عرض مشاركة واحدة

الشيخ عباس محمد
عضو برونزي
رقم العضوية : 81994
الإنتساب : Apr 2015
المشاركات : 1,288
بمعدل : 0.39 يوميا

الشيخ عباس محمد غير متصل

 عرض البوم صور الشيخ عباس محمد

  مشاركة رقم : 5  
كاتب الموضوع : الشيخ عباس محمد المنتدى : المنتدى العقائدي
افتراضي
قديم بتاريخ : 10-01-2018 الساعة : 08:35 PM


رابعا-


[ معاوية يمنعُ من نشر حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ]
كان معاوية متشدّداً في المنع من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، مستنّاً في ذلك بسنّة أولياء نعمته؛ ولو لا هم لما جرأ على ذلك.
ولقد كانت الهمّة لدى الجميع منصرفة إلى إخفاء الأحاديث النبويّة الدالّة على خلافة عليّ وأهل بيته عليهم‌السلام.
فاعتدت تلك السياسة على السنّة والحديث فأخفتها وأبادتها، وتجاوزت كرامة الصحابة فأهدرتها، واتّهمتهم! وتعدّت على حُريّاتهم فحبستهم ونفَتْهم ومنعتهم من بثّ علومهم. وأخطر ما فيها أنّها كادت أن تُؤدِّي إلى وأدِ حقّ أمير المؤمنين عليّ وأهل بيته في الخلافة والإمامة؛ وهذا أسوأ آثار سياسة المنع.

أبوبكر يحرق أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله
لم يكن لمنع التدوين ذكر قبل جلوس أبي بكر على كرسي الحكم، وعلى العكس من ذلك، فإنّ أبابكر قام هو بعمليّة التدوين أوّل حكمه.
نقل الذهبيّ: أنّ أبابكر جَمعَ أحاديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتاب فبلغ عددها
____________________
(1) نفسه.
خمسمائةَ حديثٍ، ثمّ دعا بنارٍ فأحرقها. (1)
ولم يكن لأبي بكر نصٌّ شرعيّ يستند إليه في إتلافه هذا الكتاب، وإنّما ذهب إلى القول بأنّه: أتلفه مخافةَ أنْ يكونَ كتبَ شيئاً لم يَحْفَظه جيّداً (2).
ثَمّةُ سؤال: هلاّ جمع أبوبكر عِلْيَةَ الصحابة ومَن إليهم المـَفْزع ومنهم عِدْلُ القرآن - على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله - ونفس الرسول في آية التطهير، وأخو رسول الله الذي هو منه بمنزلة هارون من موسى؛ فعرض عليهم تلك الأحاديث فأثبت ما أثبتوه وأحرق الباقي عوض أن يحرم الأُمّة ثروة هائلة من تراث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!
وروى القاسم بن محمّد، من أئمّة الزيديّة عن الحاكم؛ بسنده عن عائشة قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكانت خمسمائة حديث فبات ليلةً ... فلمّا أصبح قال: أي بُنيَّة، هلمّي الأحاديث التي عندك، فجئته بها، فدعا بنارٍ فحرقها.
فقلت: لم حرقتها؟!
قال: خشيتُ أن أموت وهي عندي، فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت به، ولم يكن كما حدّثني فأكون قد نقلتُ ذلك (3).
هناك ذريعته في إحراقه حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله: خوفه من أنّه لم يحفظه جيّداً؛ وهنا علّل حرق الحديث بمجرّد خشيته المخالفة، مع تصريحه بأمانة الناقل
____________________
(1) تذكرة الحفّاظ، للذهبيّ 1: 5، وعلوم الحديث ومصطلحه، للدكتور صبحي الصالح 39.
(2) نفسه.
(3) الاعتصام بحبل الله المتين، القاسم بن محمّد الزيديّ 1: 30.
ووثاقته، إن كان بينه وبين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله واسطة «ناقل»!
وهلاّ كان ممكناً له أن يجمع أولئك الذين نقل عنهم فيعرض عليهم ما سمع منهم فيصحّح موضع الاختلاف، إن وُجد، ويُثبت ما ليس فيه اختلاف.
ولنا أن نقول له: عشت مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، فما سمعته أثْبته وما لم تسمعه احذفه حتّى لو كان ما عندك خمسة أحاديث مثلاً، ويأتي عمر بحديثين أو كذا سمعهما، وهكذا حتّى يجمتمع لنا عدد كذا على نحو السماع! ودعنا من الوثاقة والأمانة، وإن كان ثَمّة معترض يقول أحدكم ليس بأمين ولا ثقة وهنا نبدأ في مشكلة مع المشكّكين ...!
روى الذهبيّ: أنّ الصدّيق - أي أبابكر - جمع الناس بعد وفاة نبيّهم، فقال: إنّكم تُحدِّثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحاديثَ تختلفون فيها، والناسُ بعدكم أشدُّ اختلافاً، فلا تُحدِّثوا عن رسول الله شيئاً فمَن سألكم فقولوا: بَيْنَنا وبَيْنَكم كتابُ الله، فاستحِلّوا حلالَه وحَرِّموا حرامَه (1).
ولا ندري مَن هم الناس، هل هم عوامّ الناس فلَهُ أن يرشدهم بالرجوع إلى مَن هم أوْلى بالحديث وفيهم بابُ علمه؛ أخصّ النّاس وأكثرهم به لُزوقاً، الذي كان ينتجيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيختصّه بكثير من علومه حتّى أثار ذلك حفيظة بعض الصحابة!
عن أبي الزُّبير، عن جابر بن عبد الله، قال: ناجى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليًّا عليه‌السلام - يوم الطّائف فطال نجواه، فقال أحدُ الرجلين: لقد أطال نجواه لابن عمّه! فلمّا
____________________
(1) تذكرة الحفّاظ 1: 3، ترجمة أبي بكر، الأنوار الكاشفة، لعبد الرحمان المعلمي اليماني: 53.
بلغ ذلك النبيّ، قال: «ما أنا انتجيتُه، ولكن الله انتجاه» (1)، وأيضاً أعلام الأُمّة ممّن لا يُنكر فضلهم في هذا الأمر.
إنّ منع أبي بكر بهذه الصورة وقوله: بيننا وبينكم كتاب الله، نظير حديث «الأريكة»، واجتهاد عمر في المنع وسيأتي تفصيله.
وقوله: (فلا تُحدِّثوا)، فإنّه منع نقل حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، روايةً وكتابةً، وأثر الكتابة أشدّ لبقائه وانتشاره أكثر ممّا هو أثر النقل.
ولم يقدِّم أبوبكر دليلاً شرعيّاً على المنع من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، وعلى العكس: فإنّ رسول الله دعا إلى كتابة حديثه وفعله الصحابة: أخرج الحاكم قال: حدّثنا أبوبكر إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل الضرير بالري، حدّثنا أبو حاتم محمّد بن إدريس، حدّثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث بن سعد.
وأخبرنا أبوقتيبة سلم بن الفضل الآدمي بمكّة، حدّثنا عبد الله بن محمّد بن ناجية، حدّثنا عبدة بن عبد الله الخزاعيّ، حدّثنا زيد بن حباب، حدّثنا ليث بن سعد المصريّ، حدّثني خالد بن يزيد، عن عبد الواحد بن قيس، عن عبد الله بن عمرو قال: قالت لي قريش: تكتب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، وإنّما هو بشرٌ يغضب كما
____________________
(1) مناقب الإمام عليّ، لابن المغازليّ: 125. ويرد الحديث في مصادر أُخرى بنفس اللفظ أو اختلاف يسير في اللّفظ، في: صحيح الترمذي 5: 639، تاريخ بغداد 7: 402، المناقب، للخوارزمي: 138، شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 2: 431، كفاية الطّالب: 328، أسد الغابة 4: 107، جامع الأُصول 9: 474، كنز العمّال 11: 599، البداية والنهاية 7: 356، العُمدة، لابن البطريق: 190.
يغضب البشر؟، فأتيتُ رسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت: يا رسول الله، إنّ قريشاً تقول: تكتب عن رسول الله، وإنّما هو بشر يغضب كما يغضب البشر، قال: فأومأ لي شفتيه فقال: «والذي نفسي بيده ما يخرج ممّا بينهما إلاّ حقّ فاكتبْ».
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد أصل في نُسخ الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولم يخرّجاه (1).
قال: ولهذا الحديث شاهد قد اتّفقا على إخراجه على سبيل الاختصار، عن همام بن منبّه، عن أبي هريرة أنّه قال: ليس أحد من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر حديثاً منّي إلاّ عبد الله بن عمرو، فإنّه يكتب وكنت لا أكتب (2).

فأمّا حديث الشاهد:
فحدّثنا أبو العبّاس محمّد بن يعقوب، أنبأ محمّد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنبأ ابن وهب، أخبرني عبد الرحمان بن سلمان، عن عقيل بن خالد، عن عمرو ابن شعيب: أنّ شعيباً حدّثه، ومجاهداً أن عبد الله بن عمرو حدّثهم: أنّه قال: يا رسول الله أكتب ما أسمع منك؟ قال: «نعم»، قلت: عند الغضب وعند الرضا؟ قال: «نعم، إنّه لا ينبغي لي أن أقول إلاّ حقًّا» (3).
وأخرج الحاكم بسنده عن عمرو بن العاص: أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله: «مَن كتَم
____________________
(1) المستدرك على الصحيحين 1: 186/357، ووافقه الذهبي في التلخيص.
(2) نفسه.
(3) نفسه 187/ 358.
عِلماً ألْجَمه الله يوم القيامة بلجامٍ من نار» (1).
وبسنده عن عبد الله بن بريدة قال: قال عليّ عليه‌السلام: تذاكروا الحديث، فإنّكم إلاّ تفعلوا يندرس (2).
وكذلك بسنده عن أبي يحيى الحماني، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: قال عبد الله تذاكروا الحديث، فإنّ ذِكر الحديث حياتُه (3).
وعن سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: ما كلّ الحديث سمعنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله: كان يحدّثنا أصحابنا وكنّا مشتغلين في رعاية الإبل (4).
وعن فُضَيل بن عِياض، عن الأعمش، عن عبيد الله بن عبد الله، عن سعيد ابن جُبير، عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله: «تسمعون، ويُسمع منكم، ويُسمع من الذين يسمعون منكم» (5).
وذكر مثله بسند آخر عن جرير، عن الأعمش عن ... (6) قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وليس له علّة، ولم يخرّجاه، وفي الباب أيضاً عن عبد الله بن مسعود، وثابت بن قيس بن شمّاس، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.
وابن جريج عن عطاء، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول
____________________
(1) نفسه 182/ 346.
(2) نفسه 173/ 324.
(3) المستدرك على الصحيحين ح 325.
(4) نفسه ح 326. قال الذهبيّ في التلخيص: هذه الأحاديث صحاح.
(5) نفسه 174/ 326.
(6) نفسه، ح 327.
الله صلى‌الله‌عليه‌وآله: «قيّدوا العلم» قلت: وما تقييده؟ قال: «كتابته» (1).
وبسند عن عبد الله الأنصاريّ، حدثني أبي، عن ثمامة، عن أنس: أنّه كان يقول لبنيه: قيّدوا العلم بالكتاب (2).

فائدة
لقد كان فعل أبي بكر بحرق أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ منعه من التحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله: «فمن سألكم فقولوا: ...» مخالفاً للقرآن الكريم الذي يأمر بطاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) (3)، ولا تختلف السنّة عن القرآن في الحجيّة، وما الحديث إلاّ مفسّراً للقرآن وشارحاً لمراده، فما جاء من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّه وحيٌ، إمّا بلفظه وهو القرآن الكريم لأنّه مُعجِز، أو أحكام وبيان بلفظ وكلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ فكيف يُؤخذ نصف الوحي ويُهمل نصفه الآخر؟!
إنّ القرآن الكريم عدا كونه معجزة النبيّ، ففيه أحكام وعبادات ذُكرت إجمالاً نجدُ تفصيلها في أحاديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرته ...
أخرج الحاكم بسنده عن الحسن قال: بينما عمران بن حصين يحدّث عن سُنّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال له رجل: يا أبا نجيد، حدّثنا بالقرآن، فقال له عمران: أنت وأصحابك يقرأون القرآن، أكنتَ محدّثي عن الصلاة وما فيها وحدودها، أكنت
____________________
(1) نفسه 188/ 362.
(2) نفسه، ح 361.
(3) الحشر: 7.
محدّثي عن الزكاة في الذهب والإبل والبقر وأصناف المال؟ ولكن قد شهدتُ وغبتَ أنت، ثمّ قال: فرض علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الزكاة كذا وكذا، وقال الرجل: أحييتني أحياك الله.
قال الحسن: فما مات ذاك الرجل حتّى صار من فقهاء المسلمين (1).
وإنّ فعله هذا مخالف لسنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، فإذا كان القرآن مبهماً له كما هو شأن آية الكلالة، والعمّة! فإنّ حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصّة في هذا الأمر لا يحتاج إلى بيان، وجوابه صلى‌الله‌عليه‌وآله «اكتب» للّذين سألوه يفهمها الصغير والكبير، إلاّ أن يقول أبوبكر لم أكن حاضراً حينما سأله كلّ أولئك! ولا بلغني أيضاً عنهم، وحتّى لو بلغني فقد قدّمت المعذرة وقلت إنّي خفت الخلاف وإن بلغني من ثقة فأحرقتها!
والأحاديث والروايات الواردة بلفظ «قيّدوا العلم بالكتاب» فتقييده بالكتاب، أي كتابته، لا يختلف فيه أحد، والعلم هنا واضح: هو السُنّة والحديث فكيف يحرقها؟!
وقد جرت سنّة البشر في تتبّع آثار الناس العاديّين وحفظ أقوالهم اعتزازاً بها فيكتبونها لئلاّ تضيع؛ فهل يجوز أن تُترك أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، بل تُحرق؟!
واعتذار أبي بكر بأنّه أحرق الأحاديث خوف الخلاف تحوّطاً، فقد سمعها من ثقات ولكن لا يدري هل سجّلها على مثل ما حدّثه الثّقة، وفي قول: مخافةَ أن يكونَ كتبَ شيئاً لم يحفظه جيّداً؛ قد نسفه أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بكتابة حديثه ومارسه الصحابة في حياته، وحديث عمران بن حصين مع الرجل الذي طلب
____________________
(1) المستدرك على الصحيحين 1: 192/ 372.
منه أن يحدّثه بالقرآن، فحدّثه بالسُنّة - وقد مضى - مصداق صادع عن اجتراء أبي بكر إثماً عظيماً في حرقه أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه إن لم يكن الأدب واللّياقة حكماً في احترام أثر الرسول؛ فإن الله تعالى أمرنا بطاعته وليس لنا الخيرة بعد قضاء الله ورسوله؛ (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (1).
وقد أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بكتابة حديثه، فإن قلت: بل أقرّ، فتقريره وأمره وفعله وقوله سُنّة. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله: «قيّدوا العلم». فلمّا سُئل ما تقييده؟ قال: «كتابته». فهذا أمر صريح بالكتابة، ولكن كتابة ماذا وأيّ علم؟ إنّها أحاديثه صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يُنكر ذلك عاقل!
وحديث ابن عبّاس عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله: «تسمعون، ويُسمع منكم ويُسمع من الذين يسمع منكم». حثّ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على التحرّز في حفظ حديثه ونقله بأمانة وممّا يعين على ذلك كتابته ز ولم يقل لهم إن أنا متُّ كفاكم كتاب الله!!، فما مستند أبي بكر في قوله: «بيننا وبينكم كتاب الله؟!»، الذي يذكّرنا بقول عمر بن الخطّاب ليلة الرزيّة - سنذكرها - لما اعترض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابة الكتاب، فرفع عمر صوته: «حسبُنا كتاب الله» ولما كثر اللّغط طردهم رسول الله من رحمة الله فراحوا إلى حلبة الصراع في سقيفة بني ساعدة ولم يبق مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ عليّ عليه‌السلام يمرّضه مسنده إلى صدره ورسول الله يسرّه حتّى فاضت نفسه الزكيّة بين سَحْر ونَحْر عليّ عليه‌السلام.
ولقد تنبّأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما سيكون بعده من الحيلولة دون حديثه الشريف
____________________
(1) الأحزاب: 36.
والتذرّع في ذلك بكتاب الله المجيد وقطع الطريق أمام أولئك بقوله: «إنّما حرّم رسول الله كما حرّم الله»، وذلك أنّ رسول الله لا ينطق عن الهوى؛ إن هو إلاّ وحيٌ يوحى، قرآناً أو حديثاً. وهذه بعض الأحاديث في ذلك:
أحاديث الأريكة
بسندٍ عن المِقدام بن مَعْدِ يَكرِبَ الكنديِّ؛ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «يُوشِكُ الرجلُ منكم مُتّكِئاً على أريكته يُحدَّث من حديثي فيقولُ: بيننا وبينكم كتابُ الله عزّ وجلّ. فما وجدنا فيه من حلالٍ استحللناه. وما وجدنا فيه من حرامٍ حرّمناه. ألاَ وإِنّ ما حرّمَ رسولُ الله مثلُ ما حرّمَ اللهُ» (1).
«يوشك» من أفعال المقاربة، والأريكة رمز للحكم والحاكميّة، والاتّكاء: الاستيلاء والاستقواء ...؛ وكلّ ذلك تحقّق في أبي بكر ثمّ عمر ومَن استنّ بسنّتهما في المنع من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فأبوبكر صار إلى الأريكة «الحكم» في سقيفة بني ساعدة ...، وكانت الأحاديث فيها تبيان وتفصيل للعبادات، وفيها الكثير من الحديث عن منزلة عليّ أميرالمؤمنين وأنّه الوصيّ وقتاله كفر وأنّه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنزلة هارون من موسى عليهما‌السلام، وأنّه بابُ مدينة علم النبيّ وأحبُّ الخلق إليه
____________________
(1) مسند أحمد 4/ 131، سنن أبي داود (كتاب السنّة) باب (5) لزوم السنّة (4/ 200، ح 4604)، سنن ابن ماجة 1/ 6، ح 12، سنن الدارمي (1/ 117 ح 592)، سنن البيهقي (9/ 331) دلائل النبوّة له (1/251)، صحيح ابن حبّان (1/147) سنن الترمذي، كتاب العلم (2/ 110)، الحازمي في: الاعتبار (7)، الخطيب في (الكفاية 39 - 40) و (الفقيه والمتفقّه 1/ 88)؛ المستدرك على الصحيحين 1/ 191/ 371).
والذي لم يكفر طرفة عين وأسبق الناس إلى الإسلام ...، هذه وغيرها من الخصائص التي تليق بالحاكم والحاكميّة؛ فضلاً عن حديث القرطاس. وهو من دلائل النبوّة، إذ لو لم يبادر أبوبكر فيحرق أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقول: «بيننا وبينكم كتاب الله، ويتبعه عمر فيشدّد ويحرق الأحاديث ويحبس الصحابة لئلاّ يخرجوا إلى الآفاق فيحدّثوا، وكذلك عثمان الذي بلغت به الجرأة بتسيير فضلاء الصحابة المعارضين لسياسته إلى الشام ليجدوا فيها مَن هو أعظم جرأة على الله ورسوله ذلك هو معاوية الذي هتك حُرمتهم وكان أكثر نكيراً على رواة الحديث على ما سنرى.

لفتُ نظر
ومهما قدّم البعض من ذرائع لفعل أبي بكر أو عمر ...؛ فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حذّر من فعل هؤلاء بتستّرهم بالقرآن الكريم، فقطع الطريق عليهم بقوله: «أَلاَ وإنّ ما حرّم رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مِثلُ ما حرّم الله». فالقرآن وحيٌ بلفظه ومعناه، والحديث وحيٌ بمعناه ولفظُه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.
وقد ذكرنا أنّ الحديث مفسّر للقرآن شارح لمراده؛ فالسنّة امتدادٌ للقرآن وتطبيق عمليّ لمؤدّاه واتّباعها اتّباع للقرآن.
وعقد الدارميّ باباً ترجمه: «باب أنّ السُنّة قاضية على كتاب الله» نقل فيه
عن ابن أبي كثير شيخ الأوزاعي (1) قوله: «السُنّة قاضيةُ على القرآن، وليس القرآنُ بقاضٍ على السُنّة» (2).
ونقل عن مكحول قوله: القرآن أحوج إلى السنّة، من السنّة إلى القرآن (3).
قول الدارميّ، وقول مكحول؛ ذلك أنّ القرآن الكريم كما ذكرنا جاء معجزاً في أصله مبنيًّا على الإعجاز البلاغيّ في إثبات رسالة الإسلام وما فيه من أحكام وعقيدة جاءت مجملةً كلّف الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله تفصيلها.
وقد جاء مَن قال لعمران بن الحصين: ما هذه الأحاديث التي تحدّثوناها وتركتم القرآن؟ لا تحدّثونا إلاّ بالقرآن!
فقال عمران: أرأيتَ لو وُكّلتَ أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد الطوافَ بالبيت سبعاً، والطوافَ بالصفا والمروة؟
وبطريق آخر أضاف: والموقف بعرفة؟ ورمي الجمار، كذا، واليد من أين تُقطع؟ أمن هاهنا؟ أم هاهنا؟ أهاهنا؟ ووضع يده على مفصل الكفّ، ووضع يده عند المرفق، ووضع يده عند المنكب.
____________________
(1) يحيى بن أبي كثير الطائيّ، مولاهم. قال عليّ ابن المديني، عن سفيان بن عُيينه، قال: قال أيّوب: ما أعلمـُ أحداً بعد الزُّهري أعلم بحديث أهل المدينة من يحيى بن أبي كثير. (المعرفة والتاريخ للفَسَوي 1/ 621).
قال شُعبة: يحيى بن أبي كثير أحسن حديثاً من الزُّهري. (الجرح والتعديل 9/ الترجمة 599) وقال العِجليّ: ثقةٌ، كان يُعدُّ من أصحاب الحديث. (ثقاته 475/ الترجمة 1823).
(2) سنن الدارمي (1/ 117) الباب 49 ح 594.
(3) الكفاية في علوم الرواية، للخطيب البغداديّ: 47.
ثمّ قال: اتّبعوا حديثنا ما حدّثناكم، وخذوا عنّا، وإلاّ والله ضللتم (1).
وعن أيّوب السختياني، قال: إذا حدّثت الرجل بالسنّة، فقال: دعنا من هذا، وحدّثنا من القرآن؛ فاعلم أنّه ضالٌّ مضلٌّ (2).
وأورد في كتابه (الفقيه والمتفقّه) أحاديث استدلّ بها على أنّ السنّة معتبرةٌ في عرض الكتاب الكريم (3).

مزيدٌ من النصوص النبويّة في وجوب رواية الحديث
ذكرنا بعض أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في جواز وأخرى وجوب كتابة حديثه الشريف، ونذكر بعضاً آخر:
بسندٍ عن زيد بن ثابت: «نَضَّرَ اللهُ امرأ سمِع مقالتي فبلّغها. فرُبّ حامِلِ فقهٍ غيرِ فقيهٍ. ورُبَّ حامِلِ فقهٍ إلى مَن هو أَفْقَهُ منه» (4).
ومحمّد بن إسحاق، عن الزهري، عن محمّد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالخِيف من مِنى (5) فقال: «نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثمّ أدّاها إلى مَن لم يسمعها، فرُبّ حامل فقه لا فقه له، وربّ حامل فقه
____________________
(1) نفسه: 48.
(2) الكفاية في علوم الرواية، للخطيب البغداديّ: 49.
(3) الفقيه والمتفقّه، للخطيب (1/ 86 - 90).
(4) سنن ابن ماجة 1: 84/230، مسند أحمد 1: 437 و 4: 80.
(5) (الخيف من مِنى) الخِيف، الموضع المرتفع عن مجرى السيل المنحدر عن غلظ الجبل. ومسجد منى سمّي مسجد الخيف لأنّه في سفح جبلها.
إلى مَن هو أفْقه منه ...» (1).
وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله: «من رغب عن سنّتي منّي» (2) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله: «مَن سُئل عن علمٍ فكتمه، ألجمه الله بلجامٍ من نار يوم القيامة» (3).
وقد روى حُذيفة بن اليمان، قال: دخلتُ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مرضه الذي قُبض فيه، فرأيته يتساند إلى عليّ، فأردتُ أن أُنَحّيه وأجلس مكانه، فقلت: يا أبا الحسن، ما أراك إلاّ تعبت في ليلتك هذه، فلو تنحّيْتَ، فأعَنْتُك.
فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله: دَعْهُ، فهو أحقّ بمكانه منك، اُدْنُ منّي يا حُذيفة، مَن أطعم مسكيناً لله عزّ وجلّ دخل الجنّة».
قال: قلتُ: يا رسول الله، أكتمُ أم أتحدّث؟!
قال: «بل تُحدّث به» (4).

توجيهٌ غيرُ مقبول من الذهبيّ
بعد أن نقل الذهبيّ كلام أبي بكر في المنع من الحديث، عقّب على ذلك بقوله: إنّ مراد الصدّيق التثبُّتُ في الإخبار، والتحرّي، لا سدّ باب الرواية ... ولم يقُلْ «حسبُنا كتابُ الله» كما تقول الخوارج (5).
____________________
(1) المستدرك على الصحيحين 1: 162/295.
(2) مسند أحمد (2/ 263 و 305 و 353 و 495).
(3) الفقيه والمتفقّه (1: 144).
(4) مختصر تاريخ دمشق 18: 295.
(5) تذكرة الحفّاظ 1/3.
وقول الذهبيّ، مع علمه غريب! فقوله: «إنّ مراده التَثبّت في الإخبار والتحرّي ... لا سدّ باب الرواية» لا دليل عليه ولا وجود له في النصّ، ولم ترد كلمة واحدة في هذا المعنى: التَثبّت والتحرّي، كأن يقول: لا تحدّثوا بكلّ ما تسمعون أو تروون. أو لا تحدّثوا بما لا تتثبّتون ويأمرهم بالاحتياط عن الخطأ والاشتباه.
وأمّا سدّ باب الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومنع نقل الحديث عنه مطلقاً؛ هل أوضح بياناً ودلالةً على عموم المنع من جملة: «لا تحدِّثوا عن رسول الله شيئاً»؟
وقوله: «بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه» قرينة واضحة على أنّ مراده نَبْذُ السنّة مطلقاً، والاكتفاء بكتاب الله تعالى؛ لا سيّما إذا نظرنا إلى النهي الذي تقدّمها: «لا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً».
وأمّا قول الذهبيّ ولم يقل أبوبكر: «حسبنا كتاب الله كما تقول الخوارج». فمن البديهيّ: أنّ كلّ جملة يقولها إنسان تؤدّي هذا المعنى فهو يمنع الاستناد إلى الحديث ويكتفي بكتاب الله تعالى.
وكلام أبي بكر: «لا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً» وبعده: «بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه»، يؤدّي نفس معنى: «حسبنا كتاب الله» تماماً!
وإذا كبُر على الذهبيّ، أو أراد أن يوجّه أو قل: اجتهد فأخطأ في فهم كلام أبي بكر؛ فدعنا نستريح هنيهةً من «حسبنا»، ولنكتفِ بجملة: «بيننا وبينكم كتاب الله» التي قالها أبوبكر، وقبلها الذهبيّ، فنقول: إنّ هذه الجملة هي عينها التي
قالها رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مجذّراً من صاحب الأريكة - أي الحُكم - الذي عهده قَرُبَ وأنّه يحذف حديث النبيّ ويمنع منه ويقول: «بيننا وبينكم كتاب الله عزّ وجلّ» وقد ذكرناه مع مصادره.
وأمّا ذكر الذهبيّ للخوارج في هذا الموضع فعجيب منه! إذ لم نعهد من الخوارج ذكرهم جملة «حسبنا كتاب الله» وإنّما شعارهم «لا حُكمَ إلاّ لله» وأمّا جملة «حسبُنا كتاب الله» فهي معروفةٌ من كلام عمر أكثرهم تشدّداً في منع تدوين حديث رسول الله، وأسبقُهم إلى ذلك! فهو الذي منع من تقديم «القرطاس» إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليكتب لهم كتاباً لنْ يضلّوا بعده، ومضى على هذه السياسة بعد رحلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتشدّد بها وحبس الصحابة من الخروج إلى الأمصار خوفاً من نشر الحديث وكتب كتاباً بالمنع إلى الآفاق ...
إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، أراد وهو يُودّع أُمّته ويُودِعُها تَرِكَته:
الثَّقلين، كتاب الله وعترته الطّاهرة، وفي سعيٍ منه لتوكيد ما عهدَهُ إليهم سابقاً، أراد أن يكتب لهم كتاب هداية وعصمة، إلاّ أنّه جُوبه بمعارضةٍ شديدة اُطلقت فيها كلمة لا تنبغي في حقّ مسلم محترم، فكيف بالنبيّ؟!
عن عبد الله بن عبّاس، قال: لمّا احتُضر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب، قال: «هَلُمّ أكتبْ لكم كتاباً لن تضِلّوا بعده». فقال عمر: إنّ النبيّ غَلَبه الوجع، وعندكم القرآن فحسبُنا كتابُ الله واختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم مَن يقول: قرِّبوا يكتب لكم رسولُ الله كتاباً لن تضلّوا بعده، ومنهم مَن يقول ما قال عمر!! فلمّا أكثروا اللّغط والاختلاف عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، قال: قُوموا عنّي
فكان ابن عبّاس يقول: إنّ الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (1).
وليس الخبر بهذا اللفظ الذي هذّبته بعض الأقلام! ولكنّه كافٍ وبهذا اللفظ لتوضيح عمق المأساة! فإنّ ميّتاً من عَرَض المجتمع يتنادى ذَوُوه وأصدقاؤه وتقع جَلَبة ويُحمل نعشه إلى مثواه الأخير ظاهرة عليهم آثار الحزن والأسى لفقده؛ وهذا سيّد الخَلق طرًّا خاتم الأنبياء والرُّسل يعيش لحظاته الأخيرة مع أصحابه ويريد أن يُتمّ لهم نصيحته وهدايته لئلاّ يضلّوا من بعده فيتعرّضوا لغضب الله تعالى كما حدث لليهود والنصارى، إلاّ أنّ البعض منهم قدّم بين يَدَيْه وقطع كلامه، وهو أمرٌ منهيٌّ عنه في القرآن الكريم؛ وخالف سنّته وهو حيٌّ يمارس وظيفته في التبليغ، فكيف يكون الأمر بعد وفاته؟! وكيف كانت المقاطعة والردّ؟ كان نابياً، فإنّ «غَلَبه الوجَع» تساوي «يَهْجُر» التي تعني: يَهذي - والعياذ بالله! كما أنّ حالة اللّغو واللغط والاختلاف الناتجة عن هذا التصرّف سوء أدب في حضرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، وقد نهى القرآن عن رفع الأصوات فوق صوت النبيّ وعن الجهر له بالسّوء؛ «وإنّ النبيّ ليهجر»، أو «غلبه الوجع» ما هو إلاّ جهر بالسُّوء ثمّ ماذا يعني قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم: «قوموا عنّي»؟ إنّه يعني أنّه ساخط وغير راض عنهم، ورضاه من رضى الله تعالى وسخطه من سخطه!
ثمّة سؤال: لماذا اعترض عمر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابة الكتاب؟ هل
____________________
(1) صحيح البخاري 1: 37، 5: 138، 8: 161، طبقات ابن سعد 2: 242، صحيح مسلم 12: 95، المصنّف، لعبد الرزّاق 5: 438 و 439 مسند أحمد 1: 336، دلائل النبوّة، للبيهقي 7: 181.
كان يُدرك ما سيكتبه؟
ورواية ابن عبّاس تؤكّد أنّه قال: أهْجَر. عن سفيان، عن سليمان بن أبي مسلم، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عبّاس قال: يومُ الخميس وما يوم الخميس! قال: اشتدّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعُه فقال: «ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعدي أبداً». فتنازعوا - ولا ينبغي عند نبيّ أن يُتنازع - فقالوا: ما شأنه أهْجَرَ؟ استفهموه! فذهبوا يُعيدون عليه، فقال: دَعُوني، فما أنا خيرٌ ممّا تدعونني إليه. وأوصى بثلاث، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفدَ بنحوٍ ممّا كنتُ أجيزهم، وسكت عن الثالثة عمداً أو قال: فنسيتُها. (1)
نعم، يومُ الخميس وما يوم الخميس؟! اشتدّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعُه، واشتدّ بقومٍ وَجْدُهم إلى أُمورٍ، فأساؤوا إلى نبيّهم بالقول الفاحش ذلك قولهم: ما شأنه؟!
أيليق هذا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله! أنكرةٌ هو؟ هلاّ تأدّبوا فخاطبوه بما يليق بمقامه العظيم إن لم تطاوعهم أنفسهم فيسارعوا مطيعين فيقدّموا القرطاس والقلم؛ فإن لم يفعلوا فعليهم أن، يقولوا: يا رسول الله، لو بيّنت لنا مرادك ...، مثلاً. ثمّ جاؤوا بها صلعاء لا توارها عمامة؛ تلك هي مقولتهم: أهْجَرَ؟ وهي شتيمة! ذكر ابن السّكّيت في كتابه «تهذيب الألفاظ باب رَفْعِك الصوتَ بالوقيعة في الرجل والشّتم له» قال: وأهْجَرَ إهْجَاراً، إذا قال القبيح (2).
فهل يجوز على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول القبيح، فعند مَن تجد الأُمّة الحَسَن
____________________
(1) تاريخ الطبري 2: 436.
(2) تهذيب الألفاظ، لابن السكّيت: 264.
- إذن - لتأخذه منه فلا تضلّ؟ ومتى كان كتاب الهداية والعصمة من الضّلالة هُجْراً؟!
والرّاوي لم يُعيّن صاحب هذا الكلام المـُستهجَن، فقد استعمل لفظ الجماعة «فقالوا»!
ترى ماذا تعني كلمة «استفهموه» الواردة في الخبر، وماذا يعني أنّ القوم ما زالوا يعيدون سؤالاً ما على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى ردعهم؟ أيّ سؤال هو؟ هل هو الوصيّة الثالثة التي سكت عنها ابن عبّاس عمداً؟! فلماذا سكت؟! أمّا هذا الاستدراك: «أو قال: فنَسيتُها» فهو ممّا لا يليق بمَنْ ابن عبّاس بكثير، فكيف بحَبْر الأُمّة؟!
غير أنّ المرويّ عن ابن عبّاس - كما في البخاريّ وطبقات ابن سعد، ذكرناه - ينصّ على أنّ صاحب القول هو عمر بن الخطّاب، وحسب تلك الرّواية وقول عمر فيها: «وعندكم القرآن فحسبُنا كتاب الله» يتّضح أنّ النبيّ قد اوصى باثنين متلازمَين، هما: كتاب الله وأهل بيته، وهو ما كان يُعيده على مسامعهم في أكثر من مناسبة.
وعن عمر بن الخطّاب قال: لمّا مرِض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «ادعوا لي بصحيفةٍ ودواة أكتب كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً» فقال النُّسوة من وراء السّتر: ألا تسمعون ما يقول رسول الله؟! فقلت: إنّكنّ صواحبات يُوسف: إذا مَرِض رسول الله عَصَرْتُنّ أعينَكنّ، وإذا صحّ ركِبْتُنّ عُنُقَه! فقال رسول الله: «دَعوهُنّ، فإنّهنّ خيرٌ منكم» (1).
____________________
(1) المعجم الأوسط، للطبراني 5: 288، كنز العمّال 5: 644، مجمع الزوائد 9: 34.
حصحص الحقّ وثبت أنّ عمر هو الذي قدّم بين يدّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. ومع أنّه لم يذكر في هذه الرواية اعتراضه على رسول الله في كتابة الكتاب، إلاّ أنّ قول النّسوة: «ألا تسمعون ما يقول رسول الله؟» بَيِّن الدلالة على هذا المعنى، وذلك بعد أن صلّ أسماعَهنّ لغَطُ الرِّجال واختلافهم على أثر الكلام الذي قاله عمر كما في الروايات السّابقة، فزجرتهم النساء على سوء سلوكهم هذا. ويؤيّد أنّ عمر هو صاحب الاعتراض على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ رفعُ صوته من جديد ليُسمِع النّسوةَ مقالَته فيهنّ، إذ اللّغط الدائر بين الرِّجال ووجود السّتر بينهم وبين النّساء يقتضي مناداتهنّ بصوت عالٍ، وإلاّ لِمَ ردّ عليهنّ دون غيره من الحاضرين؟ وقوله: «إنّكنّ صواحبات يوسف ...» فيه تنقيص لهنّ، ومَن هنّ؟ إنّهن أمّهات المؤمنين، وحاضنة الرسول، والصّحابيّات المبايعات، والمعصومة الطّاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام بنت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ ووصف هؤلاء بالنّسوة اللاّتي شُغِفنَ بجمال يوسف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، أراد بذلك: إنّكنّ ما كرات وأتباع لذّة!! وكلامه لم يتنقّص من النّساء وحسب، وإنّما تطاول به على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وانتهك حرمته إذ ذكره بصيغة الغائب النّكرة من غير ما ينبغي له من النعت بالنبوّة والرّسالة. «رَكِبتُنّ عُنُقَه» فيها ما فيها من المعاني السلبيّة والتجاوز على شخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، ووصفه بالشخص الضعيف أمام النساء - والعياذ بالله ...؛ ومن هنا جاء جواب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله: «إنّهنّ خيرٌ منكم» في البُعد عن الاعتراض والتقديم بين يَدَي رسول الله، والاعتراض عمّا أراد، وإنّما على العكس اعترضن سبيل أُولئك الذين آذوا رسول الله بلَغْوِهِم وتنازعهم في أن يقدّموا أو لا يقدّموا القرطاس والقلم وكان زعيم جبهة الرافضين، بل لم يحفظ لنا
التاريخ اسماً بعينه إلاّ عمر بن الخطّاب.
«وخيرٌ منكم»، إذ لم يكنّ من أصحاب السقيفة؛ وما كان من الأحداث الساخنة بعد ذلك إلاّ امتداد لرزيّة الخَميس والحيلولة بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابته الكتاب وما وقع في السقيفة وتمخّض عنها من أُمور منها: المنع من كتابة حديث رسول الله.
وطَرْدُ رسول الله إيّاهم إلاّ عليّاً، له من المعاني: أنّه طردهم من رحمة الله، وفي ذلك: لئلاّ يقول أحدهم إنّي تشرّفت بتمريض النبيّ وبدفنه كما تشرّفت بصحبته، فقطع عليهم الطريق بذلك. صحيح أنّ سوء الأدب الذي أبدوه يستوجب ذلك الطرد، ولكن نستجلي ضمناً هذا المعنى مثلما نستجلي أن لم تكن له صلى‌الله‌عليه‌وآله ذرّيّة إلاّ من خديجة رضي الله عنها ثمّ من فاطمة الزهراء عليها‌السلام بينما حُرِمت زوجاته حتّى اللاّتي في عُمر الصِّبا فالشباب من الحمل، وإلاّ لكان الويلُ لأُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك الحمل! ثمّ كان من حكمة الله تعالى: أن حرّم الزواج من زوجات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فجعلهنّ بمنزلة أُمّهات المؤمنين.
وفي الصحابة مَن هم أنقياء الثوب إلاّ أنّ الفتنة عمّت، ومنهم مَن كان بعيداً عن الحدث، فأفرد عليّاً عليه‌السلام يناجيه ويختصّه وهذه ليست أوّل مرّة يفرده فيناجيه، إلاّ أنّ هذه الليلة لها خصوصيّة فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله في آخر عهده من الدنيا، فكان لعليّ عليه‌السلام شرف الانفراد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فهما شيء والناس شيء آخر، هما الرسالة والناس خليط بين بعيد عن ساحة الأحداث وبين مصطرع في سقيفة بني ساعدة من أجل (الأريكة) فصدق مَن لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحيٌ يوحى، مضى
اُولئك في مهمّتهم من أجل الأريكة، ومضى عليّ في مهمّته بعد أن سمع توجيهات الوحي على لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، فتولّى غُسل النبيّ وتكفينه ...، فيما حُرِم اُولئك من كلّ هذا.
فرسول الله يخطّط لعليّ السبق في كلّ شيء: السبق في الإسلام، والسبق في الفداء، والسبق في الصحبة (إلى الطّائف فلم يصحبه غير عليّ) وبعد مبيته على فراش النبيّ وأدائه ودائع النّاس التي كانت عنده التحق بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، وكان النبيّ قد افترق عن أبي بكر لمّا وصل إلى قُباء ولم يدخل المدينة، فنزل أبوبكر على خارجة بن زيد، فيما نزل النبيّ على كُلثوم بن هِدْم، فلمّا التحق به عليّ عليه‌السلام، دخلا المدينة (1).
ولقد جَرَت أحاديث ومحاورات بين ابن عبّاس وعمر بن الخطّاب - بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله - أقرّ فيها عمرُ أنّه الذي منع النبيَّ من كتابة الكتاب؛ من ذلك: قال عمر لابن عبّاس: هل بقي في نَفْس عليّ شيء من أمر الخلافة؟ فقال ابن عبّاس: نعم. قال عمر: ولقد أراد رسولُ الله في مرضه أن يُصرِّح باسمِه فمنعتُه من ذلك إشفاقاً وحيطةً على الإسلام (2).
إنّ الله تعالى أعلم بمواطن الحيطة على الإسلام فيوحي بها إلى نبيِّه، ومن ذلك التبليغ بإمامة عليّ وخلافته في كلّ مَوْطن، ومنه المهرجان الكبير يوم عيد غدير خُمّ، وفي مرضه لمّا أراد أن يكتب كتاباً فمنعه عمر. ولكنْ ما الذي وجده
____________________
(1) السيرة النبويّة، لابن هشام 2: 138.
(2) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 12: 21.
عمر من نقصٍ في عليّ فتخوّف منه على مستقبل الإسلام، وهو الذي سلّم عليه بالإمارة يوم خُمّ؟! فهلاّ عابه يومئذٍ؟!
أم أنّه ندم على ما كان منه من التسليم على عليّ أميرالمؤمنين عليه‌السلام بالإمرة بقوله: بَخٍ بَخٍ لك يا ابنَ أبي طالب! أصبحتَ مولاي ومولى كلّ مؤمنٍ ومؤمنة، قالها على رؤوس الأشهاد يوم غدير خُمٍّ، والآن يعلم أنّ رجالاً يأتمرون في الخفاء على إزواء الخلافة عن عليّ عليه‌السلام وكتبوا بذلك عهداً، فتخوّف فشل الخطّة؟!
إنّ ما ذهبنا إليه لم يكن كلاماً يُقال جُزافاً، فالّذي يقدِّم بين يدي الله ورسوله، وهو أمرٌ منهيٌ عنه في القرآن إذ لا يجوز له إلاّ التسليم لأمرِ الله سبحانه وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولا يعترض. وكيف كان الاعتراض؟ بتلك الصورة القاسية وهتك حرمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ فلمّا طرده النبيّ ومَن معه صاروا إلى «السقيفة» ودخل في صراع مرير تمهيداً لـ «الأريكة» التي حذّر رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منها ومن صاحبها الذي يوشك أن يُعلن صاحبها المنع من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، وها هو يمنع ورسول الله موجود بين المسلمين؛ فكيف سيكون الأمر بعدك يا رسول الله صلّى الله عليك وعلى أهل بيتك الطيّبين الطّاهرين؟! هذا ما سنراه. ولكن: كلمة عجلى، إنّ حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتضمّن أحكاماً وعبادات وسُنن ...، فهل المنع يهدف ويقصد مثل هذه الأحاديث؟ قطعاً لا. فما بقي إلاّ الوصيّة والخلافة وهو الأمر الذي أقرّ به عمر وأنّه الذي حمله على منع النبيّ من كتابة الكتاب والتصريح باسم عليّ عليه‌السلام خليفة من بعده؛ وقد مرّ ذِكرُ ذلك. ثمّ صارت سنّةً لأصحاب الأريكة ممّن هم وشيكوا عهدٍ برسولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، وامتدّت ليلقفها معاوية ومن جاء
بعده من الشجرة الملعونة في القرآن الكريم وعلى لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، فلم يكتفِ بمنع الحديث في فضائل عليّ وأهل البيت عليهم‌السلام، وإنّما امتدّت يدُ النّصب لوضع الأحاديث المكذوبة للنيلِ من أمير المؤمنين وتفضيل أعدائه! وسنّ سنّته البغيضة في لعن الإمام عليّ عقب كلّ صلاة، فعاشت الشام بعيدة عن روح الإسلام تجهل مَن هو عليّ؟! وفضائل أهل البيت، أُمويّة ناصبيّة أجيالاً طويلة لا يمكن أن تنمحي آثارها. فإذا جاء ابن تَيمِيه بإرثهِ الخارجيّ وسوء تربيته وضياع نسبه وتأثير محيطه وبيئته الأولى: حرّان، ليحطّ رحاله في بيئته الجديدة؛ كان أشدّ من معاوية على عليّ وأهل البيت عليهم‌السلام في المنع من الحديث! وكان معاوية أكثر إنصافاً من ابن تَيمِيه؛ ذلك أنّ معاوية إذا أُحْصِر في الحِجَاج أقرّ لأبي الحسن عليه‌السلام فضله، أمّا ابن تَيمِيه فقد عاهد الشيطان إلاّ شنّ الغارة على أهل البيت بعد ما تجاوز حرمة الرسول والمـُرْسِل!!
وإذا كان مَن سبق معاوية اكتفوا بمنع حديث رسول الله وحبسوا الصحابة - على ما ستقف على معنى الحبس هنا - فإنّ معاوية قد أحلّ الحرام وانتهك حرمة كبار الصحابة لأجل ذلك وكان أكثر جرأةً وصراحة من غيره لمّا خطب فقال: «ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلُّوا ولا لتحجُّوا ولا لتزكُّوا، قد عرفتُ أنّكم تفعلون ذلك، ولكن إنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم ...».
حديث رسول الله؛ وردّ عمر بلفظ آخر
ويأتي حديث رسول الله بلفظ مقارب لما ذكرناه سابقاً، وأمّا ردّ عمر
واعتراضه فإنّه يرِد أكثر جَفْوة، فقد ذكروا: لمّا مات رسول الله قال قبل وفاته بيسير: «ائتوني بدواةٍ وبياضٍ لأكتب لكم كتاباً لا تختلفوا فيه بعدي». فقال عمر: دَعُوا الرجُلَ، فإنّه لَيَهْجُر (1)!
الله أكبر!، دَعُوا الرجل، وليس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ أي اتركوه وتخلّوا عنه ولا تلتفتوا إلى قوله، فإنّي أُؤكّد لكم «لَيَهْجُر» أنّه يهذي ولا يدري ما يقول - معاذ الله يا رسول الله أن نقول شيئاً من ذلك - وهي أبلغ من كلّ العبارات التي مضت في القُبْح والشتيمة! وهذا النصّ أقرب إلى القبول؛ وإن كان التقديم أي الاعتراض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منهيّ عنه في القرآن الكريم وليس من أدب الإسلام في شيء، واللّغط الذي حدث بسبب ذلك، وشتيمة عمر للنّسوة اللاّتي اعترضن عمر وشيعته وطلبن استجابة أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ...، فإنّ هذه الأمور كافية لطرد رسول الله للقوم: إلاّ أنّ في العبارة هذه زيادة على ما تقدّم: فَصْمُ العُرَى بينهم وبين الرسول، من خلال دَعُوا الرجل؛ فلا معنى بعد ذلك لكلام عمر: «حسبُنا كتابُ الله». إذ أركان الإسلام ثلاثة: التوحيد، والنبوّة، والمعاد؛ فمَن أنكر واحدة منها فليس بمسلم، وهذه الدعوة صريحة لإنكار أحد الأركان والتخلّي عنه وهو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ هذا ورسول الله بينهم يرَونه بوجهه الوضيء بنور النبوّة ويسمعون
____________________
(1) مسند أحمد 3: 346، صحيح البخاري - كتاب العلم، باب كتابة العلم، المجلّد الأوّل صفحة 39، والمجلّد 4 باب قول المريض ... صفحة 5، و 6 باب مرض النبيّ ووفاته صفحة 11، و 4 كتاب الجهاد - باب جوائز الوفد، صفحة 85، شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 2: 536. مجمع الزوائد 4: 390 و 391، الكامل، لابن الأثير 2: 217، طبقات ابن سعد 2: 243، تذكرة الخواصّ: 65.
صوته، فكيف بهم إذا قبضه الله تعالى ورفعه إلى أعلى عِلّيِّين؟!
أنعجل ونقول: سيرتدّ بعضهم القَهْقرى؟
لا نجافي الحقيقة ولا نعدوها إن قُلنا: نعم؛ فالّذي وقع من عمر وأصحابه بحقّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، وطرد رسول الله إيّاهم من ساحة رحمته فلم يعتذروا بل لجّوا في طغيانهم ففارقوه إلى السقيفة ولم يرجعوا إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ إلاّ وقد قبض الله تعالى نفسه الزكيّة إليه - هذا في أحسن الأحوال وتنزّلاً في قبول الرّواية، وإلاّ فالمرويّ عن عائشة قولها: لم نعلم بوفاة رسول الله إلاّ بوقع المساحي والرجال يحفرون ليلاً ...، وكان أمير المؤمنين في ثلّة من بني هاشم قد تولّوا دفنه -؛ ولقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله حذّرهم الرِّدّة والتبديل.

أحاديث النبيّ في الرِّدّة
أخرج مسلم بنسده عن أبي حازم قال: سمِعتث سَهْلاً يقول: «سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: أنا فَرَطُكُم على الحوض مَن وَرَدَ شرِبَ ومَن شرِب لم يظمأ أبداً، ولَيَرِدَنّ علّيَّ أقوامٌ أعرِفُهم ويعرِفوني ثمّ يُحال بيني وبينهم»، قال أبو حازم: فسمِع النُّعمان بن أبي عيّاش وأنا أُحدّثهم هذا الحديث فقال: هكذا سمِعتَ سهلاً يقول؟ قال: فقلتُ نعم قال: وأنا أشهدُ على أبي سعيدٍ الخُدْريّ لَسمِعتُه يزيدُ فيقولُ: «إنّهم منّي، فيُقال: إنّك لا تدري ما عمِلوا بعدَك فأقولُ سُحْقاً سُحْقاً لِمَن بَدّلَ بعدي» (1).
فأيّ تبديل أعظم من رفض سنّته في حياته، ثمّ المنع من تدوينها
____________________
(1) صحيح مسلم، بشرح النووي المجلّد 8، الجزء 15: 54.
والتحديث بها وحبس الصحابة على ذلك بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!
وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله: «إنّي على الحوض حتّى أنظرَ مَن يرِدُ علَيَّ منكم وسَيُؤخذُ أُناسٌ دوني فأقولُ يا ربِّ منّي ومن أُمّتي، فيقولُ: إنّك لا تدري ما عمِلوا بعدك ما زالوا يرجعون على أعقابهم» (1).
وعن أمّ سَلَمة، قالت: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله: «أيّها الناس إنّي لكم فَرَطٌ على الحوض فإيّايَ لا يأتِيَنّ أحدُكم فيُذَبُّ عنّي كما يُذبّ البعيرُ الضالّ فأقول: فِيمَ هذا؟ فيُقال إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقولُ: سُحْقاً» (2).
فالذي أحدثوه «بعده» من جنس «الأريكة»، والذي يرد فيه لفظ «يوشك». ومن حديثه صلى‌الله‌عليه‌وآله في عِظم الخطر المحدق بأصحاب الأريكة:
عن عُقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج يوماً فصلّى على أهل أُحُد صلاتَه على الميِّت ثمّ انصرف إلى المنبر فقال: «إنّي فَرَطٌ لكم وأنا شهيدٌ عليكم وإنّي والله لأَنظرُ إلى حوضي الآن وإنّي قد أُعطيتُ مفاتيح خزائن الأرض وإنّي واللهِ ما أخافُ عليكم أن تُشركوا بعدي ولكن أخافُ عليكم أن تتنافسوا فيها» (3).
وهذا الذي وقع ليلة وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله، فبعد ما أساؤوا الأدب كما لحظنا، راحوا إلى سقيفة بني ساعدة فكان ممّا يندى له الجبين من أجل «الأريكة»، وغُصبت الزهراء الطاهرة عليها‌السلام إرثها من أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله واعتدوا عليها وكادوا يحرقوا بيتها وهي
____________________
(1) نفسه: 56.
(2) نفسه.
(3) نفسه: 57. وانظر الجمع بين الصحيحين، وتاريخ دمشق 8: 109 و 3: 8 و 47: 117.
فيه! وقوتلت قبائل قد امتنعت من بيعة أبي بكر وكانت ترى أنّ الخليفة الشرعيّ هو عليّ عليه‌السلام ...
والأحاديث في هذا الحقل من الوفرة ممّا يضعنا أمام الواقع الصعب الذي كان يعاني منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحيٌ يوحى.
إنّ ما وقع من القوم في حجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، وفيما أحدثوه بعده، سبقتها وقائع مرّة! فقد استجابوا لهتاف الشيطان وفرّوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونزل بهم بيان من الله سبحانه يوبّخهم على ذلك. وفرّوا بالرّاية يوم خيبر، ولم نسمع أنّهم جرحوا بطلاً فضلاً عن جندلة أبطال!
ويبقى عليّ عليه‌السلام بعيداً عن كلّ هذه اللّوثات في جمعٍ من الأتقياء ممّن لم يبدّلوا ولم يغيّروا. وكان عليه‌السلام يستبق الأحداث وكيف لا؟ وسرّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عنده.
عن عمرو بن طلحة، عن أسباط بن نصر، عن سِماك، عن عِكرِمة عن ابن عبّاس: أنّ عليًّا قال في حياة النبيّ إنّ الله عزّ وجلّ يقول: (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى‏ أَعْقَابِكُمْ) (1)، واللهِ لا ننقلب على أعقابنا أبداً بعد أن هدانا الله، والله لَئِن مات أو قُتل لأُقاتلنّ على ما قاتل عليه حتّى أموت، والله إنّي لأَخوهُ ووليُّه وابن عمّه ووارثه، فمَن أحقُّ به منّي (2)؟!
____________________
(1) آل عمران: 144.
(2) الفضائل، لأحمد، حديث 232، خصائص النّسائيّ: 130 ح 65، المستدرك على الصحيحين 3: 126، المعجم الكبير، للطبرانيّ 1: 107/ ح 176، وعنه أبو نعيم في معرفة الصحابة 1: 23، =
أبو هريرة
واحدٌ من زمرة معاوية ممّن أوكل إليهم وظيفة تقليب الحديث ووضعه مقابل ما جعلَ لهم من عطاءٍ اشترى به بقيّة دينهم!
فقد ذكر الإسكافي رواية عن الأعمش، قال: لمّا قدم أبو هريرة مع معاوية عامَ الجماعة - بعد الصلح بين معاوية والإمام الحسن عليه‌السلام -، جاء إلى المسجد الكوفة، فلمّا رأى كثرة من استقبله من الناس جَثَا على ركبتيه، ثمّ ضربَ صَلْعته مراراً، وقال: يا أهل العراق، أتزعمون أنّي أكذي على الله وعلى رسوله، وأحرق نفسي بالنار! والله لقد سمعتُ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يقول: «إنّ لكلّ نبيٍّ حَرَماً، وإنّ حَرَمي بالمدينة، ما بين عَيْر إلى ثور، فمَن أحدثَ فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»، وأشهد بالله أنّ عليّاً أحدث فيها، فلمّا بلغ معاويةَ قولُه أجازه وأكرمه وولاّه إمارة المدينة.
قلت - والقول لابن أبي الحديد -: أمّا قوله «ما بين عَيْر إلى ثَوْر» فالظاهر أنّه غلط من الراوي، لأنّ ثوراً بمكّة وهو جبل يقال له: ثَوْر أطحل، وفيه الغار
____________________
(1) الأغاني.
الذي دخله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبو بكر؛ وإنّما قيل أطحل لأنّ أطحل بن عبد مناف بن أدّ ... بن عدنان كان يسكنه، وقيل اسم الجبل أطْحَل، فأضيف «ثور» إليه والصواب: «ما ين عَيْر إلى أحد» (1).
وزاد في معجم البلدان في القول: إلى - التي ذكرها أبو هريرة عير إلى ثور - بمعنى مع، كأنّه جعل المدينة مضافة إلى مكّة في التحريم (2).
فأمّا قول أبي هريرة: «إنّ عليّاً عليه‌السلام أحدثَ في المدينة» فحاشَ لله! كان عليه‌السلام أتقى لله من ذلك؛ والله لقد نصر عثمان نصراً لو كان المحصورُ جعفر بن أبي طالب لم يبذُلْ إلاّ مثله (3).
قال أبو جعفر - الإسكافيّ -: وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضيّ الرواية، ضربه عمر بالدِّرة، وقال: قد أكثرتَ من الرواية وأحْر بك أن تكون كاذباً على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (4).
وروى سفيان الثوريّ، عن منصور، عن إبراهيم التيميّ، قال: كانوا لا يأخذون عن أبي هريرة إلاّ ما كان من ذِكْر جنّة أو نار (5).
وروى أبو أسامة عن الأعمش، قال: كان إبراهيمُ صحيحَ الحديث، فكنتُ
____________________
(1) شرح نهج البلاغة 4: 67، معجم البلدان 2: 86 - 87.
(2) معجم البلدان 2: 87.
(3) شرح نهج البلاغة 4: 67.
(4) نفسه 68.
(5) شرح نهج البلاغة 4: 67.
إذا سمعتُ الحديث أتيتُه فعرضتُه عليه، فأتيتُه يوماً بأحاديث من حديث أبي صالح عن أبي هريرة، فقال: دعني من أبي هريرة، إنّهم كانوا يتركون كثيراً من حديثه (1).
وقد روي عن عليّ عليه‌السلام أنّه قال: ألاَ أنّ أكذبَ الناس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبو هريرة الدَّوْسيّ (2).
وروى أبو يوسف، قال: قلت لأبي حنيفة: الخبر يجيء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ يخالف قياسنا ما نصنع به؟ قال: إذا جاءت به الرواة الثقاتُ عمِلنا به وتركنا الرأي، فقلت: ما تقول في رواية أبي بكر وعمر؟ فقال: ناهيك بهما! فقلت: عليّ و عثمان؟ قال: كذلك، فلمّا رآني أعُدّ الصحابة قال: والصحابة كلّهم عدول ما عدا رجالاً، ثمّ عدّ منهم أبا هريرة وأنس بن مالك (3).
وروى سفيان الثوريّ، عن عبد الرحمان بن القاسم، عن عمر بن عبد الغفار، أنّ أبا هريرة لمّا قدِم الكوفة مع معاوية، كان يجلس العشِيّات بباب كِنْدة، ويجلس الناس إليه، فجاء شابٌّ من الكوفة، فجلس إليه، فقال: يا أبا هريرة، أنشُدُك الله، أسمعتَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول لعليّ بن أبي طالب: «اللّهمّ والِ مَن والاه وعادِ من عاداه»؟! فقال: اللّهمّ نعم؛ قال: فأشهد بالله ن لقد واليتَ عدوّه، وعاديت
____________________
(1) نفسه.
(2) نفسه.
(3) نفسه.
وليّه! ثمّ قام عنه (1).
وروى أنّ عمرو بن ثابت، كان عثمانيّاً، من أعداء أميرالمؤمنين عليّ عليه‌السلام ومبغضيه.
روى أنّه كان يركب ويدور القرى بالشام ويجمع أهلها، ويقول: أيّها الناس، إنّ عليّاً كان رجلاً منافقاً؛ أراد أن يبْخس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة العقبة، فالعنوه، فيلعنه أهلُ تلك القرية؛ ثمّ يسير إلى القرية الأخرى، فيأمرهم بمثل ذلك. وكان في أيّام معاوية (2). فما أحرى هؤلاء أن يكونوا مصداق قول أميرالمؤمنين عليه‌السلام: روى حمّاد بن صالح، عن أيّوب، عن كهمس؛ أنّ عليّاً عليه‌السلام قال: يهلِك فيَّ ثلاثة: اللاعن والمستمع المقرّ ن وحامل الوِزْر، وهو الملك المـُترَف، الذي يُتَقَرَّب إليه بلعنتي، ويُبرأ عنده من ديني، ويُنتقص عنده حسبي؛ وإنمّا حَسَبي حَسَبُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، وديني دينه. وينجو فيَّ ثلاثة: مَن أحبّني، ومَن أحبّ محبّي، ومَن عادى عدوّي؛ فمَنْ أُشرِب قلبُه بُغضي أو ألّب على بُغضي؛ أو انتقصني؛ فليعلم أنّ الله عدوّه وخصمه؛ واللهُ عدوٌّ للكافرين (3).
فأين مستقرّ كلّ مَن عادى وألّب وحارب وزَوي حقّ أميرالمؤمنين عليه‌السلام وكذب على الله ورسوله بوضع الحديث واختلاقه، وأيّ حديث مفترى؟! إنّه تنقيص وسبّ لنفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بصريح القرآن الذي هو عِدْلُه وليّ أمير
____________________
(1) شرح نهج البلاغة 4: 67.
(2) نفسه 23.
(3) نفسه 105.
المسلمين بعد الله تعالى ورسوله بنصّ القرآن وبيعة الغدير وغير ذلك سيّد العرب وأبو سبطي سيّد البشر اللّذين هما سيّدا شباب أهل الجنّة، وزوج سيّدة نساء العالمين التي ردّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجالات كانوا يعدّون أنفسهم سادة فقال لهم: إنّ زواجها بيد الله؛ فزوّجها عليّاً عليه‌السلام صاحب الفتوحات حتّى هتف ملك السماء باسمه مرّتين: يوم بدر، وأُحد ...
ومن ثَمَّ هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من شجرة واحدة والناس من أشجار شتّى؛ فهما في الذروة إذ عُدّ النسب؛ فبأيّ وجهٍ يُقدح أبو الحسنين؟!
أيّهم أولى بالنقيصة وعذاب الخُلد؟؛ روى صاحب كتاب «الغارات» عن الأعمش، عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «سيظهر على الناس رجل من أُمّتي، عظيم السُّرم، واسع البُلعوم، يأكل ولا يشبع، يحمل وِزْر الثَّقَلين، يطلب الإمارة يوماً، فإذا أدركتموه فابقروا بطنَه، قال: وكان في يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قضيب، قد وضع طرفه في بطن معاويه» (1).
عن عمرو بن مرّة، عن أبي عبد الله بن سلمة، عن عليّ عليه‌السلام، قال: رأيتُ الليلة رسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، فشكوت إليه، فقال: هذه جهنّم فانظر مَن فيها، فإذا معاوية وعمرو بن العاص معلّقين بأرجلهما منكّسين، تُرْضَخ رؤوسهما بالحجارة (2).
____________________
(1) شرح نهج البلاغة 4: 108.
(2) نفسه 109.






يتبع

من مواضيع : الشيخ عباس محمد 0 دراسة بريطانية: تعدد الزوجات يطيل العمر ويجلب الرزق
0 كيف أجعل زوجي يهتم بي
0 أكثر ما تحبه المرأة في الرجل
0 هل حب المخالف لعلي (عليه السلام) ينجيه يوم القيامة ؟
0 عنى حديث الاجتماع على حب علي (عليه السلام)
رد مع اقتباس