق. ومهما يكن من أمر فإن عبد الله باشا كتب للشيخ فارس الناصيف ومشايخ المتاولة صكاً بإعادة
حكم جبل عامل لهم، وأرسل لهم الخلع كما كانت عادة آبائهم من قبل. وبدأ هؤلاء المشايخ يهتمون بتدبير الخيل والسلاح والمقاتلين من بلادهم حسب ما أمرهم به الباشا. ناهيك عن أن الباشا منحهم أيضاً منطقة
مرجعيون، وفرض عليه مالاً معلوماً كما كان الوضع زمن المتسلمين من قبلهم(94).
ويقول حسن حيدر الركيني المؤرخ العاملي: "وفيها (أي سنة 1237هـ) في شهر جماد الأول طاب خاطر عبد الله باشا على المتاولى (المتاولة) وردهم إلى مطارحهم" (95).
ولو قارنا بين روايتي حسن حيدر الركيني وحيدر الشهابي، فسوف نلاحظ أن الركيني إنما قصد إلى رد المتاولة إلى أماكنهم في حكم بلادهم التي حرموا منها طيلة عهد الجزار وسليمان باشا من بعده.
ورغم اختصار عبارة الركيني، لكنها أصدق دلالة مما أورده الأمير حيدر الشهابي مع إسهابه وذكره لأمور لا مبرر لها. فلم يكن هناك أساساً أي خلاف بين مشايخ المتاولة وعبد الله باشا، ولم يكن هنالك أي مبرر
لدواعي الحذر والخوف منه كما كان حالهم مع الجزار وسليمان باشا. وبالتالي فلا داعي للجوء هؤلاء المشايخ إلى مشورة الأمير بشير كما ذكر حيدر الشهابي.
ومما يزيد الأمور وضوحاً أن الباشا نفسه هو الذي عرض عليهم العودة إلى ما كانوا عليه دون الحاجة إلى وساطة طرف ثالث. فحيدر الشهابي لم يقصد من وراء ذلك إلاَّ الإيهام بأن المتاولة ما كانوا سوى
أتباع للأمير بشير، لا يخطون خطوة بغير مشورته. أو إن جاز التعبير – قُصّاراً (قصيري النظر في الشؤون السياسية).
وفيما يخص الشرط الذي اشترطه عبد الله باشا بتدبير ألفي مقاتل يكونون على أهبة الاستعداد لمعاونته في أي حرب يشترك فيها كلما دعاهم إليها، فليس بالشيء الجديد ولا بالبدعة التي ابتكرها عبد الله باشا،
فسليمان باشا من قبل اشترط عليهم نفس الأمر مع فارق جوهري وأساسي أن سليمان لم يعيدهم إلى حكم كامل بلادهم، ولم يعوضهم شيئاً من النفقات الإضافية بعكس ما فعله معهم عبد الله باشا. ناهيك عن أن عبد الله
باشا كان وقتذاك في أمس الحاجة لخدمات المتاولة، خاصة وأن الأجواء السياسية بينه وبين درويش باشا والي دمشق يُشتم منها رائحة البارود.
خلاصة القول إن اتفاقية الصلح التي كانت قد أُبرمت فيما مضى بين مشايخ المتاولة وسليمان باشا أُعيد تعديلها في عهد عبد الله باشا لصالح هؤلاء المشايخ، مما أدى إلى ازدياد رسوخ الاستقلال السياسي
لمتاولة جبل عامل في عهد عبد الله باشا.
على أية حال، أتت سياسة عبد الله باشا تجاه المتاولة أُكلها، ففي نفس السنة أي في رجب 1237هـ/1821م، اشتد الصراع بينه وبين درويش باشا والي دمشق، وتمكن عبد الله باشا من استمالة بعضاً من
مشايخ بلاد نابلس، مما أدى إلى حدوث انقسام بين أهالي تلك البلاد، فانقسموا إلى فريقين تقاتلا فيما بينهما، فاضطر درويش باشا إلى إرسال نائبه فيزو باشا بالعسكر إلى بلاد نابلس(96).
فما علم عبد الله باشا بوصول فيزو باشا إلى صحراء المزيريب، حتى أرسل قواته ومن ضمنها عساكر المتاولة بزعامة الشيخ فارس الناصيف وعسكر الأمير بشير الشهابي إلى جسر بنات يعقوب وجسر
المجامع لمنع قوات درويش باشا من العبور. ودارت عند جسر بنات يعقوب معركة انتهت بهزيمة قوات دمشق واستيلاء عسكر عبد الله باشا على أسلاب ومدافع وذخيرة المهزومين، إضافة إلى الكثير من الأسرى،
ووقوع عدد من القتلى بينهم(97).
ويؤكد حسن حيدر الركيني صحة اشتراك المتاولة في هذه الوقعة بقوله: "وفي شهر رجب (1237هـ) صارت بين عبد الله باشا وبين باشت (باشا) الشام درويش باشا وقعة على جسر بنات يعقوب
وكانت الغلبى (الغلبة) على عسكر باشت (باشا) الشام وأخذوا منه الهاون والمدافع وكانوا المتاولى (المتاولة) مع عبد الله باشا"(98).
كما أكد الشيخ على سبيتي اشتراك المتاولة في معركة جسر بنات يعقوب غير أنه جعل المعركة عام 1236هـ(99).
تفاقمت الأمور بين الوزيرين وازدادت سوءاً، بعدما أرسل درويش باشا كتاباً للأمير بشير الشهابي يعلمه فيه بأن الدولة العثمانية أنعمت عليه بولاية صيدا ويافا وطرابلس وبقية الأقاليم التي بيد عبد الله باشا،
إضافة إلى منصبه الحالي كوالي لدمشق، ولكن الأمير بشير لم يرد جواباً لدرويش باشا، ولتوه أرسل الكتاب المذكور إلى عبد الله باشا الذي أمره بجمع المزيد من أهالي لبنان والسير إلى جسر بنات يعقوب. وفي
تحدٍ صارخ من عبد الله باشا لوزير دمشق أمهر إمضاءه بالتالي: "السيد عبد الله باشا أمير الحج ووالي دمشق وصيداء ويافا وطرابلس الشام حالاً"(100).
وهذا يعني في التحليل الأخير، أن عبد الله باشا عقد العزم لوضع نهاية لمستقبل درويش باشا السياسي وعزله عن حكم دمشق بالقوة.
حاول الأمير بشير إثناء عزم عبد الله باشا عن مهاجمة دمشق لأنها حسب تعبيره "باب الكعبة"، أي المكان الذي يتجمع فيه الحج الشامي في طريقه إلى الحجاز, ووصل إلى عكا لمقابلته في 26 شعبان 1237
هـ/15 آيار (مايو) 1821م، في محاولة لإقناعه بالعدول عن مخططه، ولكن حُسن الضيافة التي لقيها الأمير والهدايا الثمينة التي قُدِِمّت له جعلته يعدل عن رأيه والخروج بنفسه إلى جسر بنات
يعقوب(101).
تابعت قوات عبد الله باشا وحلفائه مسيرهم باتجاه دمشق، ما دعا درويش باشا للخروج إلى "المزة" – نسبة إلى البلدة التي جرى فيها القتال – للتحصن بها استعداداً للحصار الذي فرضه بعد قليل
أهالي عكا واللبنانيون دروزاً وشيعة (متاولة). ودارت رحى معركة شرسة انتهت بهزيمة عساكر الشام وإحراق المزة ومقتل الكثير منهم إضافة إلى وقوع الكثير من الأسرى والغنائم(102).
اضطر درويش باشا للالتجاء إلى قلعة دمشق، كما لجأ أهالي دمشق وقراها بالمدينة وابتنوا المتاريس(103)، ولكن سرعان ما سلّم الأهالي وأصبحت دمشق خاضعة لنفوذ عبد الله باشا بعد خروج درويش
باشا منها(104).
ولما وجدت الدولة العثمانية أن عبد الله باشا صار أقوى رجل في الشام ولا يمكن التغلب عليه، اضطرت للاعتراف به، وضمت إليه ولاية دمشق واتسع ملكه(105).
كانت الدولة العثمانية تعيّن قضاة من الشيعة في مقاطعات جبل عامل الثمان باسم نائب وذلك أيام حكم العشائر. وفي عهد عبد الله باشا تم تعيين الشيخ سعيد الجر الجبعي نائباً على جبع بمرسومٍ مؤرخ في عام
1240هـ/1824م، كما كان ولده الشيخ حسن سعيد نائباً عن قاضي صيدا في ناحية جبع(106).
وخلال الفترة من عام 1240هـ/1824م، وحتى استيلاء المصريين على الشام عام 47 -1248هـ/ 31-1832م، لم تورد المصادر التاريخية أية أخبار عن جبل عامل، ويبدو أن الإهمال في ذكر تلك
الأخبار لم يكن متعمداً لعدم وجود أحداث مهمة مرت بجبل عامل في تلك الفترة.
الحكم المصري للشام وسقوط الحكومة الإقطاعية الثانية:
كان لمحمد علي باشا والي مصر فضل على عبد الله باشا والى عكا، لأنه توّسط له لدى السلطان العثماني عام 1237هـ/1821م، ليعفو عنه وعن الأمير بشير الشهابي لمحاربتهما درويش باشا والي دمشق –
كما سبق الإشارة-. كما كان عليه أموال متأخرة للدولة فدفع عنه نصفها أيضاً، ولهذه المناسبة نزل الأمير بشير إلى مصر، فأكرم محمد علي باشا وفادته(107).
ويبدو أن محمد على فاتح الأمير بشيراً منذ ذلك الوقت في مسألة غزو سوريا، وعقد معه معاهدة سرية تقتضي تعاونهما إذا حدث هذا الغزو، وهذا يدل على أن فكرة ضم سوريا إلى مصر كانت تجول بخاطر
محمد علي منذ وقت طويل(108).
ومهما يكن من أمر، فقد أخذت العلاقات بين القاهرة وعكا بالتوتر، ويبدو أن محمد علي باشا أعدّ للأمر عدته وقرر تنفيذ مشروعه التوسعي بضم الشام إلى ممتلكاته لتكون خط الدفاع الأول عن حكومته في
مصر. وفي سنة 1247هـ/1831م، أرسل ابنه إبراهيم باشا بجيشٍ جرار لفرض الحصار على عكا، فاستولى في طريقه إليها على غزة ويافا وحيفا ثم أحاطت قواته بعكا بحراً وبراً(109).
ومع أن بعض الروايات التاريخية تؤكد أن الأمير بشيراً ظل من يوم ذهابه إلى مصر واتصاله بواليها محمد علي باشا حتى حصار عكا وما بعده، على اتفاق تام معه في كل شيء حتى في محاربة الدولة وتغيير
نظام الحكم في سوريا(110)، وأن الأمير المذكور قال في بعض رسائله التي أرسلها لوالي مصر قبل أن يعدَّ الأخير العدة لغزو سوريا واحتلالها "... وكلما تصدر به أوامر دولتكم فهذا العبد واقف لها على
قدم الانقياد لأنني عاهدت نفسي على دوام امتثال أوامر عطوفتكم الكريمة. وقيدت ذاتي بالإطاعة (بالطاعة) والانقياد لما به إرادة عنايتكم الوسيمة"(111).
غير أن روايات أخرى تقرر أن إبراهيم باشا أرسل في استدعاء الأمير بشير لمساعدته في الاستيلاء على عكا. ويبدو أن الأمير وافق على الحضور مضطراً، لأن محمد علي باشا أرسل إليه تهديداً صريحاً
– بعد شكوى إبراهيم باشا لأبيه من تلكوء الأمير بالرد- بتخريب ممتلكاته(112).
على أية حال، لم يعطل إبراهيم باشا نشاطه العسكري في حصار عكا، بل احتل وهو يحاصرها، المناطق المجاورة حتى صيدا(113)، ويبدو أن إبراهيم باشا ونظراً لحساسية الموقف أبقى على الوضع في
صور وصيدا وغيرهما من المدن اللبنانية كما كان زمن عبد الله باشا، ووجه أوامره إلى القضاة والمتسلمين بهذا الخصوص على أن ينادوا باسمه بالأمان(114).
يتضح مما سبق بيانه، أن إبراهيم باشا أراد بإبقاء الوضع على ما كان عليه إلى كسب المشايخ والأهالي إلى صفه ومنهم بالطبع مشايخ المتاولة، حتى لا يعملون على تعطيل تنفيذ بقية مشروعه الطموح، خاصة
وأنه يحاول جاهداً اقتحام عكا المحصنة تحصيناً قوياً عجز أمامها من قبل قائد فذ مثل نابليون بونابرت عام 1214هـ/1799م.
قرر مشايخ المتاولة مساعدة إبراهيم باشا في محاصرته لعكا، فجمعوا جيشاً اتجهوا به نواحي عكا واشتركوا مع القوات المصرية في اقتحام المدينة، وقتل منهم في الموقعة المعروفة "بواقعة البهجة"(115)
خارج عكا مائتان وأربعون ما بين فارس وراجل. وكان يقود المتاولة في هذه الموقعة الشيخ حمد البك المحمد(116).
لكن الشيخ علي الزين يشكك في صحة هذه الرواية، وبنى شكوكه على أن الظواهر التاريخية في تلك الفترة التي مات فيها الشيخ فارس الناصيف زعيم المتاولة تدل على أن المتاولة لم يكن لديهم زعامة قوية
أو قائد نافذ الكلمة يوحّد رأيهم ويدفعهم بقوة شخصيته إلى حيث يريد من حرب أو سلم(117).
وفيما يخص حمد البك كما يؤكد علي الزين، فإنه عُرف بزعامته ونفوذه السياسي بعد انهيار الحكم المصري في سوريا ولبنان. لذا، فإنه لم يكن له كيان سياسي في الفترة الواقعة ما بين سنة 1247 و 1256
هـ/1831 – 1840م، لا بين الموالين لسلطة المصريين ولا بين المعارضين لها، فالنصوص التاريخية توضح أن الشيخ حسين السلمان كان على رأس الموالين للأمير بشير والحكم المصري، وأن الشيخ حسين
شبيب بن الشيخ فارس الناصيف كان على رأس المعارضين لسلطة الأمير والحكم المصري(118).
ويبدو أن شك الشيخ على الزين كان في محله، لعدم وجود أي مصدر تاريخي يؤكد اشتراك المتاولة في معركة البهجة، حتى المصادر التي كتبها المؤرخون العامليون خلت تماماً من ذكر هذه الرواية عدا الشيخ
محمد تقي الفقيه. وما يؤكد صحة هذا الشك أن إبراهيم باشا بعد استيلائه على عكا منح الأمير بشير الشهابي بيروت وصيدا وصور، مكافأة له على ما قدمه من مساعدات له. كما منحه أيضاً الحق في أن يعيين
جميع المتسلمين وأصحاب المقاطعات وذلك في الأول من جمادى الأولى 1248هـ/1832م(119).
عيّن الأمير بشير متسلمين من أقاربه في المدن المذكورة، منهم الأمير ملحم حيدر في بيروت والأمير بشير ملحم في صيدا والأمير حسن أسعد في صور(120). وبذلك أُلحق جبل عامل بحكومة جبل لبنان
التي يتزعهما الأمير بشير الشهابي الكبير، وتم إلغاء النظام الإقطاعي وسقطت الحكومة الإقطاعية الثانية في جبل عامل(121).
ويبدو مما سبق، أن المتاولة بالفعل لم يساهموا في وقعة البهجة، ولم يساعدوا الجيش المصري في اقتحام عكا، وإلاَّ لكان إبراهيم باشا قد وطدّ نفوذهم في بلادهم كعرفان بالجميل، ولكن منحه بلادهم للأمير بشير
وإلغاءه لدورهم السياسي في المنطقة لم يكن له سوى مدلول واحد، هو عدم إسهامهم في حروبه عند عكا.
ويعود السبب إلى ضم جبل عامل إلى إمارة جبل لبنان والخلاف المستحكم بين أهالي لبنان وأهل جبل عامل، إلى الأحقاد بين أصحاب الإقطاعات من زعماء البلدين المتغلغلة في النفوس والسارية سريان الدم في
العروق(122). وقد عامل الأمير بشير سكان جبل عامل المتاولة في ظل الحكم المصري معاملة تتسم بالشدة والعنف، ونكلّ بزعمائه وعلمائه مما اضطر معظمهم إلى الاختفاء في دمشق والهرب إلى العراق وإيران
والهند، فأسهموا في نهضة تلك البلاد العلمية(123)، كما كان شأنهم زمن حكم أحمد باشا الجزار. وهذا ما يؤكد ما سبق الإشارة إليه من أن المتاولة لم يكونوا منقادين للأمير بشير.
رفضت صيدا أن تخضع لحكم الأمير بشير ملحم. وتزعم هذه المعارضة فيها القاضي الشيخ "يونس البزري" وأخوه المفتي، لأن الأمير المذكور كان يناقض أحكامه بغير علم فقه. فهيّج بعضاَ من
أهالي المدينة وأتى بهم بالسلاح إلى السرايا لطرد الأمير منها، فاضطر الأمير إلى رفع شكواه إلى الأمير بشير الشهابي الكبير، الذي بدوره رفع الأمر إلى إبراهيم باشا فأمر بإلقاء القبض على القاضي والمفتي ومن
ساعدهم على الثورة وإرسالهم إلى عكا. ثم أمر بقطع رأس كل من شهر سلاحه في وجه المتسلم الأمير بشير ملحم، وتم تنفيذ الحكم على باب البلدة(124).
وما لبث أن عُزل الأمير بشير ملحم عن متسلمية صيدا في 15 شعبان 1248هـ، وتولى مكانه الأمير سلمان ابن الأمير السيد أحمد، ولكن سرعان ما تم عزل الأخير بأمرٍ من إبراهيم باشا في العام التالي دون
إبداء سبب لذلك، وتولى صيدا بعده متسلم من أصل تركي يسمى عريف أغا(125).
كان الجيش، في الواقع، عماد الإدارة المصرية في بلاد الشام ولهذا فإن توطيد الحكم المصري فيها كان يقتضي بالضرورة تدعيم الجيش والقضاء على العناصر المناهضة له، فطبق إبراهيم باشا سياسة التجنيد
الإجباري في عام 1250هـ/1834م(126)، مما أثار الأهلين، بعد ما تضرر اقتصاد الريف تبعاً لذلك، حيث كانت تلك الخدمة الإلزامية مدى الحياة. وهذا يعني أن الفلاح المُجند كان مضطراً إما أن يستأجر غيره
لزراعة الأرض أو بيعها(127). ونظراً لتفشي هذه الظاهرة انتشرت عادة الاحتماء بالقنصليات الأجنبية، أو الهجرة إلى خارج البلاد، أو تشويه الأعضاء لتحاشي الخدمة العسكرية(128).
وازداد الأمر سوءاً عندما أمر إبراهيم باشا بنزع السلاح من الأهلين بحجة توطيد الأمن في البلاد، وهو ما لم يعتدوه من قبل، وكان له وقع سئ على نفوسهم بما فيه الكفاية(129). وصدرت الأوامر بنزع
سلاح جميع الطوائف دون استثناء من دروز ومسلمين ومسيحيين، مما أدى إلى نشوب ثورة عارمة ضد الحكم المصري(130).
ويؤكد المؤرخ العاملي الشيخ علي سبيتي أن نظام التجنيد الإجباري قد طُبق في بلاد بشارة عام 1251هـ، من دون نظام أو قرعة، مما دعا إبراهيم باشا إلى تسليط الأمير بشير الشهابي الكبير على تلك البلاد،
وعمل على تخريبها(131).
كما يؤكد الأمير حيدر الشهابي في تاريخه أن الأمير بشير، قام بجمع السلاح من أهالي صور والمتاولة وبقية المناطق المجاورة لهم(132).
أضرمت نيران الثورة في جميع أنحاء سوريا سنة 1250هـ/1834م، ضد الحكم المصري، ومنها ثورة النصيرية في جبال اللاذقية، فقصد الأمير بشير بلادهم لنجدة المصريين في قتالهم، وتمت هزيمة النصيرية
وإحراق الكثير من قراهم(133). كما ساهم بعضٍ من مشايخ المتاولة في مساعدة المصريين في القضاء على ثورة النصيرية، منهم الشيخ حسين السلمان(134) الذي كان يرافقه سبعون خيالاً من
المتاولة(135)، وتمكن اللبنانيون من التنكيل بالثوار النصيرية وإرغامهم على التسليم والقضاء على ثورتهم(136).
واندلعت أيضاً الثورة في جبل عامل سنة 1252هـ/1836، بزعامة حسين شبيب بن الشيخ فارس الناصيف وأخيه محمد علي بك، واستمرت ثلاث سنوات هاجموا فيها مراكز الحكومة وطردوا عمالها ونكلّوا
بجنودها، فطلب إبراهيم باشا من الأمير بشير سرعة القضاء على هذه الثورة، فأرسل الأخير ابنه الأمير مجيداً وكان شاباً نزقاً متغطرساً إلى جبل عامل، واشتبك مع الثوار في عدة وقائع ولم يظفر بهم، وعندما عجز
عن إخضاعهم ضيق الخناق على أهلهم وأقاربهم(137).
حاول وجهاء البلاد إقناع زعيمي الثورة بالتسليم مقابل حفظ حياتهما، فرفضا وغادرا البلاد مع أنصارهما إلى حوران والمناطق القريبة من دمشق، ولما علم شريف باشا حكمدار الشام بمكانهم بوشاية من أحد
مشايخ الدروز، أرسل عليهم فرقة من عسكره أحاطت بهم، فألقى القبض على حسين شبيب، بينما تمكن أخوه محمد علي بك من الفرار(138).
وتابع الأمير مجيد التنكيل ببقية زعماء الشيعة وتضييق الخناق عليهم، وألقى القبض على الشيخ فضل حفيد الشيخ حيدر الفارس حاكم بلاد الشقيف وزعيم الصعبيين وألقاه في السجن عدة أشهر وأمر
بتعذيبه(139).
ولم يعدم جبل عامل الثوار، ففي سنة 1256هـ/1840م، خرج ثائر آخر من المتاولة يدعى "أحمد داغر" قاد الثوار ضد الحكم المصري في ضواحي بيروت وجبل عامل، حتى تمكن الشيخ حسين السلمان
الموالي لعهد الأمير بشير والمصريين من إلقاء القبض عليه وقتله وإرسال رأسه إلى مدينة بيت الدين مقر حكومة الأمير بشير(140).
ولم يرحم الحكم المصري زعماء الثورات التي قامت ضده، واستعمل شتى الطرق القاسية لتكون إرهاباً وعبرة أمام الشهود إن اتبعوا نفس الطريق. وتكررت مسألة إعدام الثوار جزاء لما قاموا به من تمرد
ضد الوجود المصري(141)، كما في حالة حسين شبيب وأحمد داغر. وتعددت الوسائل وأهمها الذبح على باب المدينة(142)، كما حدث أثناء ثورة أهالي صيدا وإعدام قاضي المدينة أمام أبوابها – كما سبق
الإشارة -.
أما أهم الثورات التي انفجرت في جبل عامل ضد الوجود المصري عام 1256هـ/1840م، فقد قادها "حمد البك"(143) في الوقت الذي كانت فيه أرجاء بلاد الشام تعج بالثورات لطرد المصريين.
وانضم أو إن صح التعبير تحالف المسلمون والدروز والمسيحيون في حركة شعبية لتحقيق هذا الهدف. وتألبت وتكاتفت الدولة العثمانية والدول الأوروبية معاً لتصعيد التمرد في سوريا من ناحية، ولوضع حدٍ للوجود
المصري في تلك البلاد من ناحية أخرى(144).
كان حمد البك، يرقب الحوادث ويتحيّن الفرص للانقضاض على المصريين، وبعد اتفاق الدولة العثمانية والأوروبيين على انتزاع سوريا من محمد علي باشا وإعادتها للحكم العثماني، ووصول الجيش العثماني
إلى حلب ترافقه الأساطيل الإنكليزية بحراً، رفع حمد البك علم الثورة، واصطدم بالأمير مجيد الشهابي عند جسر القاقعية عندما كان الأمير المذكور ينوي مهاجمة جبل عامل، فردّه على أعقابه. ثم انضم للجيش
العثماني بعدما وصل إلى حمص، ولفتت بسالته وحُسن تدبيره نظر عزت باشا القائد العام للجيش العثماني، فعينه حاكماً عاماً على جبل عامل مع لقب شيخ مشايخ بلاد بشارة وعهد إليه بمطاردة الجيش المصري في
الجنوب(145).
وصل الأسطول البريطاني ترافقه سفن حربية نمساوية وعثمانية قبالة بيروت في آب (أغسطس)1840م، وبدأوا بقذفها بالقنابل لإرغام المصريين والأمير بشير على تركها، وأعقبها نزول القوات العثمانية
بالقرب منها. وتحت هذا الضغط القوي سواء الداخلي المتمثل في الثورات المحلية أم الخارجي، فإن نظام الحكم لإبراهيم باشا والأمير بشير بدأ سريعاً بالتفتت(146).
ازداد الضغط الدولي ضد المصريين، ففي 24 أيلول (سبتمبر)، انتقلت السفن الحربية إلى صور وأطلقت نيرانها على الحامية وتمكنت من تشتيت شملها ونزل الجنود إلى البر واستولوا عليها(147)، وألحقوها
بالاستيلاء على صيدا(148). وهذا يبدو من تقرير السيد "أنطون كتافاكو Antonio Catafago" قنصل النمسا في صيدا سنة 1840م، إلى السيد "لوران Laurin" القنصل العام
النمساوي في معسكر جونيه(149).
ومهما يكن من أمر، فالحكم المصري وحكم الأمير بشير في لبنان بلغا دور الاحتضار السياسي والعسكري، بعدما غادر الأمير بشير قاسم ملحم معسكر المصريين القريب من بيروت وانضم إلى معسكر الحلفاء
في جونيه، ويبدو أن الأمير بشيراً الكبير نفسه قد أبلغ الحلفاء سراً رغبته بالانضمام إلى صفوفهم وطلب منهم منحه مهلة لاستدعاء أولاده وأحفاده من معسكر إبراهيم باشا، فمنحوه ثمانية أيام. ولما انتهت المهلة في
9 تشرين الأول (أكتوبر) دون أن ينضم لهم، صدر فرمان بعزله وتولية الأمير بشير قاسم ملحم الشهابي المعروف (بأبي طحين) مكانه(150).
أدت تداعيت الموقف وتضعضع نفوذ إبراهيم باشا وعزل الأمير بشير الكبير إلى تطوع متاولة جبل عامل في صفوف العثمانيين وتسلمهم السلاح، كما أكد ذلك السيد أنطون كتافاكو قنصل النمسا في صيدا في
تقريره المؤرخ في 10 تشرين الأول (أكتوبر) 1840م(151).
ونظراً لقلة عدد جيش الحلفاء المنوط به مطاردة فلول جيش إبراهيم باشا، لذلك كانت الدولة العثمانية وحلفاؤها بحاجة ماسة إلى قوى شعبية تعزز بها قوى جيشها لمطاردة المصريين وصيانة البلاد من أي
ثورة مضادة وخاصة عندما تسلم الجنرال "جقموس باشا" قيادة جيش الحلفاء المكوّن من تركيا وبريطانيا والنمسا ونقل مركز قيادته إلى صفد استعداداً لمطاردة الجيش المصري، ومضايقته عندما يجتاز فلسطين في
طريقه إلى مصر(152)، ومن حكام المقاطعات الذين دُعوا للانضمام إلى تلك القوات في صفد، حمد البك شيخ مشايخ المتاولة، كما يتضح من نص الخطاب الذي أرسله جقموس باشا إليه في 6 ذي القعدة سنة 1256
هـ(153).
بعد سقوط المدينة تلو المدينة خاصة عكا ويافا في تشرين ثاني (نوفمبر) 1840م، انسحب إبراهيم باشا تماماً من الأراضي الشامية(154).
حكومة حمد البك في جبل عامل وبداية الحكومة الإقطاعية الثالثة:
ثمة سببٌ دعا المتاولة إلى تبديل خطتهم القديمة وتقاليدهم التاريخية التي درجوا عليها من مناوأة الولاة العثمانيين وعدم الاعتراف بسلطتهم، واشتباكهم بحروب دامية مع ولاة عكا وصيدا ودمشق. إن هذا
الانقلاب في المواقف يعود في المقام الأول إلى الأخطاء التي اقترفها الحكام الشهابيون بحقهم وما تركوه من أثرٍ غير محمود في جبل عامل، لذلك اضطر المتاولة إلى تعضيد الدولة وإجابة طلبها في الانضمام إلى
صفوفها، ووقعوا العرائض ورفعوها للباب العالي ضد الشهابيين(155).
وثمة سببٌ آخر، دعا المتاولة للانضمام إلى الصف العثماني، متمثلاً في عدم تحسن أوضاعهم السياسية والمعيشية تحت الحكم المصري – كما سبق الإشارة -، وتعمد إبراهيم باشا إلى إلغاء دورهم السياسي
في إقليم جبل عامل تماماً وتهميشهم، وتعيين متسلمين شهابيين عليهم، كانوا شديدي الوطأة في التعامل معهم.
على أية حال، انتهى الحكم المصري لبلاد الشام، وعادت تلك البلاد إلى حكم العثمانيين المباشر، وتم تعيين "حمد البك" حاكماً عاماً في جبل عامل، وأغدقت الدولة عليه بالعطايا الثمينة، وفوضت إليه حكومة جبل
عامل كما كان حال أسلافه من قبل(156). وانتدبه العثمانيون لتأديب عرب اللجا في حوران بعدما نبذوا طاعتهم، فجهز حملة من جنده وأنصاره سنة 1269هـ/1852م، وخرج بها إلى جسر بنات
يعقوب(157). ولكن انشغال العثمانيون بحربهم مع الروس حملهم على التصالح مع عرب اللجا والعدول عن خطتهم، وأوعزوا لحمد البك بالرجوع إلى تبنين مقر حكمه بعد أن نال ثقة رجال الدولة
وثناءهم(158).
ويبدو أن العثمانيين حاولوا استغلال الثورة التي حدثت أواخر عهد الحكم المصري سياسياً، فعندما تم تعيين عمر باشا النمساوي حاكماً على جبل لبنان سنة 1258هـ/1842م، بدلاً من الأمراء الشهابيين، رفض
جل نصارى لبنان الاعتراف به، وأصروا على إعادة هؤلاء الأمراء للحكم تساندهم فرنسا. بينما بقي الموقف العثماني على حاله من رفض عودة هؤلاء الأمراء تعاضدها بريطانيا(159).
وسعى العثمانيون بشتى السبل للفوز بتأييد الأهالي لهذا الرفض، فوسعوا صلاحية حمد البك وعززوا نفوذه وطلبوا منه أن يجمع التواقيع على العرائض المحررة في مدح الحكم العثماني المباشر واسترحام الدولة في
صون البلاد من الحكم الشهابي الجائر(160).
لم يعط المؤرخون أية معلومات تاريخية عن الفترة التي أعقبت توسيع صلاحية حمد البك وتعزيز نفوذه وحتى وفاته – كما سيأتي بيانه.
حكومة علي بك الأسعد:
بعد وفاة حمد البك سنة 1269هـ/1852م، خلفه علي بك الأسعد بمعاونة أخيه محمد بك الأسعد(161)، واستمر في حكمه ثلاثة عشر عاماً حتى سنة 1282هـ/1865م، وكان لقبه الرسمي في المراسلات
الحكومية رئيس العشائر وشيخ مشايخ بلاد بشارة كما كان أسلافه من قبل، ويعد عصره بحق عصر الشيعة الذهبي في العهد الأخير في جبل عامل، حيث ساد الأمن، وانصرف الأهالي للزراعة، وارتفع شأن الشيعة.
كما ازدهر الأدب العاملي وانتعشت اقتصاديات البلاد وكان للقطن والتبغ العاملي سوق رائجة في مصر وغيرها من البلدان(162).
وتجدر الإشارة إلى أن عهد على بك الأسعد في السياسة والرياسة والأدب كان استمراراً لعهد عمه حمد البك رغم الاختلاف في الظروف بين العهدين. عهد الانتقال من حكم المصريين والشهابيين إلى حكم
العثمانيين المباشر وما رافق ذلك من تطورات وملابسات في أيام حمد البك وعهد الاستقرار في مقاطعات جبل عامل وتغيير الأنظمة الإدارية والمالية في أيام علي بك تغييراً جعل حكام المقاطعات موظفين مسئولين عن
واجباتهم القانونية والإدارية تجاه المراجع العليا في الدولة وتجاه النابهين من أهالي البلاد(163).
غير أن جهل الحكام بالأنظمة الجديدة أو تهاونهم بها، واسترسالهم مع التقاليد العائلية والإقطاعية بذخاً واستهتاراً واعتسافاً قلل من شأنهم لدى المراجع العليا في الدولة وأدى بعلي بك وأخيه محمد بك في
النهاية إلى الاعتقال كما أدى بغيرهم إلى الإقالة(164).
ومهما يكن من أمر، فإن أهالي جبل عامل استفحل أمرهم في عهد علي بك الأسعد وأخيه، فأصبحت قصور تبنين محط الرحال ومقصد الوفود، فبسطوا نفوذهم على الأقاليم المجاورة وأنشأوا علاقات ودية مع
أمراء البادية ومشايخ القبائل كآل المزيد رؤساء عشيرة بني حسن من غزة، وآل الدوخي رؤساء قبيلة ولد علي من غزة، وآل الحاسي رؤساء الهوارة والهنادي(165).
واستعانت حكومة الإيالة في بيروت بعلي بك لقمع الثورات وإخماد الفتن التي حصلت في أرجاء البلاد، ومنها ثورة جبال النصيرية التي تزعمها إسماعيل خير بك والد هواش بك الزعيم العلوي الكبير ورئيس
عشيرة المتاورة المعروفة بشدة البأس ووفرة العدد، وقد تمكن علي بك من إخماد هذه الثورة بحنكته دون إهراق دماء، واستمال الزعيم العلوي إلى مركز الإيالة ليقدم خضوعه لرجال الدولة(166)، كما تمكن من نجدة
الأكراد الذين كان يقودهم محمد سعيد باشا شمدين أمير الحج الشامي بعد أن هاجمتهم عشائر الهوارة والهنادي، فهزمهم وأجبرهم على مصالحته. وكان له دور بارز في تنقية الأجواء بين آل المزيد وآل الدوخي،
وحسم ما بينهم من خلاف(167).
يتضح مما سبق ذكره، أن علياً بك الأسعد كانت له مكانة بارزة يحترمها الجميع، وقوة عسكرية حققت له الاستقرار على حدود مقاطعته والحد من نفوذ القبائل البدوية التي حاولت مهاجمة قافلة الحج الشامي.
وكان لعلي بك الأسعد وعشائر جبل عامل موقفٌ مشرفاً في الحرب الأهلية التي اشتعلت أوارها بين الدروز والمسيحيين سنة 1277هـ/1860م، عندما لجأ الكثيرون من المسيحيين المنكوبين إلى جبل عامل
وحلوا فيه ضيوفاً على الرحب والسعة بعدما حماهم الشيعة وآووهم، وحالوا دون وقوع الأذى على نصارى مقاطعتهم(168).
وحاول محمد بك الأسعد الوقوف في صف المسيحيين وكبح جماح الدروز عندما هاجموا جبع، آخر بلاد المتاولة الشمالية، ونهبوا الأموال والأمانات التي كان المسيحيون النازحون قد أودعوها في دار العلامة
الشيعي الشيخ عبد الله نعمة، فأسرع محمد بك على رأس ألف فارس إلى جبع لمهاجمة الدروز، غير أن سياسة الدولة يومئذ قضت بإيقاف الهجوم الذي حال دونه خورشيد باشا والي إيالة صيدا، فسوّى القضية وأعاد
المنهوبات(169).
وكان قد قدم إلى سوريا في ذات الوقت وزير الخارجية العثماني فؤاد باشا، مندوباً فوق العادة لإصلاح شؤون سوريا اثر الحرب الأهلية التي نشبت بين الطوائف في لبنان ودمشق ووادي التيم. وقام وفد من
زعماء جبل عامل برئاسة على بك الأسعد بزيارته، فأكرم الوزير وفادتهم وأثنى على طاعتهم للدولة. واحتفى بعلي بك وعينه مستشاراً في المجلس الأعلى الذي ألفه للنظر في شؤون سوريا والتحقيق في الفتن التي
ثارت فيها. كما أوكل إليه حفظ الأمن في ضواحي دمشق وحوران ووادي التيم، وحماية منكوبي المسيحيين وتأمين نقلهم إلى السواحل ومطاردة الثوار الفارين(170).
لم يدم الوفاق بين فؤاد باشا وعلي بك الأسعد طويلاً، لقلق الباشا من ازدياد نفوذ علي بك وكثرة جنده، ولما كانت الدولة العثمانية قد بدأت بإصلاح نظام الإدارة وإلغاء الحكم الإقطاعي، أخذ فؤاد باشا في كيل
المديح لعلي بك في العلن، ويسعى للقضاء عليه في السر. واستغل الخلاف الناشب بينه وبين نسيبه تامر بك الحسين(171) الذي كان ينافس على بك في حكومة جبل عامل ورئاسة العشائر كلها(172).
ويبدو أن الخلاف بين علي بك وتامر بك الحسين تفاقم سنة 1282هـ/1865م، بعدما أمر علي بك بعزله من حكومة هونين ومرجعيون بصفته حاكم المقاطعة ورئيس العشائر وشيخ مشايخ بلاد بشارة، وعيّن محمد بك
الأسعد مكانه، ولكن والي صيدا خورشيد باشا لم يوافق على هذا الإجراء لأنه يخالف الخطة السياسية التي درج عليها لإضعاف سلطة علي بك، وسرعان ما أصدر أمراً باعتقال علي بك ومحمد بك الأسعد لوشاية
خصومهما، ونقلهما إلى بيروت وظلا بها بضعة أشهر(173).
وفي تلك الأثناء ألغى الباب العالي إيالة صيدا وضمها إلى إيالة دمشق تحت مسمى "ولاية سوريا"، وأصبحت بيروت متصرفية تابعة للشام، وعُيّن "شرواني محمد رشدي باشا" والياً لسوريا، وكان على
علاقة جيدة بعلي بك الأسعد، فدعاه مع محمد بك إلى دمشق وأكرم وفادتهما، وحصل على بك على وعدٍ بإعادته إلى مقاطعته. ويبدو أن شرواني محمد رشدي باشا كان أكثر حنكةً ودهاءً من خورشيد باشا ومخالفاً له
في أسلوب إدارته، ورأى أن الوقت غير ملائم لتنفيذ برنامج فؤاد باشا، ولكن تفشي وباء الهواء الأصفر (الكوليرا) في دمشق قضى على آمال الجميع، فمات علي بك متأثراً به في ربيع الأول 1282هـ/1865م،
وتبعه محمد بك بعد أربعة أيام(174).
ويبدو أن الآراء اختلفت حول الأسباب التي أدت إلى اعتقال علي بك ومحمد بك الأسعد وإقصائهما عن الحكم، فشبيب باشا بن علي بك الأسعد يؤكد أن الاعتقال تم بوشاية تامر بك الحسين لدى خورشيد باشا
والي إيالة صيدا بعد خلاف بينه وبين علي بك واشتهاره بالحقد وعدم التروي بأموره مما دعا على بك لعزله وتبديله بمحمد بك الأسعد(175).
ولكن بعض الباحثين يشكك بهذه الرواية، على أساس أن رتبة رئيس العشائر كانت شرفية لا رتبة رسمية تمنح صاحبها الحق في عزل من يشاء وتوظيف من يشاء من الحكام، أو تفرض على بقية رؤساء
العشائر أن يأتمروا بأمره طوعاً أو كرهاً(176).
وبناء عليه، فإن عزل تامر بك الحسين وتعيين محمد بك الأسعد لم يكن من صلاحية علي بك. ولو كان خورشيد باشا ينوي فقط عزل علي بك ومحمد بك لا أن يعتقلهما، لأرسل أوامره بالعزل مع قوة
عسكرية، لا أن يطلبهما إلى مركز الولاية في صيدا ويعتقلهما. كما أن خورشيد باشا لو كان يحسب الحساب لأنصار علي بك ورجاله وقواده يومئذ لما صمم وعزم على المرور في قلب بلاد بشارة لإجراء التحقيق
الصارم مع أعوان البكوات (علي ومحمد) في نفس الوقت الذي اعتقلهما فيه. ولو كان تامر بك الحسين له ضلع في هذه القضية لتم إعادته إلى مكانه في الحكم، وإنما تم تعيين حكاماً من خارج البلاد بدلاً
منه(177).
وثمة سببٌ مغاير أدى إلى اعتقال البكوات، يتمثل في جمعهما الأموال الأميرية من أهالي البلاد وعدم تسديدها لخزينة الدولة على مدى سنة أو أكثر(178). غير أن هذا السبب لا يوجد دليل يؤيده، إذ لا
يوجد في المراجع العاملية أو غيرها ما يثبت ذلك.
كما أنه من السابق لأوانه إلقاء التهم جزافاً بحق تامر بك الحسين فيما يخص وشايته بأبناء عمومته، فقد أكد محمد جابر آل الصفا أن تامر بك بعدما أدرك ووعى نية رجال الدولة من تصفية النفوذ السياسي
للزعماء المتاولة، عرض على علي بك ومحمد بك الأسعد مساعدتهم والقيام بثورة ضد السلطة، فرفضا حتى لا تتدهور الأمور أكثر من ذلك(179)، وقطعاً فإن تامر بك لم يعرض مساعدته على البكوات بعد إلقاء
القبض عليهما.
وبوفاة علي بك الأسعد سقطت الحكومة الإقطاعية الثالثة، وزال الحكم الوطني الإقطاعي تماماً من البلاد وحكمها العثمانيون حكماً مباشراً، كما فقدت طائفة المتاولة العزة والمنعة والاستقلال الذاتي الذي تمتعت
به زمناً وكثر بعدها أدعياء الزعامة ومدّعو الرئاسة(180).
أن الفجوة بين الشيعة المتاولة وجيرانهم من الطوائف الأخرى ازدادت اتساعاً في القرن التاسع عشر، بعدما خضع لبنان لتحولات سياسية واجتماعية وفكرية عميقة، وقُدّر عدد الشيعة في متصرفية جبل لبنان التي
أسست سنة 1861م، بـ6% فقط من إجمالي عدد السكان(181).
كما تجدر الإشارة إلى أن الشيعة في مناطقهم لم يثيروا اهتمام أي جهة أجنبية تدعم مصالحهم الاقتصادية والسياسية اللهم في بعض الأحيان عندما كانت الأسرة القاجارية في إيران تعبر من وقت لآخر عن
اهتمامها بشؤونهم خاصة بعدما بدأ بعض الإيرانيين الشيعة بالاستيطان في جبل عامل والبقاع مكونين مجتمعاً تجارياً، ولكن حالة العداء المتواصلة بين العثمانيين والقاجاريين كانت تضعف من الاهتمام الإيراني بشيعة
لبنان(182).
ومما تجدر الإشارة إليه أن الاهتمام الإيراني بلبنان وبشيعته قد عادت إلى الظهور مرة أخرى بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1400هـ/1979م، واندلاع الحرب العراقية – الإيرانية في العام التالي، وذلك
لسببين رئيسيين هما: أولاً- دعم الأقلية الشيعية في العالم العربي. وثانياً – استغلال التعاطف الشعبي الإسلامي لقيام جمهورية إسلامية عالمية تشمل كافة أنحاء العالم الإسلامي.
وبعد زوال حكم العشائر في جبل عامل عام 1282هـ، عينت الدولة قاضياً حنفياً في مركز كل قضاء في صيدا وصور ومرجعيون ليكون مرجعاً لجميع الفرق والمذاهب في الحكم والقضاء، ومُنِع الناس من الترافع
إلى غيره والحكم بغير المذهب الحنفي(183).


توقيع : *سماء العشق*
سماء العشق
آسمان عشق
Sky of love
من مواضيع : *سماء العشق* 0 الساكت عن الحق شيطان اخرس
0 حل مشكلة تشغيل Realplayer في الفايرفوكس
0 اضافة Auto Copy لعمل نسخ ولصق في الفايرفوكس
0 5 نصائح لكي تكون مدوّناً محبوباً
0 كتاب " جناية البخاري -إنقاذ الدين من إمام المحدثين" للباحث السوري زكريا اوزون
رد مع اقتباس