عرض مشاركة واحدة

الصورة الرمزية *سماء العشق*
*سماء العشق*
عضو نشط
رقم العضوية : 19658
الإنتساب : Jun 2008
المشاركات : 179
بمعدل : 0.03 يوميا

*سماء العشق* غير متصل

 عرض البوم صور *سماء العشق*

  مشاركة رقم : 2  
كاتب الموضوع : *سماء العشق* المنتدى : منتدى العقائد والتواجد الشيعي
افتراضي
قديم بتاريخ : 08-04-2010 الساعة : 09:58 PM


واتصل العامليون بالشيخ ظاهر العمر، حليفهم، يطلبون منه العون والنجدة، وكانوا قد ناصروه مناصرة فعالة في معركة سبق وجرت، في آب من العام نفسه ،1771 ضد عثمان باشا الصادق والي دمشق، عند بحيرة الحولة، انتهت بهزيمة الوالي وسحق جيشه، وانتصار الشيخ ظاهر وحلفائه العامليين، فكتب بدوره الى الأمير اسماعيل أمير وادي التيم يتوسطه لكي ينصح ابن اخته الأمير يوسف بإحلال الصلح بينه وبين العامليين، وأرسل الأمير اسماعيل كتاب الشيخ ظاهر الى الأمير يوسف وطلب منه باسمه الشخصي، أن يتوقف عن مطاردة العامليين وإرهاقهم تجاوباً مع وساطة الشيخ ظاهر، ولكن الأمير يوسف رفض قبول الوساطة، كما أنه لم ينتظر وصول خاله الأمير اسماعيل الذي طلب منه البقاء في مركزه من دون قتال حتى وصوله، فانطلق بجيشه الى كفررمان فأحرقها، ثم الى النبطية (تشرين الأول 1771) حيث كان العامليون قد استقروا بعد أن جمعوا فلول مقاتليهم فبلغت نحو أربعة آلاف مقاتل، وانضم اليهم حليفهم الشيخ ظاهر العمر الذي أغاظه عدم قبول الأمير يوسف لوساطته، وعزم الجميع على ملاقاة المهاجمين، وما إن وصلت طلائع جيش الأمير يوسف الى النبطية حتى بادرها العامليون ورجال الشيخ ظاهر بالقتال، ويرى بعض المؤرخين أن الشيخ علي جنبلاط، الذي كان في صفوف الأمير مع رجاله، كان ميالاً للتفاهم مع العامليين ومصالحتهم، فلم ترقه هذه الحرب، وانكفأ برجاله، مما أدى الى تضعضع صفوف الجيش الشهابي ثم هزيمته، وانقض العامليون مع حلفائهم ساعتئذ على الجيش المنهزم فأوقعوا في صفوفه، حسب بعض المؤرخين، نحو ألف وخمسمئة قتيل، ولم ينقذ جيش الأمير يوسف إلا وصول خاله الأمير اسماعيل بجيشه، ولكن الأمير يوسف ظل يتقهقر بجيشه حتى دخل إمارته، وخاف درويش باشا والي صيدا من لقاء العامليين وحلفائهم ففر من المدينة، وقاد الشيخ ظاهر العمر الهجوم باتجاه الشمال، وكان ذلك طموحاً قديماً لديه، فدخل صيدا فاتحاً حيث مكث فيها مدة، ثم عيّن عليها متسلّماً من قبله هو أحمد آغا الدنكزلي، وغادرها الى فلسطين. وحكم العامليون صيدا في هذه الفترة، وأقاموا فيها يتحرشون بإمارة الأمير يوسف، واستقرت العداوة بين الأمير يوسف وحلفائه العثمانيين من جهة، والشيخ ظاهر وحلفائه العامليين من جهة أخرى، ولم يكن ممكناً أن تسمح السلطنة للشيخ ظاهر وحلفائه بهذا الانتصار، فأرسل عثمان باشا والي دمشق يطلب من الأمير يوسف تجهيز جيش لمقاتلتهم، وكتب الى خليل باشا والي القدس ومعه الجزار أن يرافقه في هذه الحملة، وأمدهما بكل ما يلزمهما من معدات القتال، فتجمع للأمير يوسف نحو عشرين ألف مقاتل ضربوا حصاراً حول صيدا مدة أسبوع كامل كاد الدنكزلي في نهايته أن يسلم المدينة، لولا أن الشيخ ظاهر أوفد سفناً مسكوبية حربية (استأجرها لهذا الغرض) فأطلقت مدافعها على الجيش المحاصر، مما اضطره الى فك الحصار عن المدينة.

وعلى الرغم من ذلك، فقد حاول الشيخ ظاهر أن يتحاشى استئناف القتال، فأرسل الى الأمير يوسف يطلب منه أن يرجع بعسكره الى جسر الأولي شمالي صيدا، إلا أن الأمير أبى ذلك، فزحف الشيخ ظاهر وحلفاؤه المصريون والعامليون تجاه صيدا لاحتلالها، والتقى الجيشان في سهل "الغازية" جنوبي شرقي صيدا (في حزيران 1772)، حيث جرت بينهما معركة انتهت بهزيمة الأمير يوسف وحليفه خليل باشا والي القدس، وطارد الشيخ ظاهر وحلفاؤه فلول جيش الأمير يوسف حتى وصلت حدود الإمارة، بينما فر خليل باشا بمن معه الى دمشق بعد أن خسر نحو خمسمئة رجل، أما خسارة الشيخ ظاهر فكانت نحو ألف رجل. ولم يكتف الشيخ ظاهر بهذه الهزيمة، بل أرسل السفن المسكوبية لحصار مدينة بيروت بحراً - وكانت محمية شهابية - فدمرت بمدافعها بعض أبراج المدينة، ثم نزل عسكر هذه السفن اليها فنهبوها وعادوا الى سفنهم، وظل حصار السفن المسكوبية لبيروت قائماً الى أن دفع أمراؤها مبلغاً من المال قبضه قائد الأسطول وعاد قافلاً الى عكا.

واستمر التحالف بين العامليين بقيادة الشيخ ناصيف النصار وبين المصريين بقيادة علي بك والصفديين بقيادة الشيخ ظاهر العمر، قوياً ومتيناً، حتى عام ،1774 حيث دب الخلاف بين محمد بك أبو الذهب الذي خلف علي بك في حكم مصر بعد وفاته، وبين الشيخ ظاهر، فأشهر أبو الذهب الحرب على حليفه الشيخ ظاهر، وهاجم بلاده بستين ألف مقاتل، مما اضطر الشيخ ظاهر الى الفرار بينما احتل أبو الذهب عكا وصفد وصور وصيدا، إلا أنه لم يستمر في حكم هذه البلاد سوى أيام معدودات، إذ توفي فجأة فانسحبت الجيوش المصرية وعاد الشيخ ظاهر الى عكا، ولكنه اغتيل عام 1776 على يد أحد رجاله من أتباع الدنكزلي، وتسلّم أحمد باشا الجزار ولاية عكا، فكان أول همه إخضاع جبل عامل لسلطته، وزحف إليه بجيش لجب عام ،1781 وتصدى له ناصيف النصار مع حلفائه من مشايخ هذا الجبل، ودارت بين الفريقين معركة ضارية هي معركة (يارون) التي انتهت بانتصار الجزار ومقتل النصار مع عدد يراوح بين 300 و400 من فرسانه ومقتل عدد من المشايخ العامليين. ويتحدث أرازي Arazy قنصل فرنسا العام في صيدا عن هذه المعركة، في رسالة منه الى الكونت دي فيرجين C. De Vergennes وزير الدولة، بتاريخ 2 تشرين الأول 1781 فيقول: "ان موت الشيخ ناصيف ونحو 300 أو 400 من فرسانه مع عدد من المشايخ، وضع، بضربة واحدة، حداً لهذه الحرب، وذلك بتشتيت باقي المشايخ الذين وقع إثنان منهم في قبضة الباشا".

Ismail, ********s, T2 p385

وبمقتل الشيخ ناصيف خضع جبل عامل لحكم الجزار طيلة ربع قرن حتى وفاة هذا الأخير عام 1804.

منذ أن تولى أحمد باشا الجزار حكم ولاية عكا (بما فيها جبل عامل وصيدا) لم يعد للشهابيين يد في هذه الولاية، وهكذا، فقد انقضت ولاية الأمير يوسف (عام 1790)، والعقد الأول من ولاية الأمير بشير الثاني الكبير حتى وفاة الجزار (1804)، من دون أن يكون لهؤلاء الأمراء في جبل عامل أي تأثير، ولكن العامليين، الذين تعودوا التمرد والثورة على كل حكم أجنبي، وأنسوا في حياتهم شيئاً من الحرية والاستقلال الذاتي، لم يستكينوا لحكم الجزار الذي تميّز بالغلظة والقسوة، فحكم البلاد بالحديد والنار، وقضى على قسم كبير من زعمائهم وشرّد القسم الآخر الى عكار وحلب والأناضول، وهاجر العلماء والمثقفون الى البلاد الإسلامية النائية كالهند والعراق وإيران وأفغان خوفاً من بطش الجزار وظلمه، فأصبح تاريخ احتلال الجزار لجبل عامل نهاية فترة من الحكم الذاتي تمتع به الجبل طويلاً، ولكن البلاد عرفت في عهد الجزار عدداً من الانتفاضات كتلك التي قام بها الشيخ حمزة بن محمد النصار من آل الصغير والشيخ علي الزين صاحب شحور، اللذان شكلا فرقة من الثوار أخذت تهاجم المراكز الحكومية العائدة للجزار، فهاجمت تبنين وقتلت الحاكم العام فيها وأصابت بعض أعوانه، إلا أن انتقام الجزار كان شديداً، إذ فاجأ المتمردين في بلدة شحور بفرقة من جنده فقضى على زعيمهم الشيخ حمزة وفر الشيخ علي الى إيران وتشتت شمل المتمردين جميعاً.

يستدل من ذلك أن هذه الانتفاضات في عهد الجزار لم تكن منظمة ولم يقيض لها زعيم كناصيف النصار يوجهها التوجيه الصحيح، فغالباً ما كنت خالية من أي توجيه ثوروي أو أي غاية سياسية محددة، كما كانت لا تتورع عن إيقاع الضرر بالأهالي أو برجال الجزار لا فرق، يحدثنا الشيخ علي سبيتي في مجموعته عن هذا الموضوع فيقول: "كان دور العصابات والفدائيين أتعس دور مرّ على جبل عامل، وقع فيها، بين نارين، نار زبانية الجزار ونار رجال الثورة، فالزبانية التي كان يقذفها الطاغية تعيث في البلاد فساداً، وتضيق الخناق على الأهلين المساكين وتؤلف منهم فرقاً لمطاردة العصابات فلا تظفر بهم، والثوار يشنّون الغارات للسلب والنهب وحرق القرى وتدمير البيوت متغلغلين في بطون الأودية بين الأحراج والغابات ومعتصمين برؤوس الجبال".

ولكن الكابوس الخانق، الذي كانت شخصية الجزار المعروفة بالبطش والظلم والإرهاب قد فرضته على أهل جبل عامل طيلة حياته، ارتفع بعد مماته عام ،1804 وعلى الرغم من أن والياً جديداً عيّن على عكا هو سليمان باشا، إلا أن حرب العصابات في جبل عامل قد اتسعت وعمّت، وشملت سلطة الثوار عكا وصفد، فصاروا يفرضون الضرائب والرسوم على البلاد ويعاقبون المتمردين على أوامرهم، وقد قيض للعامليين، في هذه الفترة، زعيم قوي وقادر وذو نفوذ، كأبيه، هو فارس بن ناصيف النصار، الذي قاد الثورة ضد الوالي الجديد، وكان هذا "سلس القياد لين العريكة" بعكس الجزار سلفه، فقرر أن وسيلة التودد واللين مع ثوار بني عاملة أجدى من البطش والإرهاب، فتوسط لديهم الأمير بشير الثاني أمير الشهابيين (1790 - 1840) وكان هذا سياسياً قديراً ومحنكاً، استطاع بدهائه وقدرته السياسية، التوصل مع الثوار العامليين الى شروط للصلح تنهي الثورة، وقد وقع على هذه الشروط في بيت الدين، كل من جرجس باز معتمد الأمير وحسن الشيت معتمد الشيخ فارس النصار، وهي تتلخص بما يلي:

1 - العفو العام عن جميع الثائرين.

2 - إعادة إقليم الشومر الى جبل عامل وكان قد سلخ عنه بعد معركة يارون عام 1781.

3 - أن لا يكون لموظفي الدولة سلطة على الجبل، وأن يرجع أهله في حل خلافاتهم الى عميدهم الشيخ فارس (النصار) الذي يمثلهم تجاه الحكومة وبه تحصر الاتصالات وعليه تعود المسؤولية (تاريخ جبل عامل، لمحمد جابر آل صفا، ص 141).

وقد وافق والي عكا سليمان باشا وراغب أفندي معتمد الباب العالي على هذه الاتفاقية، فكانت موافقتهما اعترافاً صريحاً بنوع من الحكم الذاتي لجبل عامل، وهو الأمر الذي حرم منه هذا الجبل طيلة حكم الجزار، وقد اتخذ الشيخ فارس بلدة (الزرارية) مقراً له حيث بنى فيها داراً للرئاسة على نفقة الدولة.

وظلت هذه المعاهدة قائمة حتى ولاية عبد الله باشا الذي خلف سليمان باشا في عكا، وفي عام 1821 عقد عبد الله باشا مع مشايخ جبل عامل اتفاقاً جديداً أعاد اليهم بموجبه حكم بلادهم كما كان في السابق، وكان العامليون أوفياء للوالي المذكور، فخاضوا معه القتال ضد درويش باشا والي الشام في معركتي المزه وجسر بنات يعقوب، وظل الاتفاق قائماً بين عبد الله باشا وجبل عامل حتى عام ،1832 العام الذي احتل فيه ابراهيم باشا المصري بلاد الشام، فدخل جبل عامل في الحكم المصري الذي ألحقه بالإمارة الشهابية وكان قد تولاها الأمير بشير الثاني منذ عام ،1790 فكان إلحاقه بهذه الإمارة أحد أهم أسباب اشتراك العامليين بالثورة التي قامت فيما بعد في بلاد الشام على المصريين والشهابيين معاً، وذلك للنزاع البعيد الجذور الذي كان قائماً بين العامليين والشهابيين وقد سبق ورأينا منه أمثلة عديدة.

ثار العامليون على المصريين وحلفائهم الشهابيين، فكان ذلك أول مرة في تاريخهم يتحالفون فيها مع العثمانيين، الذين طالما حارب العامليون ولاتهم وثاروا عليهم، وولى الأمير بشير ابنه الأمير مجيد حكم جبل عامل فبطش هذا بالعامليين ونكل بهم، وسجن رجالهم وحقر علماءهم، واتخذ سياسة العنف والشدة سبيلاً لمعاملتهم بدلاً من اللين والمسايرة، فقاد ثورة العامليين عليه واحد من زعمائهم هو الشيخ حسين بن شبيب بن علي الفارس من آل صعب وأخوه محمد علي، وقد استمرت ثورة الصعبيين هذه ضد الشهابيين وحلفائهم المصريين ثلاث سنوات (1836 - 1839) كانوا في خلالها يهاجمون مراكز الحكومة ويطردون عمالها، ولم يتمكن الأمير مجيد الشهابي من إخماد هذه الثورة، فأخذ ينكل بأهالي الثوار وأقربائهم وذويهم، مما اضطر عدداً من وجهاء الجبل وزعمائه الى التدخل لوضع حد لثورة الصعبيين بشرط الحفاظ على كرامة زعيميها وحياتهما، الا أنهما أبيا ذلك وفضلا مغادرة البلاد الى حوران وضواحي دمشق، ولكن مرضاً ألم بأحدهما الشيخ حسين فظل في منزله بقرية (ياطر) حيث قبض عليه واقتيد الى المشنقة مع واحد من أتباعه، أما أخوة محمد علي فقد فر الى خارج البلاد ولم يعد طيلة حياته.

ولكن لم تكن تلك نهاية الثورة ضد الحكم المصري والشهابي في جبل عامل، فقد حمل لواءها من جديد وفي عام 1840 واحد من أشهر زعماء آل الصغير بعد ناصيف النصار، هو حمد البك المحمود، الذي أعلن الثورة في وقت كانت الدول الكبرى قد اتفقت فيما بينها على انتزاع بلاد الشام من محمد علي واعادتها الى حكم السلطنة، وتحركت الجيوش العثمانية براً تساندها الأساطيل الإنكليزية بحراً، لتنفيذ هذا الاتفاق، ووصلت طلائع هذه الجيوش الى حلب، عندها انطلق حمد البك بثورته من جبل عامل، فقاتل الأمير مجيداً الشهابي حليف المصريين عند "جسر القعقاعية" وكان هذا الأمير مكلفاً مهمة إخضاع جبل عامل من قبل أبيه، فهزمه حمد البك وتابع سيره مع فرقته شمالاً حتى وصل بها الى حمص، حيث اتصل بالجيش العثماني المرابط هناك، فانضم إليه واشترك معه في محاربة المصريين، مظهراً من البطولة ما أكسبه ثناء القائد العثماني عزت باشا وإعجابه، فعيّنه حاكماً لجبل عامل ومنحه لقب شيخ مشايخ بلاد بشارة، وعهد إليه بمطاردة الجيش المصري في الجنوب، فعاد حمد البك ليقاتل فلول هذا الجيش المنهزم في رميش ووادي الجش وشفا عمرو حيث طردهم منها، واستولى على صفد وطبريا والناصرة وأجلى المصريين عنها، وما أن استقر الحكم العثماني في جبل عامل من جديد حتى ثبت حمد البك في منصبه كحاكم عام على هذا الجبل، وظل كذلك حتى وفاته عام ،1852 حيث خلفه في الحكم رجل يدعى علي بك الأسعد الذي توفي عام ،1865 فكان آخر الحكام الاقطاعيين الذين تولوا حكم جبل عامل في هذه الفترة، إذ حكمت الدولة العثمانية، بعد هذا التاريخ، بلاد عاملة حكماً مباشراً، فانتهت بذلك حياة جبل عامل السياسية، وزال الحكم الإقطاعي المحلي من البلاد.

يذكر الدكتور عادل اسماعيل في كتابه (السياسة الدولية في الشرق العربي، جـ2:60) أن محمد علي باشا حاكم مصر كان ينادي بتحرر الشعوب العربية "التي تكون مصدر قوة السلطان بالمال والرجال وتعيش في الامبراطورية العثمانية حياة التابع البائس المستضعف" وان أحد مرافقي ابنه القائد ابراهيم باشا سأل هذا القائد يوماً، وفي أثناء حصاره لعكا، الى أي مدى ستصل فتوحاته؟ فأجاب: "الى حدود البلاد التي لا يتكلم فيها الناس ولا يتفاهمون باللسان العربي".

ويقدم الاستاذ جوزف حجار في كتابه "أوروبا ومصير الشرق العربي ص84 - 99" شواهد وأدلة عديدة تدل على أن محمد علي باشا كان يطمح لتأسيس "امبراطورية عربية" فتية على امتداد البلاد الناطقة بالعربية، بدلاً من الامبراطورية العثمانية الهرمة. ان من يطلع على خفايا المسألة الشرقية في هذه الفترة من تاريخها، وعلى الأدوار الرهيبة التي قامت بها الدول الكبرى الخمس، خصوصاً وزراء خارجيتها في عواصمهم، وسفراؤها في عاصمة السلطنة، وقناصلها في كل من بيروت والاسكندرية، وعلى الجهد المضني الذي بذلوه، والموقف الصلب الذي وقفوه في وجه طموح محمد علي، فمنعوا عنه أي انتصار يمكن أن يصل به الى حد تأسيس امبراطورية عربية، أو الى حد الطموح الى السلطنة، حتى إنهم وقفوا حائلاً بينه وبين أي نوع من التفاهم مع الباب العالي، يرى حرص هذه الدول، وهي غير حسنة النية ولا شك، على أن تظل الامبراطورية العثمانية قائمة بهيكلها المتداعي وكيانها المشرف على الانصهار، لا رغبة في مساعدتها وحباً بالإبقاء عليها، وإنما لإبعاد شبح قيام امبراطورية مماثلة ولكن بدم جديد أكثر حرارة وذات وشائج أكثر متانة، ولكي يتم، في الوقت المناسب، تقويض أركانها، بقصد اقتسام الرجل المريض وتوزيع تركته فيما بينها، فتنال كل دولة حصتها من الغنيمة، تماماً كما حصل بعد الحرب العالمية الأولى.



ثانياً - الشخصية العاملية في عهد الإمارتين: الوجه العسكري

كان بودّي، في بحثي هذا، أن أتحدث عن الشخصية العاملية في عهد الإمارتين بوجهيها الاجتماعي والفكري، وهما وجهان مشرقان، وغنيان بالتقاليد العريقة والآثار الفكرية المتطورة، لولا أن ضيق المجال لا يسمح بذلك، فالتحدث عن الشخصية العاملية بجميع جوانبها يتطلب ولا شك بحثاً مستقلاً، بالإضافة الى أنه ربما كان لغيري ممن هم أكثر مني جدارة واختصاصاً، في المجالين الاجتماعي والفكري، أن يقوموا بهذا العمل، لذا رأيت أن أختتم هذا البحث بنظرة في الوجه العسكري، دون سواه، من الشخصية العاملية.

لم تكن القوى المسلحة في جبل عامل مختلفة عن غيرها من القوى الممثلة في الإمارات والمقاطعات في بلاد الشام، والتي كانت تشكل وفقاً لنظام الإقطاع الذي كان سائداً في ذلك الحين، إلا أنه لم يتوفر لدى مؤرخي هذه الفترة من تاريخ جبل عامل، في المجال العسكري، ولأسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا، معلومات تجعل الباحثين يحددون، بوضوح وبالتفصيل، تنظيم هذه القوى وعديدها ومستواها، وأن تجمع لديهم معلومات وافرة عن المعارك التي خاضها هذا الجبل في العهدين المعني والشهابي.

ويحدثنا بعض المؤرخين العامليين أن الأسر الإقطاعية التي كانت تحكم جبل عامل في عهد الإمارتين كانت تلتزم، مبدئياً، بما يلتزمه رجال الإقطاع تجاه السلطة المركزية من.. "تأمين الطرق وحفظ الأمن داخل المقاطعة" وأن يلبي الإقطاعي، "برجاله وفرسان مقاطعته، دعوة والي الايالة عند وقوع حرب أهلية أو دولية، ويشترك في أي معركة يوجه إليها"، ولا غرو فقد كان الشعب العاملي، كما يصفه أحد مؤرخيه "شعباً حربياً باسلاً يهزأ بالمنايا، ويرى الموت حياة خالدة تحت شفار السيوف"..

وقد اتقن العامليون بعض فنون الحرب ومارسوها ممارسة عملية، يصف لنا المؤرخ آل صفا هذا الشعب بقوله "وانصرف الشعب العاملي كله في ذاك العهد - والحديث عن العهد العثماني - لممارسة فنون الحرب وأحكام خطتي الدفاع والهجوم، وكانوا لا همّ لهم في فترات السلم إلا شحذ السيوف وتسديد المرمى والكر على ظهور الخيل يعلمونها أولادهم منذ الصغر" وأما نظام الدفاع عن البلاد "فقد كان على درجة من الرقي تدهش الباحثين" ومن فنون القتال التي اتقنها العامليون: الرمي بالبنادق، وضرب الرماح، وسرعة الالتئام والتعبئة عند إعلان النفير، والكر في الهجوم، واليقظة والحذر في الدفاع، وتحصين القلاع والحصون وشحنها بالسلاح والمقاتلين وإجادة القتال فيها.

وكان لكل مقاطعة من مقاطعات جبل عامل راية خاصة يلتئم المقاتلون حولها، إلا أن الاتحاد بين هذه المقاطعات كان تاماً ومتيناً، خصوصاً في زمن الحرب وأوقات الخطر، فإذا هوجمت إحداها "هبّت المقاطعات كلها هبّة واحدة، واتحدت كلمتهم على صد المعتدي بقوة السلاح" وكانت راياتهم من نسيج حريري أخضر وأحمر، وقد طرز عليها، بالنسيج الأبيض، آيات قرآنية وعبارات دينية مثل: "نصر من الله وفتح قريب" أو "لا إله إلا الله محمد رسول الله" أو "لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار"، وكانت راياتهم تتقدم جيوشهم في أثناء القتال.

وكان إطلاق النار هو الإشارة الرسمية للتعبئة عندهم "فإذا سمعوا طلقاً نارياً في احدى قراهم أجابوا بإطلاق الرصاص طلباً للنجدة، وتتبعهم في ذلك القرى المتصلة حتى يمتد الصوت على ما قيل من جباع في سفح لبنان الى البصة على حدود عكا".

أما أسلحة المقاتلين فكانت في معظمها البنادق والسيوف والخناجر والرماح، وكانوا يقاتلون مشاة وفرساناً، وكانوا يتحصنون في القلاع مستخدمين النار المحرقة وبعض أنواع المدافع والبنادق، وأما عدد المقاتلين في جبل عامل في ذلك الحين فلم نعرف له رقماً محدداً، وان كنا نعلم أن هذا العدد قد بلغ في عهد التحالف العاملي مع الشيخ ظاهر العمر، أي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ميلادي، نحو عشرة آلاف مقاتل.

وقد عرف العامليون صنع الذخائر، كالبارود، الذي اشتهرت بصنعه قرية "بيت ليف" العاملية.

وكان جبل عامل، منذ القدم، منطقة حصينة ومنيعة، أنشئت فيها قلاع وحصون عديدة تعهدها العامليون باستمرار، وان لم يكونوا قد بنوها بأنفسهم، ولا بد من سرد أسماء أهم هذه القلاع لإظهار مدى أهمية هذا الجبل من الوجهة العسكرية لدى جميع الفاتحين، نذكر: قلعة الشقيف الشهيرة أو شقيف أرنون، وقلعة أبي الحسن، وقلعة هونين، وقلعة شمع (بناها آل الصغير عام 1163هـ) وقلعة دوبيه، وقلعة تبنين.

يذكر، في هذا المجال البارون دي توت Baron de Tott في مذكراته التي نشرها عام 1784 بعنوان: "مذكرات عن الأتراك والتتار Mémoires sur les Turcs et les Tertares عن جبل عامل ما تعريبه: "ان القلاع التي يسكنونها - أي العامليون - تجعلهم أكثر تحفزاً للثورة، وتجعل إخضاعهم أكثر صعوبة. كل جبل عندهم حصن، وكل مالك إقطاعي كبير.. وقد اتفقوا على أن يدفعوا الضريبة السنوية للدولة، وقدرها مايتا كيس، ليتصرفوا بجبالهم وفي ظل زعمائهم".

(Tott, Memoires, T4 p122-123)

وكان العامليون يخضعون، في مجال التجنيد والتبعئة، الى النظم الإقطاعية السائدة في ذلك الحين، ولكن لم يعرف عنهم أنهم استخدموا جنوداً من المرتزقة كالسكمان وسواهم..

ومن العودة الى تقارير القناصل الفرنسيين في صيدا، في هذه الحقبة من الزمن، يمكننا أن نستنتج بعض المعلومات الهامة والمفيدة عن الوضع العسكري للعامليين في عهد الإقطاع، فقد وصف قنصل فرنسا في صيدا عام 1772 شيفالييه دي توليس Chevalier de Taulés في رسالة منه الى الدوق ديغويون Duc D'Aiguillon

وزير الدولة الفرنسية، بتاريخ 30 نيسان 1772 المقاتل العاملي بأنه "لم يكن معتاداً أبداً على البقاء طويلاً في ساحة القتال أو على خوض الحرب بعيداً عن موطنه" وذلك في مجال الحديث عن حصار علي بك المصري والشيخ ظاهر العمر ليافا في العام نفسه، إذ ترك معظم العامليين - كما يقول القنصل في الرسالة نفسها - ساحة القتال وعادوا الى قراهم. ليشيعوا أن "يافا حصن لا يؤخذ".

(Ismail, ********s, T2 p205)

ولكن ذلك لا ينفي ما قدمه العامليون من معونة عسكرية للشيخ ظاهر وحلفائه المصريين في أثناء تحالفهم معهم، إذ يذكر هذا القنصل، في مذكرة بعث بها الى حكومته بتاريخ أول أيار عام ،1772 أنه، في أثناء مهاجمة الأمير يوسف الشهابي وحلفائه العثمانيين لصيدا، في العام نفسه، بقصد تخليصها من يدي ظاهر العمر وحليفه علي بك المصري، كان العامليون على أهبة الاستعداد لأن يقدموا، لمساعدة حلفائهم الصفديين والمصريين، جيشاً يراوح عدده بين 3 و4 آلاف مقاتل ********s T2 p210 وقد بقي هذا الجيش في بقعة التجمع وعلى مقربة من ساحة القتال بناء لأوامر الشيخ ظاهر.

كما أن الشيخ ناصيف النصار قد اشترك مع قواته الى جانب الشيخ ظاهر في حصار نابلس في العام نفسه (مذكرة من القنصل نفسه بتاريخ 2 أيار 1772) ********s T2 p212.

ويقدم القنصل نفسه، في رسالة أخرى منه الى الدوق ديغويون بتاريخ 2 حزيران ،1772 شهادة جيدة بحق العامليين منوّهاً بشجاعتهم فيقول: "يستطيع المتاولة أن يقدموا ما بين 5 أو 6 آلاف مقاتل، وقد تلقوا الأوامر في جميع قراهم بأن يكونوا على أهبة الاستعداد للسير نحو العدو. انهم شجعان، وانتصاراتهم الأولى، بالإضافة الى القيادة التي تعوّدوها منذ عام - وفي هذا إشارة واضحة لقيادة الشيخ ناصيف - أعطتهم ثقة بالنفس هي بالتالي قيمة الشجاعة" إلا أنه يعود فيقول: "انهم ليسوا سوى فلاحين مسلحين لا يستطيعون ترك أرضهم طويلاً".

(********s T2 p225)

ويتحدث، في مذكرة بعث بها الى حكومته بتاريخ 27 حزيران ،1772 عن العامليين وجيشهم فيقول: "يستطيع كل شيخ من مشايخ بني عاملة أن يعد تحت السلاح من 250 الى 800 مقاتل، وهؤلاء المشايخ، مجتمعين، يمكنهم أن يعدوا جيشاً من 2500 خيال و3500 راجل" ********s T2 p253-245). كما أن تايتبوت (Taitbout قنصل فرنسا بصيدا، في معرض إجابته عن بعض الأسئلة المتعلقة بأوضاع الطوائف في هذه البلاد، عام ،1806 وصف العامليين بأنهم "جنود جيدون" Des bons soldats.

(********s T3 p52)

ويحاول المؤرخ آل صفا أن يحلل في كتابه (تاريخ جبل عامل) الشخصية العسكرية العاملية، وعلى الرغم من أنه يقع، كثيراً من الأحيان، في المبالغة، إلا أنه يظل يقدم، فيما كتب، للقارئ وللمؤرخ فائدة تذكر، فالعاملي حسب رأيه "من أسرع الشعوب لحمل السلاح" يعتني الى حد كبير بأساليب القتال فيتقنها، ويولي قلاعه عناية فائقة بقصد إعدادها للدفاع فيرممها ويحصنها ويشحنها بالأسلحة والمقاتلين، ويظل على مستوى مرموق من التنظيم، وفي حال دائمة من اليقظة والحذر، فهو مستعد دوماً "لخوض غمار المنايا والمبادرة للنجدة وحمل السلاح" لدى سماعه أول طلق ناري أو لدى أي إشارة من زعمائه وقادته. وإذا كان آل صفا قد تفرد بهذا التحليل للشخصية العسكرية العاملية، فقد وافقه عليه، الى حد كبير، الشيخ أحمد رضا، الذي ذكر، في مجال الحديث عن تضامن العامليين في الحرب، ان راعياً أطلق عياراً نارياً لصد وحش ليلاً فتجاوبت جميع القرى المتصلة بإطلاق النار، اعتقاداً منها أن عدواً يهاجم القرية "وما انجلى عمود الصبح حتى كانت الألوف ترد وتحتشد. والفرسان مهيأة للطعان".

وبعيداً عن الأسلوب العاطفي والأدبي الذي تحدث به هذان المؤرخان عن الشخصية العسكرية العاملية، نستطيع القول، في نهاية حديثنا هذا، أن العاملي ثائر بطبيعته، مقاتل بفطرته. إلا أنه كان يفتقر دائماً الى الفن العسكري المنظم، فظل، بسبب ذلك، يعتمد على شجاعته وبسالته أكثر من اعتماده على أسلوب قتالي تكتيكي محدد، اللهم سوى أسلوب "الكر والفر" الذي كان سائداً في بلادنا حينذاك، باستثناء ما كان يأتي "بداهة" و"دون أدنى حساب" باعتبار ان التكتيك العسكري هو "فن القتال، أو فن إدارة المعركة بشكل يضمن للقائد إحراز النصر".



مصادر البحث

- أخبار الأعيان في جبل عامل لطنوس الشدياق، منشورات الجامعة اللبنانية 1970.

- أوروبا ومصير الشرق العربي لجوزف حجار، المؤسسة العربية 1976.

- تاريخ جبل عامل لمحمد جابر آل صفا، دار متن اللغة - بيروت.

- البلاد العربية والدولة العثمانية لساطح الحصري، دار العلم للملايين 1965.

- للبحث عن تاريخنا في لبنان لعلي الزين، طبعة أولى 1973.

- صيدا عبر حقب التاريخ لمنير خوري، المكتب التجاري 1966.

- جبل عامل في التاريخ لمحمد تقي آل فقيه، المطبعة العلمية 1946.

- خطط جبل عامل لمحسن الأمين، طبعة 1 - 1961.

- السياسة الدولية في الشرق العربي لعادل اسماعيل، دار النشر للسياسة والتاريخ 1960.

- الغرر الحسان في تاريخ حوادث الأزمان لحيدر أحمد الشهابي، مصر 1900.

- خطط الشام لمحمد كرد علي، مطبعة المترقي دمشق 1927.

- تاريخ الأمراء الشهابيين بقلم أحد أمرائهم من وادي التيم تحقيق سليم هشي، المديرية العامة للآثار - بيروت 1971.

- تاريخ لبنان العام ليوسف مزهر - بيروت.

- مجلة العرفان لأحمد عارف الزين (اعداد متفرقة).

- أوراق لبنانية ليوسف ابراهيم يزبك، حزيران 1956.

-Les Forces armées dans les Muqata'as libanais-thése pour le Doctorat de 3e Cycle. présentèe par le Col. Y. Souèd Lyon (France 1977 Bibliothéque de L'AUB Université Libanaise e UAB).

- ********s diplomatiques et Consulaires, T1 et, 2, Adel Ismail.

- Mémoires sur les turcs et les tartares, Baron de Tott.


توقيع : *سماء العشق*
سماء العشق
آسمان عشق
Sky of love
من مواضيع : *سماء العشق* 0 الساكت عن الحق شيطان اخرس
0 حل مشكلة تشغيل Realplayer في الفايرفوكس
0 اضافة Auto Copy لعمل نسخ ولصق في الفايرفوكس
0 5 نصائح لكي تكون مدوّناً محبوباً
0 كتاب " جناية البخاري -إنقاذ الدين من إمام المحدثين" للباحث السوري زكريا اوزون
رد مع اقتباس